التفاسير

< >
عرض

وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ
١٣٢
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وأوْصَى }: بالهمزة بعدها واو ساكنة عند نافع وابن عامر، وكذا هى فى مصاحف الحجاز، والشام، وقرأ الباقون (وصى) بدون الهمزة وبفتح الواو وتشديد الصاد، والمعنى واحد، لأنهُ إن قلنا ثلاثى هذه المادة لازم فالتشديد للتعدية لا للمبالغة والتأكيد، كما أن الهمزة للتعدية، وإن قلنا إنهُ متعد فالهمزة للتأكيد والمبالغة، والتشديد كذلك، فليس كما قيل إنّ أوصى بالهمزة لا يصدق إلا بمرة ووصى بالتشديد يصدق بمرار كثيرة.
{ بِها إبْراهِيمُ بَنِيهِ }: الضمير فى قوله: { بها } عائد إلى الملة فى قوله جل وعلا:
{ { ومَنْ يَرْغبُ عَنْ ملَّة إِبراهِيم } أو إلى الكلمة هى قوله: { { أسلمت لرب العالَمِينَ } أو إلى الجملة وهى أيضاً قوله: { { أسْلمتُ لربِّ العالمين } ويرجح هذا بقربه ويكون (وصَّى) معطوف على قال، أى قال ذلك فى حق نفسه، وأوصى بنيه أن يذكروها حكاية عن أنفسهم، ويرجح الأول بكونه ظاهر التأنيث، خاليا على التأويل، وتفسير بعضهم الضمير بلا إله إلا الله، وبعضهم بالسنة الحنفية تفسير معنى لا صناعة، ويجوز عود الضمير إلى الآخرة من قوله: { { وإنه فى الآخرة لَمِنَ الصالحين } ويجوز عوده إلى الحكمة من قوله: { { ويعلمهم الكِتَابَ والحكمة } ، ويجوز عوده إلى الآيات من قوله: { { يتْلُوا عَلَيهم آياتِك } ، إما على طريق الاستخدام على أن الآيات أو الحكمة التى أوصى بها بنيه غير التى فى قوله: { يتْلُوا عليهم.. } إلخ وإما بدون استخدام، على معنى أنه أوصى بنيه بالمحافظة على آيات ذلك الرسول أو حكمته إن أدركوه ويوصون بها إن لم يدركوه، على أنه علم أن الله أجاب له دعاءه. ويجوز عود الضمير للمناسك فى قوله: { { وأرنَا مَنَاسِكنا } ويجوز عوده إلى الأمة المسلمة من قوله: { { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } وبنو إبراهيم ثمانية: إسماعيل من هاجر القبطية، وإسحاق من سارة، ومدين ومدان، ويقنان وزمران، وياشق وشوخ من قطور بنت بقطن الكنعانية، تزوجها بعد وفاة سارة، ولم يذكر بعضهم إلا مدين ومدان وإسماعيل وإسحاق أربعة، وقيل هم أربعة عشر، الثمانية المذكورة، ومادى وشرجح ونافس ويكشان وأميم ولوط، وإنما قال: { أوْصَى بها إبْراهِيم بنيه } ولم يقل أمر بها بنيه، لأن لفظ الوصية أوكد، لأن الوصية تكون عند خوف الموت، وهو أحوط ما يكون الإنسان على نفسه فى شأن ولده، وعند الأمر الشديد، ولأن الإيصاء هو التقدم إلى الغير بفعل فيه صلاح وقربة، ولأن أصله الوصل، يقال وصاه إذا وصله وقصاه إذا فصله، كأن الموصى (بكسر الصاد) يصل فعله بفعل الموصى (بفتحها) فيكون قبول الوصية أقرب من قبول الأمر، وخص بنيه لاجتماع حق الإسلام وحق القرابة فيهم، ولأنهم أئمة يقتدى بهم، والشفقة على الولد أكثر.
{ ويَعْقُوبُ }: عطف على إبراهيم والمعطوف على بنيه محذوف، أى وأوصى بها إبراهيم بنيه، ويعقوب بنيه، أو يعقوب مبتدأ وخبره محذوف أى ويعقوب كذلك، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره ويعقوب، قال: { يا بنى إن الله اصطفى.. } إلخ وقرئ يعقوب بالنصب على بنيه، فيكون ممن أوصاه إبراهيم وعلى الوجهين الأولين، يكون يعقوب موصياً كما أوصى إبراهيم أولاده، وعلى الوجه الثالث يكون قائلا لهم: { يا بنى إن الله اصطفى لكم.. } إلخ وهذا فى معنى الوصية، وبنو يعقوب اثنى عشر: روبيل ويقال روبين بالنون، وشمعون ولاوى ويهودا وزبالون ويشحر ودان وتفتال وجاد وأشر ويوسف وبنيامين، وتأتى إن شاء الله فى سورة يوسف، والألفاظ العجمية تختلف فيها الروايات، ولكثرة ولده سمى يعقوب إذ الولد يسمى عقبا، لأنه يعقب أباه، وحفظت أنهُ سمى يعقوب أنه اجتمع هو وأخوه العيص فى بطن واحد فلما كان وقت الخروج قال له العيص: تأخر أخرج قبلك وإلا خرقت بطن أمى وخرجت، وسمى العيص بمعنى التعصب أو مقلوب من العصيان، وخرج يعقوب بعده، وسمى يعقوب لأنه خرج عقبه، وقيل لأنهُ أخذ بعقب العيص.
{ يا بَنىَّ إنَّ الله اصْطفى لكُم الدِّين فَلا تَموتُنَّ إلا وأنتُم مسْلمُونَ }: هذا كلام يعقوب كما مر أن الأصل ويعقوب قال: { يا بنى إن الله اصطفى.. } إلخ فهو مقول لقول محذوف، وإذا عطفنا يعقوب على إبراهيم، أو قدرنا ويعقوب كذلك، كان هذا من كلامهما وكان محكيا بقوله: { أوصى } لتضمنه معنى قال وزيادة أعنى أن معناه قول، وكون المقول مما يهتم به، فإذا كان فيه معنى القول جازت الحكاية به، هذا قول الكوفيين كما حكى بأخبر فى قوله:

