التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
١٩٧
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ الحجُّ أشهرٌ مَعْلومَاتٌ }: لا يخفى أن الحج ليس نفس الأشهر، فيتم الكلام بتقدير، أى الحج حج أشهر معلومات دون الحج فى غير تلك الأشهر، وقد كانوا يحرمون الحج فى غير أشهره ويقضونه فى أشهره، وكانوا أيضاً يحجون فى غير أشهره على مقتضى النسئ، فحذف المضاف آخراً، روى الربيع عن أبى عبيدة: "لما أذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يحج الوداع، وهى حجة التمام، فوقف بعرفات فقال: يا أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، فلا شهر ينسى ولا عدة تحصى، ألا وإن الحج فى ذى الحجة إلى يوم القيامة" ، أو الحج وقته أشهر معلومات أو حذف المضاف أولا وهو زمان، وناب عنه المصدر، كقولك صلاة العصر موعدنا، أى وقت العصر. قال ابن هشام: إذا احتاج الكلام إلى حذف مضاف يمكن تقديره مع أول الجزأين، ومع ثانيها، فتقديره مع الثانى أولى نحو الحج أشهر، فكون التقدير الحج حج أشهر معلومات، أو من تقدير أشهر الحج أشهر معلومات، لأنك فى الوجه الأول قدرت عند الحاجة إلى التقدير، ولأن الحذف من آخر الجملة أولى. انتهى.
وتقدم كلام فى قوله عز وجل: { ولكنّ البرَّ منْ آمن باللهِ } وهن شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذى الحجة بيوم النحر، وعنهما: شوال وذو القعدة كله، وبالرواية الأولى عن ابن عباس، يقول أبو حنيفة وقول الشافعى، وهو قول عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن الزبير والحسن وابن سيرين والشعبى والثورى، وأبو ثور، وبالراية الأولى، عن ابن عباس يقول ابن عمر وعروة بن الزبير، وعطاء وطاووس والنخعى وقتادة ومكحول والضحاك، والسدى وأحمد بن حنبل، وبالرواية الثانية عن ابن عباس يقول ابن عمر والزهرى، واحتج الشافعى بأن الحج يفوت بطلوع الفجر المنتشر الذى تحل به الصلاة من يوم النحر، والعبادات لا تفوت مع بقاء وقتها، وبأن الإحرام بالحج لا يجوز فيه، وحجة ابن عباس فى الرواية الأولى عنه أن يوم النحر هو يوم الحج الأكبر، وأن فيه طواف الإفاضة، وهو تمام أركان الحج وحجته فى الرواية الثانية عنه أن الله تعالى ذكر وقت الحج بصيغة الجمع وهو أشهر، وأقل الأشهر ثلاثة، وأن كل شهر أوله من أشهر الحج قد كان آخره كذلك، ومن قال ليلة النحر من أشهر الحج أجاز للإنسان أن يحرم فيها، ويقف بعرفات مقدار الباقيات الصالحات قبل طلوع فجر الصلاة، وأما تسمية يوم النحر وما بعده لآخر الشهر من أشهر الحج فباعتبار أنه يعمل فيها ما بقى من المناسك كالرمى والطواف والسعى، وإنما ذلك اختلاف فى تفسير أشهر الحج المذكورة فى الآية، فبعض فسرها بما يصح فيه الإحرام بالحج والوقوف، وبعض فسرها بذلك مع ما يعمل فيه ما بقى من المناسك، وإن قلت: من قال ذو الحجة كله، فلا إشكال عليه، أما القائلون ببعضه فكيف يسمى وقت الحج أشهراً مع أنه لم يتم ثلاثة أشهر؟ قلت: الذى عندى أنه لا إشكال، لأن المعنى أن الحج يعمل فى ثلاثة أشهر، لأنه إذا كان يعمل فيه بعض ذى الحجة صح أن يقال أنه عمل فى ذى الحجة، كما تقول عملت كذا فى شهر كذا، وإنما عملته فى ستة منه، ولا سيما أن ذا الحجة كله يعمل فيه باقى الحج، وأما إن يقال أطلق بعض الجمع على ما فوق الواحد مجازا أو حقيقة، فلا يصح هنا عندى لأنه ليس المراد هنا شهرين فقط، فلو قلنا بذلك لتعطلت البقية، بل لو قيل إن أشهر جمع شهر الحقيق وشهر المجاز بعلاقة البعضية أو الكلية أو علاقتهما لكان أولى من هذا الذى ذكرت أنه لا يصح، ولو كان جمع اللفظ الحقيقى والمجازى فى صيغة واحدة مرجوحاً مختلفاً فيه، وتجوز العمرة عندنا فى باقى السنة، وكره مالك العمرة فى باقى ذى الحجة، زاعماً أن وقت الحج ما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقاً، وكذلك قيل عن عمر وابن عمر وعروة أن العمرة غير مستحبة فى باقى ذى الحجة، فكأنه مخصص للحج وكان شهر حج لا غير، وكان عمر فيما قيل يصرب الناس بالدرة على العمرة فى باقيه وينهاهم، وقال ابن عمر لرجل: إن أطعتنى انتظرت حتى إذا أهللت المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة، وقالوا: لعل مذهب عروة جواز تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر، وكره أبو حنيفة الإحرام بالحج قبل شوال وأمضاه إن وقع، زاعماً أن المراد بوقته وقت أعماله ومناسكه، فأجاز الإحرام به قبل شوال دون أعماله ولا معارضة بين هذه الآية وقوله:
{ { مَوَاقيتُ للنَّاس والحجِّ } لأن المعنى أن الأهلة مواقيت للحج ولغير الحج، وهذه الآية فى الحج فقط، فهى خصوص من عموم، أو قوله: { مواقيت } يفيد بظاهره أن الأهلة كلها مواقيت للناس، وكلها مواقيت للحج، فكانت هذه تفسير أن ميقات الحج أشهر معلومات فقط، ولك أن تقول أشهر السنة مواقيت للحج بمعنى أن حساب أشهر الحج متوقف على حساب الأشهر قبلها، وذكروا أن عكرمة لقى أبا الحكم البجلى وقال: أنت رجل سوء، يقول الله { الحج أشهر معلومات }.
{ فَمَنْ فَرَض فِيهنَّ الحجَّ }: وأنت تهل بالحج فى غير أشهر الحج متوجهاً إلى خراسان وإلى كذا وكذا، قال جابر بن عبد الله: لا تهل بالحج فى غير أشهر الحج، وذكروا رجلا للحسن أنه يحرم من السنة إلى السنة. فقال: لو أدركه عمر بن الخطاب لأوجع له رأساً، والمذهب أنه لا ينعقد الإحرام بالحج قبل شوال، وكذا قال ابن عباس والشافعى وأحمد وإسحاق، لأن الله جل وعلا قال: { أشْهُرٌ معلوماتٌ }، وقال: { فمن فرض فيهن الحج } فلو كان ينعقد فى غيرهن لم يكن وجه للتخصيص، وزعم مالك والثورى وأبو حنيفة فى أى شهر من شهور السنة عقد الإحرام بالحج انعقد، وأحسن ذلك أن يكون فى أشهر الحج، ووجهه أن الإحرام إلزام الحج، فجاز تقديمه على الوقت كالنذر، وأن الله تعالى جعل الأهلة كلها مواقيت للحج بقوله:
{ { قُلْ هىَ مواقيتُ للنَّاس والحجِّ } قلنا: ليس كذلك، أما قوله تعالى { قل هى مواقيت للناس } فقد تقدم الكلام فيه، وأما كون الإحرام إلزام الحج فجاز تقديمه كالنذر، فيبحث فيه بأنه لم يخاطب بالحج قبل أشهره فلم يصح الإحرام قبلهن، كما أنه لم يخاطب بالظهر قبل الزوال، فلم تصح قبله. ولم يخاطب بصوم رمضان قبل رمضان، فلم يصح فى شعبان مثلا، وكذا سائر الفروض المؤقتة، فإنه لا يصح تقديمها إلا ما قام الدليل عى جواز تقديمه، كتقديم الزكاة لحاجة الفقراء، وبأن النذر لا يصح تقديمه على وقته فلما قدم لم يجزه معنا فرض الحج ألزمه نفسه إلزام وفاء به وإيقاع، أو جزم به بالدخول فيه، وإنما ذلك فى النية والتلبية به عندنا، لأن الحج له أول وآخر تحريم وتحليل، فلم يصح الدخول فيه بمجرد النية، كام لا يصح الدخول فى الصلاة إلا بتكبيرة الإحرام مع النية، ألا ترى كيف ورد فى الشرع قولهم: الإحرام وأحرم ومحرم، وإحلال وأحل ومحل ونحو ذلك؟ كما ورد فى الصلاة تحريمها التكبير وتحليلها التسليم؟ وزعم الشافعى ومالك: أنه ينعقد الإحرام بمجرد النية بلا تلبية، لأن فرض الحج فى قوله: { فرض فيهن الحج } عبارة عن نواه وإلزامه، وأما التلبية فتتبع. وقال أبو حنيفة: لا يصح الشروع فى الإحرام إلا بالنية والتلبية، أو بالنية وسوق الهدى، وإنما قال فرض فيهن ولم يقل فيها، لأن الأفصح فى جمع القلة، وما وافقه فى قلة العدد ذلك، ولو قال فيها لكان فصيحاً، قال أبو عثمان المازنى شيخ المبرد الجمع الكثير لما لا يعقل يأتى كالواحدة المؤنثة والقليل لبس كذلك، تقول الأجداع انكسرن والجدوع انكسرت، ويؤيد ذلك قوله تعالى: { إن عدة الشهور عند الله } إلى قوله: { منها أربعة حرم }، فلم يقل منهن، لأن الأحد عشر كتير فصاعداً، وقيل العشرة فصاعدا.
{ فَلاَ رفَثَ }: لا جماع ولا موصلا إليه من فحش الكلام، ومن نحو القبلة، قاله ابن عباس وهو أولى لعمومه، وقال: ما يكون من فحش الكلام بغيبة النساء، فليس برفث، وما كان بحضرتهن فهو رفث، ولو كن غير أزواجه. وعن ابن عباس: الرفث الجماع، وكذا قال مجاهد ومالك، وهو رواية عطاء عن ابن عباس: ولعله بعدما فسره بالجماع ظهر له زيادة دواعيه، أو أشار بالجماع إل دواعيه، فإن للوسائل حكم المقاصد، وقيل: الفحش والخناء والقول القبيح، وقيل: اللغو من الكلام، قال صلى الله عليه وسلم:
"إذا كان صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ولا يصخب" .
{ ولا فُسُوقَ }: لا معصية، وهو مصدر فسق مفرد لا جمع، فهو كالقعود، ويجوز أن يكون جمع فسق، والأول أولى، لأن ما قبله وما بعده مفرد، ولأن نفى بلا الاستغراقية كاف فى العموم وأنص فى العموم. كأنه قيل لا معصية من المعاصى، وهذا قول المحققين، قال ابن عباس: هو المعاصى، كلها، فقال هو ولم يقل هى، فدل على أنه مفرد، وفى رواية عنه هى المعاصى بالتأنيث، ولا دليل فيها على أنه جمع، لجواز أن يكون إنما قال هى باعتبار الخبر وهو المعاصى، وتفسير بالمعاصى كلها قول طاووس والحسن وسعيد بن جبير، وقتادة، والزهرى، والربيع ومحمد بن كعب القرظى، وقال ابن زيد ومالك: الفسق الذبح للأصنام كقوله تعالى: { { أو فسقا أُهلَ لغير الله به } وقيل: التنابز بالألقاب والتساب، والتحقيق عموم المعاصى لعموم اللفظ وتخصيص بعضها تحكم، وقال ابن عمر: الفسوق هو ما نهى عنه المحرم فى حال الإحرام من قتل الصيد، وتقليم الأظفار، وإلقاء النفث ونحو ذلك، وعنه صلى الله عليه وسلم: "من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" رواه البخارى ومسلم عن أبى هريرة، وسميت المعاصى وما ذكر فسقاً، لأنها خروج عن حدود الشرع وهى لغة الخروج.
{ ولاَ جِدالَ }: لا خصام مع الخدم والرفقة والمكارين وغيرهم.
