التفاسير

< >
عرض

يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٠
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ }: تقدم إعراب هذه الجملة مستأنفة وغير مستأنفة، وعلى الاستئناف، فهو بيانى، فكأنه قيل ما حالهم مع ذلك البرق العظيم؟ فأجيب بأنه من عظمة يكاد يخطف أبصارهم او كأنه قيل ما مضرة البرق فإنه نور حسن؟ فأجيب بأنه هائل يكاد يضر أبصارهم.. هكذا أقول. وقا القاضى: كأنه جواب لمن يقول ما حالهم من تلك الصواعق؟ فأجيب بأن من أدنى مضرة البرق الهائل الذى يكاد يخطف أبصارهم، وكاد لمقاربة الخبر من الوقوع لعروض سبب الوقوع، لكن لم يقع لفقد شرط أو عروض مانع، فيخطف أبصارهم قريب الوقوع لعروض شدة البرق، لكنه لم يقع فضلا من الله تبارك وتعالى، فإذا تقدم نفى فالأصل أن يكون نفياً لمقاربة الخبر عن الوقوع، فيكون المعنى إنه لم يقرب وقوعه فضلا عن أن يقع، وتارة يكون نفياً لوقوع الخبر عن قريب فيثبت وقوعه عن بعيد، والغائب أن يكون خبرها مضارعاً تنبيهاً على أنه المقصود بالقرب مجرداً من أن، لأن أن للاستقبال المنافى للقرب، بخلاف الحال، وإذا لم يجرد فحملا على عسى لتشاركهما فى أصل المقاربة، فإن عسى إما رجاء ورجاء الشىء طلب له واستجلاب وحب لقربه، وإما توقع للمكروه، والمكروه لو كان بعيداً يخاف وقوعه ويصور بصورة القريب تحرز أو نفوراً عنه، وأيضاً المحبوب حاضر فى القلب يصور بصورة الواقع إذا اشتد حبه، والخطف الأخذ بسرعة، وقرأ مجاهد يخطف أبصارهم، بكسر الطاء، على أن ماضيه مفتوح، وقراءة السبعة وغيرهم، بالفتح، أفصح على أن ماضيه مكسور، وكسر ماضيه أفصح. وقرأ ابن مسعود يخطتف بوزن يفتعل، وقرأ الحسن يخطف، بفتح الخاء وكسر الطاء مشددة، والأصل يختطف كقراءة ابن مسعود نقلت فتحة التاء إلى الخاء وأبدلت التاء طاء وأدغمت الطاء فى الطاء، وعن الحسن أيضاً يخطف بذلك الضبط والنقل والإبدال والإدغام إلا الخاء، فإنه كسرها فى هذه الرواية إلحاقاً بالطاء بعدها فى حركتها، وهذا أولى مما قيل إن الرواية جاءت على لغة من يدغم بلا نقل، بل بسكن ويدغم، ويجيز إبقاء الساكن الأول على حاله، ويجيز تحريكه لالتقاء الساكنين، وهى لغة رديئة. وقرأ زيد بن على: يخطف بضم الياء وفتح الخاء وتشديد الطاء مكسورة. وقرأ أبى: يتخطف كقوله تعالى: { ويتخطف الناس من حولهم } لكن بالبناء للفاعل، بخلاف يتخطف الناس فإنه للمفعول، وفى تلك القراءات كلها مبالغة غير قراءة الجمهور ومجاهد، والفعل فى الجمع متعد.
{ كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْا فِيهِ }: كل ظرف زمان أساغ ظرفيتها كونها مضافة لمصدر نائب عن اسم الزمان، وما مصدرية أى كل إضاءته، أى كل زمان إضاءته، وهو متعلق بمشوا وضمير أضاء وضمير فيه عائدان إلى البرق، ويقدر مضافان فى الثانى، أى مشوا فى مطرح نوره، أو الظرفية التى أفادتها فى مجازية لا حقيقة، فلا يقدر شىء، أو يقدر واحد، أى فى نوره، وإن قدرنا هكذا فى مطرحه كانت حقيقة أيضاً، ومفعول أضاء محذوف، أى كلما أضاء لهم مومضاً أو شياشجره، أى نوره مشوا فى مطرح نوره، فالهاء عائدة إلى البرق، ويجوز عودها إلى الوضع الذى أضاء لهم المحذوف، ويجوز كونه لازماً أى كلما ظهر لهم البرق ولمع مشوا فيه، ويدل له قراءة ابن أبى عبلة: كلما أضاء لهم بترك الهمزة الأولى والهاء للبرق، ويجوز عود ضمير أضاء إلى الله على الأوجه كلها، وجملة مشوا مستأنفة أو حال من البرق أو من ضميره فى يخطف، وفيه الأوجه السابقة فى يكاد البرق.. إلخ، وعلى الاستئناف فهو يأتى كأنه قيل ما يفعلون فى حين خوف البرق وحين خفته فقال: { كُلَّمَآ أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْا فِيه }.
{ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا }: والجملة هذه معطوفة على مشوا فيه، فعلى أن الظروف والفضلات لسن من الجملة، فالمعطوف قاموا على أنها منها فالمعطوف إذا وشرطها وجوابها، فإذا تقرر هذا علمت أن جواب إذا ونحوها قد يكون له محل، ويدل على ظرفية كل مقابلته بإذا الظرفية، وإنما قال مع الإضاءة كلما، ومع الإظلام إذا، لأنهم حراص على المشى، فكلما أمكنت لهم مشية بادروها، وليس القيام عند الإظلام بهذه المنزلة، ومعنى قاموا. وقفوا وتركوا المشى، كقولك قامت السوق أى سكنت، ضد قامت بمعنى نفقت، وقولك قامت بمعنى سكنت لانتهائها، وقام الماء جمد وترك المشى الحابس، وكأنه قيل وإذا أظلم عليهم قاموا، وزعم بعض أن الإقامة عند الإظلام مراد تكريرها، وأن ترك ذكر تكريرها استغناء بذكره فى الإضاءة، أو لاستفادته من الإظلام، فإن تكرير الإضاءة لا يتحقق إلا بتكرير الإظلام، وهذا الوجهان لا حاجة إلى ذكرهما، أما الأول فلأنه لا دليل عليه، وأما الثانى فلأنه ظاهر صريح الأخذ من بعض اللغة، فلا يحسن أن يجعلا مقابلين لما ذكرته أولا ولا رادين له، فإنما ذكرته أولا هو أنه ذكر اللفظ الذى هو نص مسوق لمجرد التكرير، لأنه لا تسلم دلالتها عليه، وإذا كان المعنى عليه فالمفيد له المقام لا هى، وأظلم لازم وضميره للبرق، ويجوز كونه متعدياً فضميره للبرق، أو لله، أى أظلم الله عليهم ممشاهم، أو أظلمه عليهم البرق بسبب خفاء به، والمتعدى من ظلم بمعنى كان لا ضوء فيه، ويشهد للتعدى قراءته يزيد بن قطيب: أظلم بالبناء للمفعول ثم ظهر لى أنه يحتمل أن يكون فى قراءة لازماً كما يقال: مر يزيد فليس نصاً فى التعدى، والنائب على كل حال هو قوله { عَلَيْهِمْ } سواء كان لازماً أو متعدياً بالجواز نيابة الظرف عن فاعل متعدى إذا لم يذكر مفعوله، ويحتمل على بعد أن يكون متعدياً ونائبه ضميره عائد إلى الممشاء المدلول عليه بالمقام إذ لم يتقدم له ذكر، وجاء متعدياً فى قول حبيب بن أوس:

هما أظلما حالى ثمت أجليا ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب

فحالى مفعول أظلم، ويحتمل أيضاً كونه ظرفاً فيكون أظلم لازماً، وهو من المحدثين لا يستشهد بكلامه فى اللغة والنحو والصرف ونحو ذلك، لكنه عند قومنا ثقة من علماء العربية، فيجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، كما يقال ذلك فى سيبويه ونحوه، يقال لو لم يرووا مثل ما قالوا عن العرب ولم يستمعوا نظيره لما قالوه.
