التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ
٢٠٤
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ومِنَ النَّاسِ مَن يُعْجبكَ قَوْلهُ فى الحَيَاةِ الدُّنْيا }: لفصاحته وحلاوته، ولا يعجبك فى الآخرة لما يعتريه من الدهشة وانحباس لسانه لرؤيته العقاب على عمله، أو لأنه لا يؤذن له فى الكلام، أو لمخالفة قوله لاعتقاده، ومعنى يعجبك يحسن فى قلبك ويعظم فيه، ومن الشئ العجيب الذي يعظم فى قلبك، ومنه التعجب، لأنهُ حيرة تعرض للإنسان من عظم الشئ لجهله بالسبب، وإن شئت قلت: حالة تعرض للإنسان من عظم الشئ لجهله بالسبب، وإن شئت فقل: التعجب استحسان الشئ والميل إليه والتعظيم له.
نزلت الآية فى الأخنس بن شريق الثقفى حليف بنى زهرة، وإنما سمى الأخنس لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة رجل من بنى زهرة، عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه أشار على بنى زهرة بالرجوع يوم بدر، وقال لهم: إن محمداً إبن أختكم فإن يك كاذباً كفاكموه الناس، وإن يك صادقاً كنتم أسعد الناس به، قالوا نعم ما رأيت قال: (فانى سأخنس بكم فاتبعونى، فخنس فسمى الأخنس بذلك)، وكان حلو الكلام حلو المنظر، وكان يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويجالسه ويظهر الإسلام ويقول: إنى أحبك ويحلف على ذلك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنى مجلسه وكان الأخنس منافقاً، قال السدى: نزلت فى الأخنس بن شريق، أظهر الإسلام، ثم هرب، فمر بقوم من المسلمين فأحرق لهم زرعاً وقتل حمراً، وكذا قال الطبرى والداودى أنها نزلت فى الأخنس بن شريق، وقال عياض: ما ثبت قط أن الأخنس أسلم، قلت: يحتمل أنه أراد ما ثبت عنده، ولا ينافى ثبوته عند غيره، ويحتمل أنه أراد ما ثبت أنه أسلم إسلاماً بلا نفاق، فلا ينافى أنه أسلم ونافق، فإن بعضاً يسلم ويخلص، وبعضاً يسلم وينافق، وبعضاً يسلم بلا نفاق، ثم يرتد، وقال قتادة وجماعة: نزلت الآية فى كل مبطن كفراً ونفاقاً أو كذباً أو ضراراً، ويظهر بلسانه خلاف ذلك، وكأن ألسنتهم حلوة وقلوبهم مرة كالصبر، وفى الحياة متعلق، بيعجب، كما تعلم من تفسيرى أول الآية، ويجوز تعليقه بالقول، فمعنى قوله: { فى الحياة الدنيا } يكلمه فيها أى كلامه الذى يتكلم به فى حياته، أو تكلمه فى أمور الدنيا، وأسباب المعاش، أو نكلمه فى ذم الدنيا والزهد فيها والرغبة عنها، كما هو شأن مدعى الإيمان والمحبة، وكان - لَعَنُه الله - يُلين القول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعى أنه مسلم.
{ ويُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِى قَلْبِهِ }: يقول الله شهيد أنى مؤمن فى قلبى كما فى لسانى، ويحلف على ذلك بالله تعالى، ويجوز أن يكون المعنى يشهد الله فى نفسه فى مخالفة قلبه للسانه، سمى بقاءه على النفاق إشهاد الله للتلازم، لأنه يلزم من بقائه على النفاق شهادة الله عليه به، ويحتمل أن يكون المعنى يقول لله أشهد على للعباد بما فى قلبى من النفاق، وأخبرهم به فيبعث الله منه عملا يعرفه الناس به سمى بقاءه على والنفاق وإصراره عليه طلباً لشهادة الله عليه وإخباره العباد بما فى قلبه، للتسويف التلازم الجملى وقرأ: ويشهد الله بفتح الياء والهاء، ورفع اسم الجلالة وقرأ ابن مسعود: ويستشهد الله بنصب اسم الجلالة.
{ وَهُوَ ألدُّ الخِصَامِ }: شديد الخصومة لك وللمؤمنين، لعداوته لكم رجل ألد والتدَّد ويلتدُّد شديد الخصومة، يلوى الُحْجَجَ فى كل جانب كمن يمشى فى واد منحرف، ويتبع لديد الواد إلى منحرفه وألد والتدد ويلتدد صفات متشابهات، والخصام مصدر بمعنى الخصومة، وكان خصامه جدالا بالباطل والكذب لقسوته فى المعصية يتكلم بالحكمة، ويعمل بالخطئة. روى البخارى ومسلم عن عائشة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم:
"أن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصيم" ، يعنى الشديد فى الخصومة، وقول مجاهد: ألد الخصام ظالم تفسير بالمعنى والإضافة بمعنى فى، ويجوز أن تكون من إضافة، الصفة إلى فاعلها، فالمعنى وهو خصام شديد، ويجوز أن يكون اسم تفضيل، والخصام غير مصدر، بل جمع خصم والخصم وصف، كقولك صعب وصعاب، وإن قلت: لم لا يصح أن يكون اسم تفضيل إذا جعلنا الخصام مصدراً، قلت: لأن اسم التفضيل إنما يضاف لما هو بعضه والإنسان ليس بعض الخصومة، وإن قدر مضاف صح ذلك، أى ألد ذوى الخصام، ولا يصح أن يقال: الضمير عائد إلى الخصام على معنى خصامه أشد الخصام، لأنه لم يتقدم للخصام ذكر قبله، بل يصح أن يقال الضمير لذلك المنافق كما لا يخفى ويقدر مضاف، أى خصامه أشد الخصام.