التفاسير

< >
عرض

وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
٢٣٥
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ }: أيها الرجال المريدون للتزوج.
{ فِيما عَرَّضْتُم بهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ }: التعريض إلقاء المقصود فى وهم السامع، أعنى فى قلبه بلفظ لم يوضع لذلك المقصود حقيقة ولا مجازا، واختصار هذا أن نقول إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة ولا مجازا، كقول الفقير أنا ذو عيال أو منذ يوم ما ذقت طعاما، أو القمر شبيه بالرغيف ونحو ذلك مما يصلح للمقصود وغيره، لكن دلالته بجانب المقصود أتم وأرجح، ويسمى التعريض تلويحاً، لأنه يلوح بالمقصود، ففى معنى الآية يقول مريد: تتزوج امرأة ما أحسن ثيابك، أو ليتنى وجدت مثلك، أو أنى أريد بالتزوج، أو أنك جميلة أو صالحة، أو من غرضى التزوج، أو أنى فيك لراغب، أو عسى الله أن ييسر لى امرأة صالحة، ونحو ذلك ما ليس تصرحياً بالتزوج، كما قيل فى حد التعريض الإشارة إلى الشئ بما يفهم السامع مقصوده بلا تصريح به، وكما قيل ما له من الكلام ظاهر وباطن وأريد الباطن، وهذا ضعيف لأنه يشمل الكناية والمجاز، وماله ظاهر وباطن، وأريد الباطن، وهذا ضعيف لأنه يشمل الكناية والمجاز، وماله ظاهر باطن، وأريد ظاهره، والكناية الدلالة على الشئ يلازمه، وتطلق أيضا على اللفظ الدال على المراد بذكر لازمه. كطويل النجاد، كناية على طول القامة، لأن من طالت قامته يناسب طول النجاد، وهو علاقة السيف، والخطبة بكسر الخاء طلب المرأة للتزوج: واشتقاقه من الخطب بمعنى الشأن، يقال ما خطبك؟ أى ما شأنك؟ فيقال خطب المرأة أى سألها فى نفسها شأنا، أو من الخطب الذى بمعنى الكلام: يقال خطبها أى تكلم لها فى أمر النكاح، والخطب الأمر العظيم، لأنه يحتاج فيه إلى خطاب كثير، الخطبة بالضم الزجر والوعظ، و { من خطبة النساء } حال من ما أو من الهاء فى به، ومن للبيان، أى وهو خطبة النساء، وذاك جنس، أو للتبعيض أى بعض خطبتهن، وذلك إفراد وأل فى النساء للعهد الذكرى، والمراد النساء المعتدات، أعنى اللاتى فى العدة لم يخرجن منها، وهى عدة الوفاء لأنهن المذكورات عقب:
{ والذين يتوفون منكم } والظاهر أن التى حرمت على زوجها أبدا، والتى طلقها ثلاثا يجوز أيضا التعريض لهما فى العدة، وكذا التى لا تصح رجعتها، بل تجديد النكاح كالمنفسخة لعنة أو عيبا لأنهن ليس فى نكاح، وأما التى تصح رجعتها، ولكن لا يملكها زوجها إلا برضاها، فقيل كذلك، وقيل: لا يجوز وهو الصحيح، وفى الحوطة، وقيل لا يجوز التعريض إلا المتوفى عنها، لأنه ورد فى المتوفى عنها قيل، ولأنهن يعتددن بالأقراء فلعلهن كَذَبن فى انقضآء العدة رغبة فى الخطاب بتعريض. وأما المطلقة رجعياً يملكه زوجها فيحرم التعريض لها، وإذا لم تجز الرجعة أو جازت برضاها فقط فلزوجها التعريض والتصريح، وأما التى خرجت من العدة أو من لم تتزوج فتخطب تعريضا أو تصريحا إلا أن سبقه غيره فى خطبتها فلا حتى ترده تصريحا، وإن سكتت فلا يخطبها لأن السكوت لا يدل على الرضا جزما، ولا على الكراهة، وقد تحقق أن الأول خطبها فلا يدخل هو فى الخطبة إلا على علم بحال جوازها له، وهو غير عالم لعل سكوتها لم ترد به الرد، هذا ما ظهر لى وبه قال مالك والشافعى فى قديمه، وقال فى الجديد: لأن السكوت لا يدل على الرضا، وفيه أنه لا يدل أيضا على الكراهة، وفسر ابن عباس التعريض بأن يقول: أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتى ولوددت أنه يسرت إلى امرأة صالحة، وعن مجاهد: التعريض أن يقول لها إنك فى نفسى، وما يقدر من أمر يكون، وقال الحسن: أن يقول احبسى نفسك على فإنى أفعل بك كذا وكذا وأهدفك كذا وكذا، وروى بن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان عن خالتة سكينة ابنة حنطلة أنها قالت: دخل على أبو جعفر محمد بن على الباقر فى عدتى فقال: قد علمت قرابتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق جدى على بن أبى طالب، وقدامى فى الإسلام، فقلت: غفر الله لك أتخطبنى فى عدتى، وأنت يؤخذ عنك العلم. فقال: أوقد فعلت، أى بكسر التاء أى أوقد نسبتنى إلى السفه إنما أخبرتك بقرابتى من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضعى، قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، وهى فى عدة زوجها أبى سلمة، فذكر لها منزلته عند الله عز وجل، وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير فى يده من شدة تحامله عليها فما كانت تلك خطبة يعنى يد نفسه صلى الله عليه وسلم.