وبحث التفتازانى بأن مبنى الرواية على الوثوق والضبط، ومبنى القول على الدراية والإحاطة بالأوضاع والقوانين، والإتقان فى الأول لا يستلزم الإتقان فى الثانى، والقول بأن قوله بمنزلة نقل الحديث بالمعنى ليس بسديد، بل هو بعمل الراوى أشبه، وهو لا يوجب السماع، والمحدث بإسكان الحاء وفتح الدال الشاعر الذى أحدثه الله - جل وعلا - بعد الصدر الأول من الإسلام، كحبيب بن أوس والبحترى وأبى نواس، ولا يستشهد بكلامهم لأنهم بعد فساد الألسنة، ويقابلهم الجاهليون كامرئ القيس وزهير، والمخضرمون وهم من أدرك الجاهلية والإسلام كحسان ولبيد، والمتقدمون من أهل الإسلام كالفرزدق وجرير، ويستشهد بكلامهم، أو المحدث، بفتح الحال والدال المشددة من يلهمه ويلقى الغيب فى روعه، أعنى فى قلبه كأن أحداً يكلمهم ويخبرهم، والمحدث، بفتح الحاء وكسر الدال المشددة، من اعتنى بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من العلماء ينطق به ويعلمه الناس، وهما فى البيت عائد إلى الدهر والعقل، وحالاه حاله الدنيوى والدينى، ومعنى أجليا كشفا ومعنى عن وجه أمرد أشيب عن وجهى وأنا شاب فى السن شيخ أشيب فى تجربة الأمور، وأشيب فى غير وقت الشيب لمقاساة الشدائد، فنفى ذلك تجريد وأسند الإظلام إلى العقل والدهر، لأن العاقل لا يطيب له عيش والدهر يعادى كل فاضل. والله أعلم.
واختلف المفسرون فى المقصود فى التمثيل فى الصيب المذكور، فقال الجمهور: مثل الله سبحانه وتعالى بالصيب لما فيه من الإشكال على المنافقين من حيث إنهم فى ظلمات الكفر والمعاصى، وما فيه من الوعيد والزجر وهو الرعد، وما فيه من الحجج الباهرة هو البرق، وتخوفهم وروعهم وحذرهم وهو جعل أصابعهم فى آذانهم، وفضح نفاقهم واستشهار كفرهم، وتكاليف الشرع التى يكرهونها من نحو الجهاد والزكاة هى الصواعق، وعن ابن مسعود: أن المنافقين فى مجلس رسول الله - صل الله عليه وسلم - كانوا يجعلون اصابعهم فى آذانهم لئلا يستمعوا القرآن فيميلوا إلى الإيمان، فضرب الله المثل لهم وهو وفاق لتأويل الجمهور، وفى رواية عنه كلما صلحت أحوالهم فى زروعهم ومواشيهم وتوالت عليهم النعم قالوا: دين محمد دين مبارك، وإذا نزلت بهم مصيبة أو أصابتهم شدة سخطوا وثبتوا فى نفاقهم، وعن ابن عباس: كلما سمع المنافقون وظهرت الحجج آنسوا ومشوا معه، فإذا نزل من القرآن ما يشق عليهم قاموا، أى ثبتوا على نفاقهم، وعن مجاهد: كان المنافقون إذا أصابوا فى الإسلام رخاء طابت أنفسهم وسروا، وإذا أصابتهم شدة لم يصبروا ولم يرجوا عافيتها، وعن الحسن: البرق نور الله، وعن ابن عباس: نور القرآن وهما متقاربان أو واحد، وقيل المطر هو القرآن لأنه حياة القلوب، كما أن المطر حياة الأرض، والظلمات ما فى القرآن من ذكر الكفر والشرك والنفاق والرعد ما خوفوا به من الوعيد، وذكر النار والبرق ما فيه من الهدى، والبيان والوعد ذكر الجنة. يسدون آذانهم لئلا تميل قلوبهم إلى الإيمان، لأنه عندهم كفر والكفر موت، وقيل المطر الإسلام، والظلمات ما فيه من بلاء ومحن، والرعد ما فيه من الوعيد والمخاوف فى الآخرة، والبرق ما فيه من الوعد، يجعلون أصابعهم فى آذانهم إذا رأوا فى الإسلام شدة هربوا حذراً من الهلاك