رجلان من مكة أخبرانا إنا رأينا رجلا عريانا

بكسر همزة إن فى الحكاية بأخبر كما تكسر بعد:

رجلان من مكة قالا إنا رأينا رجلا عريانا

وروى بالفتح، على تقدير أخبرانا بإنا رأينا، ويروى من ضبة ورجلان مخفف رجلان بضم الجيم، وقال البصريون ذلك مقول لقول محذوف دل عليهِ أوصى أى (قالا يا بنى.. إلخ) وذلك أن كل واحد (قال لبنيه يا بنى... إلخ) وهكذا كما وردت جملة مقولة بعد ما فيه معنى القول دون حروفه، البصريون يقدرون قولا، والكوفيون يحكونها بما فيه معنى القول.
قال ابن هشام: تحكى الجملة بالقول أو مرادفه، والمرادف نوعان ما فيه حرف تفسير كقوله:

وترمينى بالطرف أى أنت مذنب

وقولك كتبت إليه أن أفعل إذا لم تقدر الباء، والجملة فى هذا النوع مفسرة للفعل فلا موضع لها، وما ليس معه حرف تفسير نحو: { وأوصى بها إبْراهِيمُ بَنِيه ويعقُوب يا بنى إنَّ الله اصطَفى لَكُم الدين }، ونحو: { ونادَى نُوحٌ ابنَهُ وكانَ فى مَعْزلٍ يا بُنىَّ ارْكَب مَعَنا } وقراءة بعضهم: { { فدعا ربه إنّى مغْلوبٌ } بكسر الهمزة وقوله:

رجلان من مكة أخبراناإنا رأينا رجلا عريانا

روى بكسر إن، فهذه الجملة فى محل نصب اتفاقا، ثم قال البصريون النصب بقول مقدر، وقال الكوفيون: بالفعل المذكور، ويشهد البصريين التصريح بالقول فى نحو: { { ونادَى نُوحٌ ربَّه فقالَ ربِّ إنَّ ابْنِى من أَهلِى } }، { { إذْ نَادى ربّه نداءً خفيا قال ربِّ إنِّى وَهَن العَظْم منِّى } انتهى كلام ابن هشام بتصرف، وإذا نصب يعقوب عطفا على بنيه كان هذا من كلام إبراهيم محكيا بأوصى، أو يقول محذوف، والمراد بالدين دين الإسلام، أى اختاره لكم، ويجوز أن يراد الجنس أى اختاروا لكم صفوة الأديان، وتلك الصفوة غير مذكورة، وهى دين الإسلام، لكن أشار إليها بقوله: { فَلا تموتُنَّ إلا وأنتم مسْلمونَ } وظاهره النهى أن يموتوا غير مسلمين، وليس ذلك بمراد، لأن الموت ليس باختيارهم، بل المراد النهى عن أن يكونوا حال الموت غير مسلمين، والأمر بالثبات على الإسلام حتى يموتوا، وهذا كقولك: لا تصلّ إلا وأنت خاشع، لست تريد ظاهره من أنه إذا لم يكن خاشعاً فليترك الصلاة، بل تريد نهيه عن ترك الخشوع فى الصلاة، وكقولك لا أريتك ها هنا، فإن ظاهره نهى المتكلم نفسه أن يرى مخاطبه هناك، وليس مراد بل المراد نهيه عن الحضور هناك المستلزم، لأن يراه، ونكتة العدول عن مثل قولك دوموا على الإسلام ولا تكونوا حال الموت إلا عليه إلى قوله: { ولا تموتُنَّ إلاَّ وأنتم مُسْلِمونَ } إظهار أن موتهم على غير الإسلام موت غير محدود، إذ كان موت شقاوة، وأن من حق هذا الموت ألا يحل فيهم، ونظير ذلك فى الأمر: مت وأنت شهيد. لست تريد أمره بالموت، بل أمره بأن يكون على صفة الشهداء إذا مات، ومعنى قوله: { مسلمون } مؤمنون عاملون الفرائض مخلصون فيها، فالإسلام هنا بمعنى القول والعمل، وقيل معناه محسنون فى الظن بالله، كما روى البخارى ومسلم عن جابر بن عبدالله "سمعت رسول اله، صلى الله عليه وسلم، قبل موته بثلاثة أيام يقول: لا يموتَنَّ أحدكم إلا وهو محسن الظن بالله" ، والآية تتضمن التذكير بالموت بأن المرء يتحقق أنه يموت، ولا يدرى متى يموت، فلزمته المبادرة إلى ما أمر به لئلا يأتيه الموت، وهو على خلافه. وجملة أنتم مسلمون حال، والواو قبلها للحال، وروى أن اليهود ـ قبحهم الله ـ قالوا لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه باليهودية يوم مات، فنزل قوله تعالى: { أم كُنتم.. }