التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ
٢٠٠
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَإذا قَضَيْتُم }: أديتم.
{ مَنَاسِكَكُم فاذكُرُوا اللّهَ كَذِكْرِكُم آبَاءَكُم }. المناسك: أفعال الحج، وقال مجاهد: إراقة الدماء، والأول أوضح كانت العرب إذا فرغوا من الحج خطب كل فريق بمحاسن آبائه وحدث بها، ويشتغِلون بذلك، ولا يكادون يذكرون سوى ذلك، يقفون بمنى بين المسجد والجبل، ويذكرون ذلك نثراً ونظما: يذكرون جودهم وشجاعتهم وغير ذلك، يقول أحدهم: كان أبى كبير الجفنة، رحب الفناء، يَقْرى الضيف، وكان كذا وكذا.
وقيل: يفعلون ذلك عند البيت، ويجمع بينهما بأنهم يفعلون ذلك فى الموضعين وذلك رياء وشهرة، وتسمع وترفع، فلما منَّ الله سبحانه عليهم بالإسلام أمرهم أن يذكروا الله ذكراً شبيها بذكرهم آباءهم فى الكثرة، هذا قول الجمهور، أى أكثروا ذكرى فأنا الذى أنعم عليكم وعلى آبائكم بذلك، وأنعم عليكم بالإسلام الذى هو أعظم من ذلك.
وروى عطاء عن ابن عباس المعنى فاذكروا الله كذكركم آباءكم حين كنتم صغاراً، لأن الصبى حين يفصح بالكلام ينطق بأبيه وأمه، ولا يعرف غير الإكثار من ذكرهما، ويلتجئ إليهما ويستغيث بهما فليلتج المكلف إلى الله كذلك، ويستغيث به ويذكره.
{ أو أشدَّ ذِكراً }: فتحة أشد نائبة عن الكسرة فهى جر، والعطف على ذكركم، أى أو كأشد ذكرا، فيقدر موصوف، أى وكذكرم أشد ذكرا فحينئذ يكون الذكر المقدر، قد أسند إليه أنه ذاكر، كما أن الإنسان ذاكر، وذلك أن تمييز اسم التفضيل فعل لموصوف اسم التفضيل، وذلك من إسناد صفة إلى شئ هو صاحب من هى له حقيقة، فهو مجاز عقلى، أو العطف على كاف ذكركم، ويقدر موصوف، والإسناد حقيقة، أى أو قوم أشد ذكراً منكم للآباء، فكأنهُ قيل، كذكركم آباءكم أو كذكر قوم أشد ذكرا، وفيه العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، والأكثر الإعادة، وقيل: يكفى عن الإعادة الفصل كما فى العطف على الضمير المرفوع، ويجوز أن تكون فتحة أشد نصبا، والعطف على آبائكم أى: أو كذكركم رجلا أسد ذكراً، أى رجلا من آبائكم ذكره يكون أكثر من ذكر غيره، على أن ذكراً مصدر من المبنى للمفعول، ويغلط كثير فى كون المصدر من المبنى للمفعول، وكونه من المبنى للفاعل، فيعد المصدر المضاف للمفعول بلا ذكر فاعل من المصادر المبنية من المبنى للمفعول، وليس كذلك، لأن الفاعل ملحوظ اللفظ حينئذ كما لحظ معناه، ويجوز أن يكون أشد حالا من ذكْرا بعّده، إذ لو تأخر لكان نعته وَذِكْرا معطوف على الكاف الأولى فى قوله: { كذكركم } على أنها اسم، أى فاذكروا الله مثل ذكركم آباءكم، أو ذكراً أشد أى اذكروا الله ذكراً مثل ذكركم آباءكم، أو ذكراً أشد أو معطوف على المنعوت المحذوف، على أن الكاف حرف، أى اذكروا الله ذكراً ثابتاً كذكركم آباءكم، أو ذكراً أشد، ويجوز كون أشد خبراً لكون محذوف، أى كونوا أشدّ ذكراً لله منكم لآبائكم، وذلك لأن الله هو المنعم عليهم وعلى آبائهم، وسئل ابن عباس عن هذه الآية فقيل له: قد يأتى على الرجل اليوم ولا يذكر أباه فقال: ليس كذلك، ولكن إن تغضب الله عز وجل إذا عصى أشد من غضبك لوالديك إذا شتم، وأو للشك باعتبار المخلوق، أى: ذكرا يظن الإنسان أهو أكثر من ذكر الآباء أو ذكر الآباء أكثر، إذا اعتبر ما بينهما، ويجوز أن تكون بمعنى بل، وقيل بمعنى الواو، والمراد من الذكر حضور القلب، فينبغى أن يكون مقصود الذاكر فيحرص على تحصيله ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه فالتدبر فى الذكر مطلوب كما هو مطلوب فى القراءة لاشتراكهما المقصود، ولهذا أكان المذهب الصحيح المختار مد الذاكر لا إله إلا الله لما فيه من التدبر، قاله النووى، تلميذ ابن مالك الذى أشار إليه فى خلاصته بقوله:

ورجل من الكرام عندنا

وذكر أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصارى الساحلى المالقى المنسوب إلى الأنصار، أنصار النبى صلى الله عليه وسلم، وإلى ساحل بحر بالأندلس، وإلى مدينة بالأندلس تسمى مالقة من أعمالها المدينة المسماة بسهيل اسم الكوكب، لأنهُ لا يرى فى الأندلس إلا من جبل مطل هناك فى كتاب الذى ألفه فى السلوك، ومنفعة الذاكر أبداً إنما هى تتبع معناه بالفكر ليقتبس الذاكر من ذكره أنوار المعرفة، ويحصل على اللب المراد ولا خير فى ذكر مع قلب غافل ساه ولا مع تضييع شئ من رسوم الشرع، قال: ولا مطمع للذاكر فى درك حقائق الذكر إلا بأعمال الفكر فيما تحت ألفاظ الذكر من المعانى، وليدفع خطرات نفسه عن باطنه راجعاً إلى مقتضى ذكره حتى يغلب معنى الذكر على قلبه، وقد آن له أن يدخل فى دائرة أهل المحاضرات انتهى.
{ فَمِن النَّاسِ مَن يَقُولُ ربَّنا آتنا فى الدُّنْيا }: الفاء للتعليل، أى اذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً، لأن من الناس من يقتصر على طلب الدنيا، أى اذكروا الله ذكرا حقيقاً لئلا تكونوا منهم، ولتكونوا من الذين يطلبون الدنيا والآخرة، أو الفاء للتفريغ فإنهم إذ كانوا قبل الإسلام يذكرون آباءهم وحى بعضهم فذكر الله مع غيره من الناس كان فريقان: فريق يطلب الدنيا وفريق يطلبها والآخرة فيجوز أن تكون للاستئناف وأن تكون فى جواب شرط محذوف، أى إذا ذكرتم الله ذكراً حقيقاً فمن الناس من يقول، ويتحصل الفريق الثانى رضى الله عنهم بكم إذا ذكرتم الله ذكراً حقيقاً، ومفعول آت الثانى محذوف، والأول هونا، أى ربنا آتنا فى الدنيا حسنة للدلالة ما بعد ذلك عليه أو حذف للتعميم فإنهم لا يقتصرون على نوع واحد من أنواع الدنيا، ولا يَنَّفِقَون على دعاء واحد، ولا يطلبون منها الكفاية مختصرة، بل يفصلون لرغبتهم فيها ففيه حذفه اختصار، ويجوز ألا يكون له مفعول ثان على طريق العرب فى عدم تعلق أغراضهم ببعض المفاعيل، والحسنة التى يطلبون فى الدنيا ما يشتهونه منها فيعطيهم منها ما قضاه فى الأزل لهم، وذلك أنهم كانوا لا يعرفون الآخرة ولا يؤمنون بالبعث، ولو آمن به بعضهم لكنه غلب عليه حب الدنيا ولم تثبت الآخرة فى قلبه، قال أبو وائل وغيره: كانت عادتهم فى الجاهلية الدعاء بمصالح الدنيا فقط إذا كانوا لا يعرفون الآخرة، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا بصيغة الخبر، وذلك حال المشركين مطلقاً.
وقيل المراد فى الآية: بيان حالهم فى الحج أنهم يسألون فيه الدنيا وحدها، وكان بعضهم يقول: اللهم اعطنا إبلا وبقراً وعبيداً وإماءً، ويقوم أحدهم فيقول: اللهم إن أبى كان عظيم الفيئة كبير الجفنة كثير المال فأعطنى مثل ما أعطيته، ومعنى كبير الجفنة أنه كثير الصدقة جواد، قال قتادة: هذا عبد نيته الدنيا لها أنفق ولها عمل ولها نصب. وروى البخارى عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"تعس عبد الدنيا وعبد الدرهم وعبد الخميصة إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" والتعس الهلاك، والخميصة ثوب من خز أو صوف فيه أعلام، والانتكاس الانقلاب على الرأس، وهو دعاء بالهلاك بالخيبة والخسران، وشيك أصابه الله بشوكة والانتقاش إخراجها.
{ وما لَه فى الآخرة مِنْ خَلاقِ }: من نصيب.