{ والله محيط بالكافرين } لا ينفعهم الهرب { يَكَادُ البَرْقُ } دليل الإسلام يأخذ أبصارهم إلى الإسلام، ويزعجهم إلى التدبر الحق، لولا ما سبق من الشقاوة، كلما أضاء لهم تركوا بلا شىء مشوا فيه على المسالمة بإظهار كلية الإيمان، وقيل إذا نالوا غنيمة وراحة فى الإسلام ثبتوا وقالوا إنا معكم، وإذا رأوا شدة تأخروا، وقيل شبه الإيمان والقرآن وما أتى الإنسان من المعارف التى هى بسبب الحياة الأبدية، بالصيب الذى هو حياة الأرض وما اختلطت من الشبه المبطلة، واعترضت دونها من الاعتراضات المشكلة بالظلمات وما فيها من الوعد والوعيد بالرعد، وما فيها من الآيات الباهرة بالبرق، وتصاممهم عما يسمعون من الوعيد بحال من تهوله الرعد فيخاف صواعقه فيسد أذنه عنها، مع أنه لا خلاص لهم منها، وهو معنى قوله: { وَاللَّهُ مُحِيطٌ بالكَافِرِينَ } وتحركهم لما يلمع لهم من رشيد يدركونه، أو رفد تطمح إليه أبصارهم، بمشيهم فى مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم، وتحيرهم وتوقفهم فى الأمر حين تعرض لهم شبهة أو تعن لهم مصيبة بتوقفهم إذا أظلم عليهم، وقيل شبه أنفسهم بأصحاب الصيب وإيمانهم المخالط للكفر والخداع يصيب فيه ظلمات، ورعد وبرق بحيث إنه وإن كان نافعاً فى نفسه لكنه لما وجد فى هذه الصورة عاد نفعه ضراً، وشبه نفاقهم حذراً من نكايات المؤمنين وما يطرقون به من سواهم من الكرة بجعل الأصابع فى الآذان من الصواعق حذر الموت، من حيث إنه لا يرد من قدر الله شيئاً، ولا يخلص ما يريد بهم من المضار، وشبه تحيرهم لشدة الأمر وجعلهم ما يأتون وما يذرون، بأنهم كلما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة، مع خوف أن يخطف أبصارهم فخطوا خطوات يسيرة، ثم إذا خفى وفتر لمعانه بقوا متقيدين لا حراك لهم، كما شبه ذوات المنافقين بالمستوقدين، وإظهارهم الإيمان باستيقاد النار، وما انتفعوا به من حقن الدماء وسلامة الأموال والأولاد وغير ذلك، بإضاءة النار ما حول المستوقدين، وزوال ذلك عنهم على القرب بإهلاكهم وإفشاء حالهم، وإبقائهم فى الخسار الدائم والعذاب السرمدى، بإطفاء نارهم وإذهاب نورهم، وذلك تشبيه مفردات بمفردات، وتخريجها على الاستعارة المركبة التمثيلية أولى كما مر، وهى إن يشبه كيفية منتزعة من مجموع تضامت أجزاءه وتلاصقت حتى صارت شيئاً واحداً، بأخرى مثلها، ومن تشبيه مفرد بمفرد قول امرئ القيس بن حجر الكندى:

كأن قلوب الطير رطباً ويابساً لدى وكرها العناب والحشف البالى

شبه قلوب الطير الرطب بالعناب واليابسة بالحسف البالى، ومن التمثيلية قوله جل وعلا: { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا } شبه حال اليهود فى جهلهم بما معهم من التوراة بحال الحمار فى جهله ما يحمل من أسفار الحكمة.
{ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ }: هذا من تمام تهويل ذلك الصيب الممثل به بتهويل رعده وبرقه، حيث إن رعده بلغ من القوة أن يذهب بأسماعهم، وأن برقه بلغ منها أن يذهب بأبصارهم، لولا أن الله جل وعلا أبقى عليهم أسماعهم وأبصارهم، فضلا منه أو استدراجاً، ليتمادوا فى الغى والفساد فيشتد عذابهم، ولو شاء إبقاءها لذهبت، ولكنه لم يشأ فلم تذهب، لأن السبب لا يتأثر فى المسبب إلا بمشيئة الله تعالى، ومفعول شاء محذوف دل عليه الجواب، وقام مقامه، ولا يكاد يذكر بعدما وقع شرطاً لأدوات الشرط من نحو شاء وأراد وأحب، مما يدل على حب الشىء أو إرادته وتقديره، ولو شاء الله ذهاباً بسمعهم وأبصارهم لذهب بها ولما حذف من الشرط هو ومتعلقه ذكر منه الفعل فى الجواب وأظهر متعلقه، ولم يؤت به ضميراً وهكذا تقدر أبدا من لفظ الجواب، وإذا كان غريباً لذاته أو لمتعلقه ذكر قول أبى يعقوب الخزاعى من قصيدة يرثى بها خزيم بن عامر، وقيل يرثى بها ابنه لا خزيما:

فلو شئت أن أبكى دماً لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

فان البكاء نفسه غير غريب، ولكنه يستغرب لكونه بالدم، والمعتاد كونه بالدمع فذكر مع ما تعلق به ليتقرر فى نفس السامع ويأنس به، وقل ذكره إذا لم يستغرب كقول أبى الحسن على بن أحمد الجوهرى:

ولم يبق منى الشوق غير تفكرى فلو شئت أن أبكى بكيت تفكر

أى لو شئت البكاء الحقيقى المطلق لم يتيسر. لفناء مادة الدمع لشدة نحولى بل أجد مكان بكاء مجازياً مقيداً بالفكر. بدل الدمع الحقيقى الواقع فى الصور، فليس هذا البيت كالذى قبله لأنه ليس المراد لو شئت أن أبكى تفكراً، فليس ما فى الجواب من جنس ما فى الشرط، فضلا عن أن يدل عليه ويقوم مقامه، ويجوز أن يراد بالبكاء فى قوله: فلو شىءت أن أبكى، البكاء مطلقاً بقطع النظر عن كونه حقيقاً وكونه بكاء تفكر، وإن قلت: فلعل المعنى أن الشوق أفنانى فصرت لا أقدر على الدمع، إنما أقدر على التفكر فقط، فلو شئت أن أبكى تفكراً بكيت تفكراً، فيكون كالبيت السابق، لكن على التنازع فى تفكر. قلت: لا يخفى أن قوله: فلو شئت أن أبكى بكيت تفكراً، متفرع على قوله: ولم يبق منى الشوق غير تفكرى. وذلك الاحتمال لا يصلح على هذا التفريع؛ لأن بكاء التفكر ليس إلا إيقاع التفكر والقدرة على إيقاعه لا يتفرع على ألا يبقى فيه الشوق غير التفكر بخلاف عدم القدرة على البكاء الحقيقى، بحيث يحصل منه بدل الدمع التفكر، فإنه مما يتفرع على ألا يبقى فيه غير التفكر. والله أعلم.
