التفاسير

< >
عرض

زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَٱللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٢١٢
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ زُيِّن للَّذِينَ كَفَرُوا الحَياة الدُّنْيا }: أى زين لهم الشيطان الحياة الدنيا بوسوسته لهم فى إغرائهم بها وتصويرها فى غير صورتها، فأعرضوا عن دين الله وأهلكوا بها، ويجوز أن يكون المعنى زينها الله جل وعلا لهم، بمعنى أنه خذلهم لسؤ اختيارهم، فأحبوها وأكبوا عليها، ويجوز أن يكون التزيين من الشيطان والعياذ بالله تعالى منه، ولكنه نسبه الله إلى نفسه، لأنه مهل الكفار فى تزيين الشطان لهم، ويجوز أن يكون من الشيطان، ونسبة الله لنفسه لأنه أمهل الشيطان فى تزيينه لهم، ويدل لهذه الأوجه الثلاثة قراءة بعضهم { زَيَّن للذينَ كَفَرُوا الحْيَاةُ الدُّنَيا } ببناء زين للفاعل ونصب الحياة الدنيا، والله سبحانه أيضاً خالق لتزيين الشيطان، وخالق لميل النفس إلى الأمور البهية، والأشياء الشهية، والقوة الحيوانية، وهذه الأمور التى فيها وفى غيرها مزية هى والشيطان للإكباب عليها بالعرض، والله مزين بالذات، لأنه الخالق لكل شئ، والمزين الشيطان وغواة الإنس يقولون لهم: لا بعث، فيكبون على الدنيا، والذين كفروا كفار قريش وغيرهم، كأبى جهل وأصحابه، كانوا ينكرون البعث ويتنعمون بالدنيا، وقيل المنافقون عبد الله بن أبى وأصحابه، وقيل اليهود، وعبر بالماضى فى التزيين للفراغ منه، وعبر بالمضارع فى السخرية للحال والتجدد فى قوله:
{ ويَسْخرُونَ مِنَ الَّذين آمنُوا }: فقراء المؤمنين: كبلال وعمار وصهيب وابن مسعود، أو من المؤمنين مطلقاً ولو أغنياء، يقولون: انظروا إلى هؤلاء الفقراء تركوا ما ينتفعون به من الدنيا طمعاً فى دار يزعمون أنها العقبى، ولو أشركوا لانتفعوا بكل ما يحرم عليهم دينهم، أو إلى هؤلاء المؤمنين مطلقاً كيف تركوا ذلك، وكيف تركوا الشهوات الحاضرة لعاقبة يزعمون أنها كائنة بعد، ولا بد، وكيف أتعبوا أنفسهم بدين لم يلفوا عليه آباءهم، والحاصل أنهم يستعلون عليهم بالمال، وترك أتباع دين غير مألوف لهم، وادعاء دار غائبة، وقيل يقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يقولون محمد إنه يغلب بهم، ومن للابتداء إذ السخرية متصورة بالمؤمنين إذ فعلوا ما يسخر منهم به الكفار، فسبب السخرية ناشئ من المؤمنين، إذ فعلوا موجبها أو بمعنى على.
{ والَّذينَ اتَّقَوْا }: هم الذين آمنوا المذكورون لك، ذكرهم بالتقوى الحاصلة فيهم، ليشعر بأن سبب كونهم فوق الذين كفروا فى الآخرة هو التقوى لا مجرد الإيمان، فذلك ترغيب فى التقوى، وزجر لمن يغتر بمجرد الإيمان من أصحاب الكبائر، وإن شئت فقدر: والذين اتقوا الشرك، وهم هؤلاء الذين آمنوا يسخر منهم الكفار، وهم مستجمعون فى نفس الأمر للإيمان وترك المعاصى.
{ فَوْقَهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ }: لأنهم فى عليين فوق السماء السابعة، والكفار فى سجين أسفل الأرضين، وهذا علو محس فيه علو شأن، أو لأنهم فى كرامة،والكفار فى هوان، وهذا علو معقول صاحبه فى نفس الأمر علو محس، وكذا إن قلنا: هم غالبون على الكفار متطاولون عليهم، يضحكون منهم كما ضحك الكفار منهم فى الدنيا، وهذا قول الحسن. قال الله تعالى:
{ إنَّ الَّذِينَ أجْرَموا كانْوا مِنَ الَّذِينَ آمنَوُا يَضْحَكُون } وقال: { فاليْومَ الذينَ آمنَوُا مِنَ الكُفَّارِ يَضْحَكُون } ويجوز أن يكون المعنى نعيم الذين اتقوا فى الآخرة فوق نعيم الكفار فى الدنيا، والفوقية حقيقة فى الوجه الأول مجازية فى غيره، متعلق بما تعلق به فوق من نحو ثابتون، أو ثبتوا، ومن أراد ذلك الخير فليقتد برسول الله صلى الله عليه وسلم فى رفض الدنيا وجاهها ومالها وملاذها، واقتصاره منها لنفسه وعياله على ما تدعو الضرورة إليه، فهو يشتمل ويكتسى بالخشن، وقد أجيبت إليه الأخماس، وأهدت إيله الملوك وأغنى بذلك غيره وقوى به المسلمين، ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة فى نفقة عياله.
قال حارثة بن وهب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"ألا أخبركم بأهل الجنة كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار كل عتل جواظ جعظرى مستكبر" العتل: الفظ الغليظ الشديد فى الخصومة الذى لا ينقاد لخير، والجواظ: الفاجر المختال فى مشيه، وقيل القصير البطن، والجعظرى: من يمتدح بما ليس فيه، أو عنده. وعن أسامة بن زيد، عن النبى صلى الله عليه وسلم: "قمت على باب الجنة فاذا عامة من دخلها المساكين وأصحاب الْجَدُ محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار، وأقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء" . والجد - بفتح الجيم - كثرة المال.
{ وَالله يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَير حِسابٍ }: بغير تضييق فى الرزق، كما يحاسب صاحبه من يضايق عليه فى أمر، والمراد والله أعلم أن يوسع على المؤمنين بالجنة فى الآخرة، وبأن يورثهم أموال الكفار الذين يسخرون منهم فى الدنيا، ويملكهم أيضاً رقابهم بالأسر والفداء والاستعباد، ويجوز أن يريد أنه يوسع الرزق على من يشاء من الكفار استدراجاً وجزاءً فى الدنيا على ما عملوا، من نحو صلة الرحم وإغاثة الملهوف، وعلى من يشاء من المؤمنين لطفاً ورحمة بهم، ويجوز أن يريد الكفار، لأنهم فاخروا بأموالهم، فأخبرنا الله أنه يرزق من يشاء من الكفار رزقاً واسعاً، وذلك استدراج، ولو كان المال كرامة لأعطاه المؤمنين خاصة، ولم يعطه قارون المخسوف به وبماله، وليس توسيع الرزق ينقص مما عند الله، كما ينقص ما فى يد العباد المتحاسبين ولا يخلو مخلوق من حساب فيما يعطى، ولو فاق جوده جود خاتم، وعن ابن عباس معناه: يعطيه كثيراً وما يدخله الحساب قليل، وذلك فى الدنيا، وقيل بغير أن يحاسبه فى الآخرة بما أعطاه فى الدنيا، وقيل من حيث لا يحتسب وقيل من غير أن نفرق بين المستحق وغيره، وقيل بدون حساب من يخاف النفاد، لأن خزائنه لا تنفد، وقيل من غير أن يحاسبه أحد لم أعطيت هذا وحرمت ذاك، ولم أعطيت هذا ما لا يحتاج إليه وحرمت ذاك ما يحتاج، وقيل يعطيهم فى الجنة قدر أعمالهم ثم يتفضل، والتفضل هو الذى بغير حساب، إذ لم يعتبر فيه ما فى أجر العمل مما يستحق العمل.