{ فى الحجِّ }: قال ابن عباس وغيره: الجدال أن تمارئ مسلماً، وقال ابن زيد ومالك: الجدال أن يختلف الناس أيهم صادف موقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كما يفعلون فى الجاهلية، وقيل: إن الجدال هنا مخالفة قريش سائر العرب، فتقف بالمشعر الحرام، فنفى جواب ذلك فليقفوا كسائر العرب بعرفة، وكان بعض العرب يحج فى ذى القعدة، وبعض فى ذى الحجة وكانت قريش تقول: الصواب مع وقوفنا بالمشعر الحرام، وغيرهم يقول: الصواب مع وقوفنا بعرفة، ومن يحج فى ذى الحجة يقول: الصواب معى، ومن يحج فى ذى القعدة يقول: الصواب معى، فنزلت الآية تخبر أنه لا جدال فى الحج، وأن الأمر قد استقر على ما فعله رسول الله صلى الله عليهِ وسلم، من الوقوف بعرفة تاسع ذى الحجة، وما قاله صلى الله عليه وسلم من:
"أن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض" وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الجدال فى الحج أن يمارئ الرجل صاحبه ويخاصمه حتى يغضبه، وقيل: هو قولهم كيف نجعل حجتنا عمرة وقد سمينا الحج، حين قال لهم النبى صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع، وقد أحرموا بالحج: "اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلا من قلد الهدى" وقيل: الجدال أن يقول الرجل: الحج اليوم ويقول، الآخر: الحج غداً، أو يقول يوم كذا ويقول الآخر: الحج فى غيره، وقيل المعنى لا شك فى الحج أنه فى ذى الحجة فأبطل النسئ والله أعلم.
وفى الحج خبر للأولى والثانية والثالثة انفردت كل باسم، واشتركن فى الخبر بناءاً على جواز عمل عاملين وأكثر فى معمول واحد، إذا اتفق معنى العوامل وعملهن، وإن شئت فقدر لكل واحدة من الأولين خبراً دل عليه خبر الثالثة أو هو خبر للأولى، ويقدر للثالثة والثانية أولا الثانية والثالثة صلتان للتأكيد، ومدخولهما معطوف على مدخول الأولى والخبر للأولى، وقرأ ابن كثير وأبو عمر: ولا رفثٌ ولا فسوقٌ والتنوين قيل حملا على معنى النهى أى لا يكونن رفث ولا فسوق، وقرأ: ولا جدال بالفتح إخبار، لا خلاف ولا شك فى الحج أنه فى عرفة فى ذى الحجة، وقرئ برفع الثلاثة منونة على معنى النهى، والمرفوع مبتدأ، أو إسم لا عاملة كليس، وعملها كليس ضعيف ولا سيما إن قلنا خبرها هو قوله: { فى الحج }، والآية تحتمل عندى أوجها: الأول أن يكون لفظها إخباراً ومعناها نهيا، أى فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل فى الحج، ونكتة المجئ بها فى صورة الإخبار الإشارة إلى أن تلك الثلاثة بالغة فى القبح مبلغاً عظيماً، حتى إنها لا يرتكبها عاقل، وكأنهم زجروا عنها فازدجروا، فهو يخبر بانتفائها للانتهائهم عنها، كما تبالغ فى الطلب، فتجئ به بصورة الإخبار، كأنه مجاب، فصرت تحبر بوقوعه، تقول رحمك الله ورضى عنك، والوجه الثانى أن يكون اللفظ إخباراً بعضاً ومعنى بالنظر إلى التكليف بترك الثلاثة، أى فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج المشروع، وإن وقع ذلك فى حج فليس بالحج المأمور به، المشروع ولا ثواب فيه، فإن المشروع المأمور به مجرد عن ذلك الوجه الثالث؛ كون الأولين بمعنى النهى كالوجه الأول، والثالث إخبار بارتفاع مخالفة بعض العرب فى وقت الحج وهو ضعيف. وهذه الأوجه كلها محتملة على القراءات كلها إذ لا فرق، غير أن لا العاملة عمل إن نص فى نفى الجنس، والمهملة والعاملة عمل ليس تحتمل نفى الواحدة، وتحتمل نفى الجنس، والمتبادر نفى الجنس؛ لوقوع النكرة فى سياق السلب. ثم إن الأولى فى قوله { ولا جدال } نفى الجدال مطلقاً فى مخالفة بعض العرب، وفى أمور المناسك، وفى الأمور الشرعية، وفى كل أمر ولا حاجة إلى حصره فى ما استقرت قواعد الحج الآن على خلافه من مخالفة بعض العرب، ويناسب الوجه الأول قوله صلى الله عليه وسلم:
"الصوم جنة فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إنى أمرؤ صائم" ولكن مجرد مناسبته.