ولو هذه امتناعية تدل على امتناع شرطها لامتناع جوابها، فإن الملزوم ينتفى بانتقاء لازمه، هذا مذهب ابن الحاجب، والصحيح قول الجمهور إنها تدل على امتناع جوابها لامتناع شرطها، وقيل إنها لمجرد الربط، مثل إن وغير ذلك، إنما يفيده المقام والسياق، وقد قال التفتازانى: الظاهر أن لو هنا لمجرد الشرط بمنزلة أن لا بمعناه الأصلى من انتفاء الشىء لانتفاء غيره ووافقة السيد الشريف، ثم ذكر جواز إبقائها على ما فسر به الآية أولا وقد يقصد بها استمرار الشىء فيربط بأبعد النقيضين عنه نحو: لو أهاننى لأكرمته، وقول عمر: لو لم يخف الله لم يعصه، وقرأ ابن أبى عبلة: لأذهب بأسماعهم وأبصارهم، فالباء فيها صلة للتأكيد ومدخولها مفعول به والتعدية بالهمزة لا بها بخلافها فى قراءة الجمهور، فإنها للتعدية لعدم الهمزة فيها، وإنما جعلت حرف التعدية فى قراءة ابن أبى عبلة هو الهمزة، والصلة هى الباء، لأن الأصل فى التعدية الهمزة لا الباء، ولأنها الكثير فى التعدية والباء فيها قليلة بالشبه.
{ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ }: هذا كالتصريح بأن وجود المسببات مرتبط بأسبابها واقع بقدرته تعالى، كما نسبه عليه بقوله عز وجل: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهَ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِم }، والشىء عندنا وعند قومنا: الموجود فى الحال، وما قد كان موجوداً وفنى وما سيوجد، وإنما صح إطلاقه على ما وجد وفنى أو سيوجد باعتبار وجوده الماضى أو المستقبل، والأصل ألا يطلق على ما لم يوجد ولا يوجد، سواء أكان جائز الوجود أو ممتنع الوجود، لأنه فى الأصل مصدر شاء يشاء بفتح همزة شاء، فتارة يطلق بمعنى اسم فاعل كشاءٍ بكسر الهمزة المنونة كقام اسم الفاعل شاءً بفتح الهمزة بمعنى مريد، وهمزة شاء كقاض هى الياء المبدلة ألفاً فى شاء بفتح الهمزة ويشاء، وأما همزة شاء يشاء هذين فأبدلت ياء وحذفت الياء كحذفها فى قاض، فيتناول كل مريد، ولذلك أجيب بالله - سبحانه وتعالى - يعد السؤال عنه فى قوله تبارك وتعالى:
{ قل أى شىء أكبر شهادة قل الله } وقد يطلق على ما لم يوجد لكنه جائز الوجود، وتارة بمعنى اسم مفعول كأنه قيل مشىء بفتح الميم كمبيع أو بإبدالها ياء وإدغام الياء فى الياء، وهما اسم مفعول شاء يشاء، والمراد مشىء وجوده، بفتح الميم، وما شاء الله وجوده فهو موجود باق، أو موجود ماض، أو سيوجد، وكل ذلك بحسب مشيئته تعالى، ومنه قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ } أى قدير على كل ما أراد، وذلك مذهبنا، وقيل: ويحتمل وقوعه متناولا لما يمكن وقوعه، ولو كان لم يقع، وقالت طائفة من المعتزلة: الشىء يطلق على الموجود والمعدوم والممكن، وقال جمهور المعتزلة، الشىء ما يصبح أن يوجد وهو يعلم الواجب والممكن، أو ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيعم الممتنع أيضاً فيخصون عموم الآية ونحوها بالممكن، إذا لا معنى لقولك إن الله قادر على الواجب فى حقه كوجوده علمه وسائر صفاته الذاتية، لأنه قديم. وإن قيل ذلك لا على معنى الحدوث والتجدد، فلا بأس، بل بمعنى مطلق بثبوت ذلك له تعالى، ولا معنى لقولك: إن الله قادر على المستحيل فى وصفه، فإن هذا حرام وكفر، فكأنه قال: إن الله على كل شىء مستقيم قدير، فخرج بلفظ الاستقامة المستحيل، فإنه لا يقال هو قادر عليه ولا عاجز عنه، فلا يتوهم دخوله تعالى فى عموم كل شىء، كما أن قولك: زيد أمير على الناس لا يشمل زيداً وإن كان فى جملة الناس. قال سيبويه فى باب مجاز أواخر الكلم من العربية وإنما يخرج التأنيث من التذكير، ألا ترى أن الشىء يقع على كل ما أخبر عنه، من قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى؟ والشىء مذكر وهو أعم العام، كما أن الله أخص الخاص يجرى الجسم والعرض والقديم، تقول شىء لا كالأشياء أى معلوم لا كسائر المعلومات، وعلى المعدوم والمحال، انتهى.