{ أو أكْننتُم فى أنْفُسِكُمْ }: أضمرتم فى قلوبكم ما أردتم من تزوجهن لم تصرحوا ولم تعرضوا فمفعول { أكننتم } مقدر، كما رأيت ويجوز تقديره ضميرا عائداً إلى ما فى قوله فيما عرضتم به أو كنتموه والاكنان الاخفاء فى النفس، ولكن الإخفاء فى غيره كالإخفاء فى البيت أو فى الوعاء أو غير ذلك كما قال هنا فى الأنفس: { أكننتم } وفى قوله: { وما تكن صدورهم }، وهو مضارع أكن ومصدره إكنان، وقال فى الإخفاء فى غير النفس:
{ بيض مكنون } وهو اسم مفعول الثلاثى وقال أبو زيد: هما سواء النفس وغيرها، وقيل معنى الإكنان أن يدخل ويسلم ويهدى إن شاء بلا كلام.
{ عَلِمَ اللّهُ أنَّكُم سَتَذْكُرونَهنَّ }: فى قلوبكم، ولا بد لأن الرجل لا يخلو من اشتهاء المرأة ضرورة، فأسقط الله عنه الحرج، لما يكون فى قلبه من اشتهائها، وعلم الله أنكم كنتم ستذكرونهن بألسنتكم أيضا، فأباح ذلك لهم بلا تصريح بخطبة، وقال الحسن: علم الله أنكم ستخطبونهن بعد انقضاء العدة بالتصريح، أى علم الله أن فى قلوبكم ذكرهن، فأخروا التصريح به إلى انقضاء العدة، وفى الآية نوع توبيخ كقوله تعالى:
{ علم الله أنكُم كنتم تختانون أنفسكم } }. { ولكِنْ لاَ تُواعِدُوهُنَّ سِرّاً }: أى فاذكروهن بألسنتكم،لكن لا تواعدوهن نكاحاً وجماعاً، فإن لفظ السر موضع للخفاء، واستعمل بمعنى الوطء كناية، لأن الخفاء لازم للوطء، لأن الوطء يكون فى خفاء، ثم استعمل لفظ السر المكنى به عن الوطء فى معنى عقدة النكاح، فهو مجاز مبنى على كناية وعلاقة هذا المجاز السببيه أو المسببية أو هما، لأن عقد النكاح سبب للوطء وذلك أنه كان الرجل يقول: لا تفوتينى بنفسك فإنى ناكحك، كما قال مجاهد، وقيل ذلك أن يأخذ العهد والميثاق عليها ألا تتزوج غيره، وقيل أن يخطبها فى العدة، والسر فى ذلك كله التزوج وهو أولى، يكون أول الآية تعريضا للنكاح وآخرها منعا للتصريح به، وأما إذا فسرنا السر بالجماع وهو الوطء الحرام كما قال الحسن فكناية وسرا على الوجهين مفعول ثان لتواعد، ويجوز أن يكون سرا مصدرا منصوبا على الظرفية الزمانية، أى فى سر، أى فى وقت سرا أو منصوبا على نزع الخافط وهو فى، وعلى هذين الوجهين المفعول محذوف، أى لا تواعدوهن نكاحاً أو وطأ فى سر، وهذه المواعدة محرمة جهرا أيضا ولكن لما كانت تقع فى خفاء بأنهم لا يجهرون بمواعدة التزوج ولا بالوطء الحرام فهو عن عين ما يفعلونه وهو المواعدة بذلك فى السر، وأيضا إذا حرم فى السر فأولى أن يجرم فى الجهر، قيل كان الرجل يدخل على المرأة بعرض بالنكاح، ومراده الزنى ويقول دعينى، فإذا أوفيت عدتك أظهرت نكاحك فنهو عن ذلك، وقال الكلبى لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع
{ إلاَّ أنّ تَقُولُوا قَوْلا مَّعْروفاً }: استثناء متصلا مفرع مفعول مطلق، والناصب فيه هو قوله: تواعد، لكن المستثنى منه محذوف أى لا تواعدوهن مواعدة قولكم إلا قولا معروفا إلا مواعدة معروفة، أو يقدر إلا مواعدة بقولكم قولا معروفا، وهى أنَ يتعرض بالتزوج ولا يصرحوا به، ويجوز أن يكون تفريقاً بحرف جر محذوف، أى لا تواعدوهن إلا بقولكم قولا معروفاً وهو التعريض فقط وقبل القول المعروف، أى يعلم وليها أنه راغب فى نكاحها وإنما لم أجعل أن تقولوا مفعولا