وقد جرد ابن العربى الأندلسى المالكى تلميذ الغزالى فى المسجد الحرام على الأول فى كتاب له سماه "أحكام القرآن" إذ قال: قوله تعالى: { فَلاَ رفَثَ وَلاَ فُسُوقَ }، أراد نفيه مشروعاً لا موجوداً فإنا نجد الرفث فيه ونشاهده، وخبر الله سبحانه وتعالى لا يقع بخلاف مخبره. انتهى. لكن فى عبارته اختصاراً، أراد فلا رفث ولا فسوق ولا جدال، وأراد نجد الرفث والفسوق والجدال ونشاهدها، ويحتمل الوجه الثالث، لكن لم أقتصر على قوله نجد الرفث، ولم يذكر الفسوق، وكذا حمل القفال - وهو من الشافعية - الآية على النهى إذ قال: ويدخل فى هذا النهى ما وقع من بعضهم من مجادلة النبى صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة، فشق ذلك عليهم وقالوا أنروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا، وإن قلت الفسق والجدال غير الجائز محرمان فى الحج وغيره، وكذا الرفث غير الجائز، قلت: نعم لكن ما قبح فى غير الحج كان فى الحج أقبح، لأنه عبادة مختصة خارجة عن العادة، ومقتضى الطبع، ألا ترى منع تغطية الرأس ولبس المخيط والطيب ونحو ذلك، ولأنه كالذهاب للآخرة، وكشأن مواقف الآخرة ذلك كلبس الرجل الحرير فى غير الحرب، وفى غير ضرورة فإنه قبيح، ولبسه فى الصلاة أو فى الحج قبح، وكمد الصوت فى القراءة واللفظ لزيادة التحسين حتى تخرج الحروف عن هيئتها، فإنه قبيح ولا سيما بالقرآن ولا سيما فى الصلاة.
{ وما تَفْعلُوا منْ خَير }: كالصدقة وسائر العبادات الواجبة وغير الواجبة.
{ يَعْلَمْهُ الله }: فيجازيكم عليه، فحذف الفاء ومعطوفها، أو كَنَّى بالعلم عن المجازات، لأنه سببها وملوزمها، وذلك حث فعل الخير عقب الزجر عن الشر؛ ليفعلوا الخير مكان الشر عموماً، ويحسنوا الكلام بدل الرفث، ويبروا مكان الفسق ويوافقوا على الصواب، ويتخلقوا بالصواب عوض الجدال، ويجوز أن يراد بفعل الخير: ترك الرفث والفسوق والجدال، أو ترك ذلك، والوفاء بمناسك الحج، والتعميم أولى، روى أسامة بن زيد عن النبى صلى الله عليه وسلم:
"من صنع إليه معروفاً فقال لفاعله جزاك الله خيراً فقد أبلغ فى الثناء" رواه الترمذى والنسائى وابن ماجة، ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم للأنصار حين أووه ونصروه وقاتلوا معه، وقاسموا الأموال للمهاجرين وقالوا المنة لله ورسوله علينا: "ما رأينا كالأنصار" وإن قلت: هو عالم بالخير والشر ومجاز عليهما معاً فلم ذكر الخير وحده؟ قلت: لأن المقام مقام جلب للخير بعد الزجر عن الشر، وللإشعار بأنه كريم جواد، ألا ترى أن الجواد الكريم من الناس كيف يذكر الخير ويجازى به أضعافاً ويفضى عن الشر والجزاء به.
{ وتَزَوَّدُوا }: اكتسبوا الأعمال الصالحات وتحفظوا عما يفسدها، توافوا بها القيمة كما يتحفظ الإنسان على زاده فى سفره ليلا ينقطع به.
{ فإن }: أى لأن.
{ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى }: وذلك أن الزاد نوعان: زاد المسافر فى الدنيا وزاد الآخرة وهو العمل الصالح، ولا شك أن أفضل الزادين هو زاد الآخرة لأنه الموصل للخير الدائم البالغ نهاية الكثرة والحسن، قال ابن هشام اللخمى: حدثنى خلاد بن قرة بن خالد السدوسى وغيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم، أن أعشى بنى قيس بن ثعلبة خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد الإسلام فقال يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما تناسيت قبل اليوم خلة مهددا
ولكن أرى الدهر الذى هو خائن إذا صلحت كقاى عاد فأفسدا
كهولا وشباناً فقدت وثروة فلله هذا الدهر كيف ترددا
وما زلت أبغى المال مذ أنا يافع وليدا وكهلا حين شبت وأمردا
وابتدل العيس المراقيل تعتلى مسافة ما بين النجير فصرخدا
ألا أيها السائلى أين يممت فإن لها فى أهل يثرب موعدا
فإن تسألن عنى فيارب سائل حفى عن الأعشى به حيث أصعدا
أجدت برجليها النجاء وراجعت يداها خنا فالينا غير أحردا
وفيها إذا ما هجة عجرفية إذا حلت حرباء الظهير أصيدا
وآليت لا أرثى لها من كلالة ولا من حفى حتى تلاقى محمدا
متى ما تناخى عند باب ابن هاشم تراجى وتلقى من فواضله ندا
نبى يرى ما لا ترون وذكره أغار لعمرى فى البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغب ونائل وليس عطاء اليوم مانعه غدا
أجدك لم تسع وصاة محمد نبى الإله حين أوصى وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله فترصد للأمر الذى كان أرصدا
فإباك والميتات لا تقربنها ولا تأخذن منهما حديدا لنقصدا
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
ولا تقربن حرة كان سرها عليك حراماً فانكحن أو تأبدا
وذا الرحم القربى فلا تقطعنه لعاقبة لا والأسير المقيدا
وسبح على حين العشيات والضحى ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
ولا تسخرن من بائس ذى ضرارة ولا تحسبن المال للمرء مخلدا

قال السهيلى ووقع فى رواية غير ابن هشام بعد قوله أجدت برجليها إلى آخره:

فأما إذا ما ادلحب فترى لها رقيبين نجما ولا يغيب وفرقدا

وبعد قوله نبى يرى إلى آخره:

به أنقد الله الأنام من العمى وما كان فيهم من يريع إلى الهدى

وليلة أرمد اعتماض ليلة أرمد ومهدد فعلل من المهد بأصالة الميم وزيادة الدال الآخرة إلحاقاً بجعفر لا معفل من الهدو إلا لأدغم كمرد ومفر إلا أن يقال فك ضرورة، لكن هذا خلاف الأصل ولا دليل عليه والاهية المائل العنق، يصف ناقته كأنها الجرياء المائلة مع الشمس لنشاطها، وخنفت الدابة مالت بيدها، والحرد الاعوجاج والنجير وصرخد بلدان، فمنع صرف صرخد للعلمية وتأنيت البلدة أو البقعة أو نحو ذلك، والغور ما انخفض من الأرض، والنجد ما ارتفع منها، والسر النكاح، والتأبد التعزب، يريد الترهب لأن الراهب أبدا عزب، فقيل له متأبد مشتق من لفظ الأبد، وفى رواية: وإنك لم ترصد كمن كان أرصدا، وقيل كما رواه البخارى: نزلت الآية فى ناس من اليمن يخرجون إلى الحج من غير زاد، ويقولون نحن متوكلون، ويقولون نحج بيت ربنا إلا فأطعمنا، ويكونون عيالا على الناس، فإذا قدموا مكة سألوا الناس، وربما أفضى بهم الحال إلى النهب والغصب، وعلى ذها فمعنى قوله: { تزوَّدُوا } خذوا الزاد للسفر، فيكون معنى قوله: { فإن خير الزاد التقوى } فإن أفضل الزادين زاد السفر وزاد الآخرة لهو التقوى، فإذا لم تزودوا للسفر وقعتم فى سؤال الناس، وفى أكل مال الناس بالباطل، فتخرجوا عن التقوى، أو فإن خير الزاد ما يتقى به سوال الناس، أو أكل مالهم بالباطل.
{ واتَّقُون }: خافونى خوف إجلال، أو خافوا عقابى، أو احذروه، أو اعبدونى، وأثبت أبو عمرو الياء بعد نون اتقونى فى الوصل.
{ يا أُولى الألْباب }: يا ذوى العقول، فإن اللب داع إلى التقوى، إذا عرى من شوائب الهوى، ولذلك خص أولى الألباب بهذا الخطاب.