التفاسير

< >
عرض

كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ
٢١٦
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ كُتِبَ عَليْكُم القِتالُ }: هو محكم ناسخ لترك قتال المشركين، وقيل منسوخ بقوله: { وما كان المؤمنون لِينَفِروا كافّة } وقيل ناسخ لترك القتال منسوخ لعموم بقوله: { وما كان المؤمنون } الآية.
{ وهُو كُرْهٌ لكُمْ }: أى مكروه فى نفوسكم طبعاً للموت به والمشقة فيه فكرهٌ: مصدر بمعنى مفعول أخبر به عن ضمير القتال، أو مجازاً كالخبرية عن المجوز مبالغة كأن القتال فى نفسه كراهة لفرط كراهتهم له، وقرأ السملى بفتح كافه على أنه لغة فى المضموم كالضعف والضعف، ويجوز أن يكون بمعنى الإكراه مجازاً، إطلاقاً للإكراه على المكره عليه، وهذا أنسب بقراءة الفتح، نقل الجوهرى عن الفراء أن الكره بالضم المشقة، وبالفتح الإجبار، وذلك على أن الضمير للقتال، ويجوز عوده إلى الكتب المعلوم من كتب، لأن إيجاب الحكم إجبار عليه، لكن لم يلتفت إلى هذا أحد من المفسرين، لأنه لا يلائمة قوله تعالى:
{ وَعَسَى أنْ تَكْرهُوا شَيْئا وَهُو خَيْرٌ لَكُمْ }: لأن الملائم لذلك أن يعنى تكرهوا للمفعول، بخلاف ما إذا كان الكره مبالغة، أو بمعنى المكروه فانه يلائم البناء للفاعل، أى عسى أن تكرهوا بالطبع ما أمرتم به أمر وجوب كالقتال أو غير وجوب، وهو منفعة لكم فى الدنيا والآخرة، وزعم بعض أن قوله: { وهو كره لكم } بقوله: { وقالوا سمعنا وأطعنا }، وهذا إنما يتم لو كان كراهتهم امتناعاً ثم زال امتناعهم.
{ وَعَسَى أنْ تُحبُّوا }: بالطبع شيئاً وهو ما نهيتكم عنه تحريماً أو تنزيهاً وهو شر مضره لكم فى الدنيا والآخرة، ومن ذلك القتال، فإنه مكروه فى النفس وفيه الغنيمة والطهارة من الذنوب، وموت الشهادة والثواب والغلبة والعز، والنفس تحب تركه، وفى تركه الذل، وعدم ما ذكر. قال الحسن: إذا أتيت ما أمر الله سبحانه وتعالى به من طاعته فهو خير لك، وإذا كرهت ما نهاك الله عنه من معصية فهو خير لك، فإذا أصبت ما نهاك الله عنه من معصية فهو شر لك، وإذا كرهت ما أمر الله به من طاعة فهو شر لك، وهذه الآية ناسخة لكل نهى عن القتال.
وزعم الكلبى أنه كان الجهاد فريضة، فلم يقبض رسول الله حتى أظهر الله الإسلام، وصار الجهاد تطوعاً ناسخاً بقوله:
{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة } فإن جاء المسلمين عدو لا طاقة لهم به تحيزوا إلى البصرة، وكان الكلبى بالبصرة، فإن جاءهم عدو لا يطاق تحيزوا إلى الشام، وإن جاء عدو لا يطاق تحيزوا إلى المدينة، ولا تحيزوا بعد ذلك، وصار الجهاد فريضة، ويرى الكلبى الجهاد فرضاً كلما كان الإسلام يهون بتركه، إذا ولم يحتج الإمام إلى الناس كلهم جاز لمن يقعد أن يقعد إن تركه الإمام، ولم يكن فى قعوده خذلان للإسلام، ويهرب الواحد لثلاثة إن شاء، وعن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجهاد واجب عليكم مع كل أمير بَراً كان أو فاجراً" وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا" وينسب الجمهور الأمة أن الجهاد فرض كفاية، واختير قال الزهرى: يكتب الله القتال على الناس، جاهدوا أو لم يجاهدوا، ومن غزا فنعماً هو، ومن قعد فهو عدة إن استعين به أعان، وإن استنفر نفر، وإن استغنى عنه قعد، قال الله تعالى: { فَضَّل اللّهُ المْجاهِدِينَ بأموالِهمْ وَأنفسِهمْ } الآية، ولو كان القاعد تاركاً للفرض لم يعده بالحسنى، وزعم عطاء والثورى والأوزاعى أن الجهاد تطوع، وأنه فرض على الصحابة وحدهم، فى هذه الآية، وأنهم قد أدوا الفرض بمرة واحدة، وعلى غيرهم تطوع، وسئل بعض السلف أيام التتر إذا دخلوا دجلة: إن لى والدة أفأخرج إلى قتالهم؟ فقال: كنا نقول إذا هجم عليك العدو فقد وجب عليك القتال، وعسى للتخفيف أو التخويف أو الترجية، وإنما قرن الكلام بها مع أن حب المنهى عنه وكراهة المأمور به أمره مقرر تحقيقاً لجوابها، وتخويفاً وترجية، أعنى بجوابها قوله: { وهو شر }، { وهو خير } وذلك حال نفوس أكثر المؤمنين، وحال القليل منهم بغض اللذيذ المنهى عنه، وحب الشاق المأمور به، مناسب أيضاً لهذا لفظ عسى الذى أصله عدم القطع بأن حملهم على أن يرجو كره اللذيذ المنهى عنه، ويحب الشاق المأمور به، وليس كراهة الشاق المأمور به، وحب اللذيذ المنهى عنه منافياً للإيمان، لأنهما بالطبع يحققان أمر الإيمان بأن التكليف إلزام ما فيه المشقة، ومدار الإسلام على مخالفة الهوى، واختيار جانب المولى، وقد ورد: "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات" والمنافى للإيمان هو كراهة الاعتقاد، وهى صفة المنافقين.
{ واللّهُ يَعْلَمُ }: ما هو خير لكم كالغنيمة والأجر.
{ وأنْتُم لا تعْلَمُونَ }: ذلك فبادروا إلى ما اختاره الله لكم فعلم وتعلم من معنى العرفان متعديان لواحد، والمشهور أنه لا يجوز على الله العرفان لأنه مختص بالعلم الحادث فيما قبله، وفى أثر بعض أصحابنا يجوز على الله عرف ويعرف، وعن الكلبى: الله يعلم من يقاتل فى سبيل الله فيستشهد.