ثانيا لتواعد لأنه قد أستوفا مفعولية الهاء سراً، أو الهاء ومحذوفا، وأما إن جعلنا سرا ظرفا أو مقدراً بقى ولم تقدر مفعولا آخر فيصح أن يكون أن تقولوا مفعولا ثانيا، أى لتواعدوهن فى السر إلا قولكم قولا معرفا، أى إلا مقولا معروفا، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً، والمستثنى منه هو قوله سراً، ولا يقال هذا ضعيف من حيث إنه يقتضى أن يكون القول المعروف وهو التعريض موعود، أو هو غير موعود، لأنا نقول لا يقتضى ذلك، وإنما يقتضيه لو كان الاستثناء متصلا، وأما إذا كان منقطعا فمن شأن المنقطع ألا يدخل فى المستثنى منه، ولا يتسلط عليه معنى عامله كما هنا، وكما تقول أكرم زيدا إلا أن يشاء الله، أى لكن مشيئة الله هى القاضية، ولا تواعدوهن سراً، ولكن قولكم قولا معروفا، جايز لكم أو يتسلط معنى عامله عليه دون أن يدخل فى المستثنى منه، نحو قام القوم إلا بعيراً، ويجوز أن يكون القول موعودا على تفسير. بمفعول فإن المعنى وهو المعرض به موعوده.
{ وَلاَ تعْزِمُوا عُقدةَ النِّكاحِ }: العزم عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال وهو يتعدى بنفسه تارة كما هنا، فإن عقدة النكاح مفعول لتعزم، وكما فى قوله تعالى:
{ وإن عزموا الطلاق } وتارة بعلى، تقول عزمت على فعل كذا، ويجوز أن يكون هنا منصوبا على نزع على أى ولا تعزموا عقدة النكاح، ولعله إنما يتعدى بنفسه لتضمنه معنى القطع، أى لا تجزموا عقدة النكاح، رأيت القاضى ذكره قولا إذ قلل، وقيل معناه لا تقطعوا عدة النكاح، فإن أصل العزم القطع إلخ أو لتضمنه معنى القصد أى لا تقصدوا قصدا جازماً، والعقدة إما بمعنى العقد وهو المعنى المصدر، وهو إيقاع الزوجية وإنما بمعنى الحاصل من المعنى المصدر، وهو الارتباط الحاصل بلك المعنى المصدرى، وعلى هذا فيقدر مضاف، أى لا تعزموا عقدة النكاح، وهنا إشكال باق هو أنه لا بأس على الزوج والمرأة والولى أن ينووا فى قلوبهم قطعا أن يتزوج بها إذا انقضت عدتها بلا تعريض، أوبه فما معنى النهى عن العزم؟ قلت: المعنى لا تعقدوا النكاح بالعدة، ولا تذكروا أنكم تعقدونه بعدها فنهى عن ذلك أبلغ نهى، أدناها أن نعزم على ذلك، والنهى عن مقدمة الشئ أبلغ من النهى عن فعل الشئ، ويجوز أن يكون المعنى لا يجوز لكم أتنووا أن تعقدوا النكاح فى العدة؟ أو أن تنووا أن تذكروا أن تعقدوه بعدها، أو المعنى لا تحرموا عقدة النكاح بالنطق به.
{ حتَّى يَبْلُغ الكِتَابُ }: أى المكتوب، أى المفروض وهو العدة.
{ أجَلَهُ }: أى آخره فينصرم، كلهُ وقيل الكتاب القرآن، أى حتى يبلغ فرض الكتاب أجلهُ.
{ واعْلَمُوا أنَّ اللّهَ يَعْلَمُ ما فى أنفُسِكُم }: من العزم على ما يجوز وغير العزم قال الحسن ما فى أنفسكم من الزنى أو التزيج قبل العدة، أو التصريح بالخطبة فيها.
فَاحْذَرُوهُ }: أى احذروا عقابه والهاء لله، ويجوز عودها إلى ما فى أنفسهكم وأزيُلوه منها، وهو ما لا يجوز شرعاً من زنى وغيره، ونسب للحسن.
{ واعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ }: لمن عزم على ما لا يجوز ولم يفعله خشية اتعالى أو فعله وتاب وأصلح الفساد.
{ حَليمٌ }: لا يعاجل بالعقوبة على من عزم، أو فعل، بل لمهل فإن لم يتب لم يعجزه.