التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
٢٠٨
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يا أيُّهَا الَّذِينَ آمنُوا ادْخُلُوا فى السِّلْمِ }: بفتح السين عند نافع وابن كثير والكسائى، وبكسرها عند الباقين، وهى: الصلح ضد الحرب، فمن زاغ فى فعل أو قول أو اعتقاد عن أمر الشرع فقد حارب وخرج عن الصلح، فإن السلم: إما الصلح الذى هو ترك القتال وإثبات الأمن والعافية، وإما الصلح الذى هو الوقوف مع أحكام الشرع، والمراد هنا كلاهما أو الثانى والأول مفهوم بالأولى، فكذا الحرب هو القتال أو الخروج عن أحكام الشرع، ولذلك يطلق السلم: على الانقياد والطاعة، وعلى الإسلام، ويجوز تفسير الآية بهما من أول مرة أو بالإسلام، وقد فسره بهما الزمخشرى إذ قال: السلم بفتح السين وكسرها، وقرأ الأعمش بفتح السين واللام وهو الاستسلام لله، أى استسلموا وأطيعوه، فجعله القاضى أصلا فى الاستسلام والطاعة، فرعاً فى الصلح والإسلام.
{ كافَّةً }: خال من واو ادخلوا، أى ادخلوا فى السلم حال كونكم جماعة واحدة، لا يختلف منكم أحد، والخطاب للمؤمنين، أمرهم بالدوام على ما هم عليه وعدم خروجهم أو خروج بعضهم إلى بعض عداوة حسية، أو فتنة دين، ففيه زجر لعبد الله بن سلام عما أراده من الثبوت على بعض أحكام التوراة، لأن منهما ما نسخ بالإنجيل، وما نسخ بالقرآن، وما حرفه اليهود، وما زادوه، وفيها نقصان منهم، وما بقى سالما منها ففى التمسك به وإشهاره تدرع إلى العمل بما نسخ، وما زيد وما حرف منها، وما نقص بعضه وبقى معطلا، وإلى الإعراض عن القرآن وتركه، أو ترك بعضه، وكذا أشباه عبد الله بن سلام، فأمره الله مع جميع المؤمنين أن يتفقوا ولا يخرج بعضهم عن القرآن إلى التوراة، ولا إلى غيرها. روى أن عبد الله بن سلام استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت، وأن يقرأ من التوراة فى صلاته من الليل، ولذلك قال بعضهم كما روى ابن عباس: الخطاب لمؤمنى أهل الكتاب، فإنهم بعد إسلامهم عظموا السبت وحرموا الإبل وألبانها.
وإن قلت: كيف صح أن يكون كافة، وهو مفرد مؤنث، حالا من الواو؟ قلت: صح كافة بمعنى عامة، أو لتأويل جماعة كافة، وذلك أن العامة أو الجماعة يكف بعضها بعضاً عن التفرق، أو لأن التاء ليست للتأنيث بعد النقل من الوصفية إلى الاسمية، ورائحة الوصفية تكفى فى جواز النعت، فلا برد اعتراض أبى حيان بأن تاء كافة ليست للتأنيث، ويجوز أن يكون حالا من السلم، والسلم يؤنث ويذكر، قال العباس بن مرداس السلمى يخاطب أبا خراشة خفاف بن ندبة:

أبا خراشة أما أنت ذا نفر فإن قومى لم تأكلهم الضبع
السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جرع

الضبع: حيوان استعير اسمه للسنة المجدبة، لأنه متتابع الفساد، أى فإن قومى كثير لم تهلكهم السنون، وقال ابن الأعرابى: الضبع الحيوان حقيقة، كانوا إذا أجدبوا ضعفوا فعاثت فيهم الضباع، أى فإن قومى ليسوا ضعافاً عن الابتعاث فتعيث فيهم الضباع، وزعم الفارسى أن الضبع اسم للسنة المجدبة حقيقة لا استعارة. والسلم هو بكسر السين وفتحها والجرعة ملء الفم، كذا قيل، والصواب أنها مقدار ما يبلع من الماء دفعة، والجرع: الجماعة من ذلك، قال التبريزى يعلمه أن السلم هو فيها وادع ينال من مطالبه ما يريد فإذا جاءت الحرب قطعته عن إرادته، وقيل: أراد أن السلم تأخذ منها ما تحبه وترضاه فلا تسأم من طول زمانها، والحرب بالعكس، أو يكفيك اليسير منها المشار إليه بقوله: من أنفاسها جرع، يحرض أبا خراشة على الصلح ويثبطه عن الحرب، ومنع ابن هشام أن يكون كافة حالا من السلم، وقال: إن كافة خاص بمن يعقل، وهذا يسلم منه من جعله حالا من الواو والسلم، وقال التغليب جائز، واختاره ابن عطية، وهو ممن أخذ عن الربيع بن حبيبرحمه الله ، ثم نهاه أصحابنا رحمهم الله أن يقبله، فرده فرجع حزينا باكياً يقول: ما أظن الربيع فى فضله يقبل فى كلام أحد، ويجوز أن يكون الخطاب للمنافقين، أى استسلموا لله وأطيعوه جملة ظاهراً وباطناً، ويجوز أن يكون الخطاب لكفار أهل الكتاب، أى ادخلوا فى الشرع كله بالإيمان لا تؤمنوا ببعض كتب الله وبعض أنبيائه، وتكفروا ببعض، فإذا رأيتم التعميم على أحد الأقوال فى أمر الدين لا فى المخاطبين، فالحال من السلم، وروى جابر ابن عبد الله: "أن عمر أتى إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود وتعجبنا أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى لقد جئتكم بها بيضاء نقية لو كان عيسى حيا ما وسعه إلا الاتباع قلت: أى لو كان حيا فى الأرض لأنه حى فى السماء" ، والذى عندى أن هذا غلط من كتاب الحديث، وإنما الرواية: لو كان موسى حيا لأنه أنسب للتوراة، ولأنه مات، ومعنى متهوكون أنتم أمتحيرون أنتم فى دينكم حتى تأخذوه من اليهود والنصارى، والضمير فى قوله: بها، للملة الحنيفية، وبيضاء نقية طاهرة لا إشكال ولا خفاء فيها، يحتاج إلى زواله بشئ، وعن حذيفة بن اليمانى: فى هذه الآية للإسلام ثمانية أسهم: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والعمرة، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وقد خاب من لا سهم له أى خاب من فاته سهم واحد من هذه الأسهم وأتى بالباقى، يشير إلى أن السلم هو هذه الثمانية فإنها إسلام.
{ ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيطان }: آثاره فى التفرق عن الإسلام وأمره، والتفريق بين شئ وآخر فى الإيمان، وترك الآخر وتحريم ما حل كما حرمت اليهود لحوم الإبل ولو بعد نزول القرآن، وكما حرمت العرب البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى، وقيل: لا تلتفتوا إلى الشبهات التى يلقى إليكم الشيطان، والشيطان مراد به شيطان الجن أو شيطان الإنس أو كلاهما، والمراد على كل وجه جنس الشيطان لا الشيطان الواحد، والوجه المتبادر أن المراد جنس شياطين الجن، لأن المعتاد الغالب استعمال الشيطان فى شيطان الجن، ولأنه الذى شهر فى مثله قوله تعالى:
{ إنَّهُ لكُم عَدوٌّ مُبينٌ }: ظاهر العداوة وأصل العدو أن يقع على المفرد، لكنه يستعمل فى المفرد والاثنين والجماعة.