التفاسير

< >
عرض

وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
١٧١
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ومَثَلُ الَّذينَ كَفرُوا }: أى صفتهم الشبيهة بما يضرب مثلا للغرابة ومع من يدعوهم إلى الإيمان والإسلام، وإنما قلت كمذا لقوله:
{ كَمَثَلِ الّّذِى يَنعِقُ بما لا يَسْمع إلاَّ دعاءً ونداءً }: فإن فيه الناعق والمنعوق عليه، فالناعق هو الإنسان الذى يصوت على نحو الغنم كالراعى وما لا يسمع إلا دعاء ونداء هو المنعوق عليه من نحو الغنم، والباء بمعنى على أو للإلصاق المجازى، أو بمعنى مع، فحال المشركين المصرِّين مع من يدعوهم إلى الإيمان والإسلام كحال الراعى مع دوابه، فهم لا تؤثر فى قلوبهم ما يؤمرون به من الإيمان والإسلام، كما تسمع الدواب صوت الراعى فى غنائه وكلامه ودعائه وندائه لغيرها غير زجره لها وغير سوقه لها ولا تفهمه، وهب أنه دعاها فجاءت، وساقها فانساقت، لكن عادة فيها جارية مألوفة لها من غير أن تعتقد فى ذلك معنى، كما قد تقول لمشرك قل لا إله إلا الله محمد رسول الله وما جاء به حق، فيقول له من غير أن يفهم معناه على الحقيقة، ولا أن يعتقده، والكلام يحتاج إلى تقدير مضاف أو لا آخراً، والأصل: ومثل داعى الذين كفروا كمثل الذى ينعق، ومثل الذين كفروا كمثل بهائم الذى ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، وفاعل يسمع ضمير عائد إلى ما، ويجوز أن يكون الدعاء والنداء هما من الناعق، يدعو البهائم ويناديها فتمتثل من غير أن تعرف حقيقة الدعاء والنداء، بل تتبع ظاهر دعائه وندائه، والمشركون كذلك يتبعون ظاهر حال آباءهم جاهلين بما يترتب على اتباعهم، وبحقيقة حالهم، وإن قلت: يتعين هذا لقوله: { بما لا يسمع إلا دعاء ونداء } قلت: لا يتعين لأنك إذا تكلمت لأحد بحضرة إنسان آخر صح أن يقال تكلمت معه، أى فى حضرته، وأن يقال أوصلت صوتك بسمعه، والصقته به، وأن يقال علوته بكلامك، وهذا على أن العيق بمعنى الصوت مطلقاً، وأما على أنه بمعنى صوتهُ على البهائم فيتعير هذا الوجه إلا على المجاز من أن يطلق على مطلق الكلام مجازا، كما هو الوجه الأول الذى أشرت إليه بقولى: كما تسمع الدواب صوت الراعى فى غنائه وكلامه، ويجوز أن يكون شبه دعائهم الأصنام بالنعق على البهائم، ثم رأيته قولا لمجاهد، وهذا لا يحتاج إلى تقدير مضاف، لكن لا يساعده قوله إلا دعاءاً ونداءاً، لأن الأصنام لا تسمع الدعاء والنداء ولا غيرهما، اللهم إلا أن يجعل ذلك من الاستعارة التمثيلية، أى ومثلهم فى دعائهم الأصنام فيما لا جدوى فيه، كمثل الناعق بما لا يسمع، وزعم بعض أن الآية من الاحتباك البديعى، وأن التقدير مثل الذين كفروا معك يا محمد، كمثل الناعق مع الغنم، ويرده أن الاحتباك إن تحذف من كل طرفى كلام ما أثبت نظيره فى الآخر، وهنا حذف قولك يا محمد من طرف واحد، أثبت نظيره فى الطرف الآخر، ولم يحذف من الطرف الآخر شئ موجود فى الأول، وعن ابن عباس وعكرمة والسدى وسيبويه: أن المعنى تشبيه واعظ الكفار وداعبهم بالراعى الذى ينعق بالغنم أو الإبل، فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفقه ما يقول، أى لكن تنزجر أو تجئ بذلك الصوت إجمالا من غير أن تفهم أجزاء الكلام وحقيقته، فالنعيق بها كضرب الحجر أمامها فى أنها تنزجر به، قال الحسن: كمثل الراعى الذى يصيح بالغنم فترجع رءوسها لا تدرى ما يقول، ثم تضع رءوسها، فكذلك هم إذا دعوا إلى الهدى، واعلم أن الدعاء طلب الفعل والنداء الصوت، قاله الجوهرى، أى الصوت من حيث رفعه، فالصوت من حيث رفعه يسمى نداءاً، كما قال إن أندى الصوت أن ينادى، داعيان ومن حيث إنه فى معنى الطلب يسمى دعاء، وقال القرطبى: الدعاء للقريب، والنداء للبعيد وهو مشكل، إلا أن أراد بقوله للقريب الكناية عن كون رفع الصوت غير مراد فى مدلول الدعاء، وجملة: { مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كمثل الذى } إلخ معطوفة على جملة:
{ وإذا قيل لهم ابتعوا } وأما النعيق فقد علمت أنهُ الصوت مطلقاً، قال الزمخشرى: يقال نعق المؤذن ونعق الراعى بالضأن.
قال الأخطل:

فانعق بضأنك يا جرير فإنما منتك نفسك فى الخلاء ضلالا

وقيل مختص بقول الراعى فى البهائم، وفيه قول آخر أنه مختص بالصوت على الغنم، وليس الراعى فى تلك الأقوال قيداً، وأما الغراب فيقال نعق بالغين المعجمة غالبا، وقد يقال أيضا نعق بالمهمة.
{ صُمٌّ بكمٌ عمى }: أى هم صم بكم عمى، فالمبتدأ محذوف للعلم به، أى لا يخفى أن هذه صفات المشركين، فهذا معنى قولنا إنه مرفوع على الذم، إذ ذمهم بشهرة تلك الصفات من حيث إنها معلومة لهم، ولو لم يذكر ضميرهم أو ظاهرهم، والمعنى أنهم صم عن قبول الحق، بكم عن النطق به، عمى عن طريقه وقد مر.
{ فَهمْ لا يعْقلونَ }: لا يكتسبون لعقولهم ما ينفعهم من أمر الدين، كما لا تعقل الغنم والبهائم لتركهم التدبر بعقولهم، وإنهماكهم فى التقليد.