وورش يمكن الياء من شىء، رفعاً وجراً ونصباً، وكهيئة واو السوء وشبيهه إذا انفتح ما قبلها، وكان مع الهمزة فى كلمة إلا موئلا والموءودة، وحمزة يقف على الياء من شىء وكهيئة فى الوصل خاصة، والباقون لا يمكنون ويقفون والقدرة التمكن من إيجاد الشىء، وقيل صفة تقتضى التمكن من إيجاد الشىء وإيجاد الإنسان وغيره الشىء وهو فعله الفعل، والشىء الفعل، وإيجاد الله الشىء خلقه جسما أو عرضا، كفعل الإنسان وغيره، فإنه مخلوق الله تبارك وتعالى، وقيل قدرة الإنسان هيئة بها يتمكن من الفعل، وقدرة الله عبارة عن نفى العجز عنه، كما أن التكلم فى حقه بمعنى نفى الخرش، والقادر هو الذى إن شاء فعل وإن لم يشاء لم يفعل، القدير الفعال لما يشاء على ما يشاء ولذا قل وصف غير الله تعالى به، ولفظ القدير مأخوذ من التقدير لأن التقدير يوقف فعله على مقدار قوته وما يتميز به من العاجز، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته، وتبين بذلك أن الحادث حال حدوثه وحال بقائه مقدوران، وأن مقدور العبد مقدور لله تعالى، لأن المقدور شىء وكل شىء مقدور، والممكن مقدور ما دام ممكناً باقياً على الإمكان. قال التفتازانى: المقدور إن أريد به ما تعلقت به القدرة فلا يكون إلا موجوداً أو إن أريد ما يصلح تعلق القدرة به يكون معدوماً، وهو المعنى بقولهم إن الله - تعالى - قادر على جميع الممكنات، وأن مقدوراته غير متناهية، وعرف بعضهم القدرة بأنها الصفة المؤثرة على وفق الإرادة، وتأثيرها الإيجاد، وإن قلت على هذا كيف صح لبعض أن يقول الشىء مختص بالموجود، لأن إيجاد الموجود محال؟ قلت: المحال إيجاد الموجود بوجود سابق وهو غير لازم، واللازم إيجاد موجود وهو أثر ذلك الإيجاد وليس بمحال. والله أعلم.
ومن أراد أن يحبه أحد محبة عظيمة فيأخذ مرآة من فضة جديدة أو عاج ويكتب فى كاغد { يَكَادُ البَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } إلى قوله: { قديراً } لا قوله: { وإذا أظلم عليهم قاموا } فى يوم الجمعة فى زيادة الهلال ويأخذ نملتين من شجرة تكون الواحدة طالعة والأخرى هابطة، وما فيها ثم تجتمعان ويقفان قليلا وجه الواحدة إلى وجه الأخرى، فتجعلان داخل المرآة ويجعل عليهما الكاغد، وتتستر المرآة وما عليها، ثم يريها لمن أراد محبته، بعد أن ينظر فيها هو، فإذا نظر فيها من أراد فليأخذها منه بسرعة ويخفيها عنه، ولا يراها بعد ذلك ويسترها عنده، وقيل فى قوله: { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ }... إلخ مستأنفاً عن القصة وإن المعنى: لو شاء لذهب بسمعهم وأبصارهم الظاهرة، كما ذهب بالباطنة إذ لم يقروا ولم يوفوا، أو أقروا ولم يوفوا، أن الله قدير على ذلك وغيره لا منازع له ولا معقب لفعله، وقد تقدم ذكر الوعيد فناسبه ذكر القدرة هنا فلذا خصت بالذكر هنا.