التفاسير

< >
عرض

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ
٢٤
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فإِن لَمْ تَفْعَلُوا }: أى فإن لم تأتوا بسورة من مثله فيما مضى، وإنما لم يقل فإن لم تأتوا بها، بل قال: { فإِن لَمْ تَفْعَلُوا } لأن الإتيان بها فعل من الأفعال، داخل تحت عموم الأفعال، وساغ التعبير به فى الجملة اختصاراً أو إيجازاً، أو جرى مجرى الكناية التى تفيد اختصارا أو إيجازاً من ضمير وإشارة كنايات اللغة والاصطلاح تقول: أكرمت زيدا بكذا فى موضع كذا، أو تعد ما شاء الله من خصال. فيقال لك: نعم ما فعلت. ولو قيل: نعم الإكرام إكرامك زيدا فى موضع كذا فى وقت كذا بكذلك إن فيه طول. وكذا لو قيل: نعم الإكرام مشارا به إلى الإكرام المكيف بتلك الكيفيات، لكان فيه طول بالنسبة إلى: نعم ما قعلت. ولم يكن نصاً فى معنى قولك: نعم ما فعلت فكان التعبير بمادة - ف ع ل - مرغوباً فيه لذلك معدوداً أفصح وأوجز فى الجملة، فكان التعبير به أولى ولو فى مقام لا يكون فيه أوجز كالآية. فإن قولك: { فإِن لَمْ تَفْعَلُوا } ذلك أو فإن تفعلوا السورة أى لم تعملوها وقولك فإن لم تأتوا بذلك أو فان لم تأتوا بالسورة متقاربان فى عدم الحروف، وكذا قولك: فإن لم تفعلوها أى لم تعملوها. وقولك: فإن لم تأتوا بها متقاربان وقولك: فإن لم تأتوا، فإن لم تفعلوا متقاربان والفاء استئنافية تفريعية، لأن ما بعدها كالندلة مرتب على ما قبلها من بيان الحق. وما يعرفون به رسالته - صلى الله عليه وسلم - أى إن عجزتم عن الإتيان بسورة بعد اجتهاد، فاتركوا المعارضة، وانقادوا لأمر الله، تسلموا من عقابه، وإن قلت: إن للشك أو للظن والله منزه عنهما، وكذا لا يشك مخلوق ولا يظن أن يأتوا بسورة مثله، وقد تحداهم وأفحمهم. فهل لا كان الكلام بإذا التى تساق لكون الشىء سيفعل بدون تلويح إلى الشك، قلت: كان الكلام بإن للتهكم بهم، والاستهزاء بإرخاء العنان لهم فيها لا طاقة لهم عليه جزماً وتصويره صورة ما يمكن أن يطبقوه، حتى إنه يشك شاك أن يظن أنهم قد فعلوه، وتصويره بصورة ما يقطع به المتغالب، كما إذا نفى أحد أن تقوى على صرعه وقد وثقت من نفسك أن تصرعه. فتقول: فإن صرعتك فماذا تفعل؟ أو إن صرعتك لم أبق عليك شيئاً من خير أو رفق بل أزيحه عنك كله. أو كان الكلام بأن مراعاة لظنهم وطمعهم أن يأتوا بسورة، لأن العجز عن المعارضة قبل التأمل لم يكن محققاً عندهم، بل مشكوكاً فيه، أو منفى جزماً لقولهم: لو نشاء لقلنا مثل هذا لا مضمونا فيه. كما قيل: وتفعلوا مجزوم بلم، لا بإن، لاتصالها به وتغييرها معناه إلى المضى، بخلاف إن فإنها مفصولة معناها مسلط على لم وما بعدها، فلم وما بعدها فى محل جزم بإن، وقد ردت أن الفعل إلى الاستقبال بعدما صرفته لم إلى المضى، فظهر تسلط معناها عليهما. كأنه قيل: فإن تركتم الفعل وبيان الاستقبال أن الكلام سياق لمعنى قولك: فإن صح أنكم لم تفعلوا، والصحة مستقبلة الثبوت، إذ ما شك فيه الإنسان لم يثبت، بل ينتظر الإنسان ثبوته، وزعم بعضهم أن إن بمعنى إذ، وإنما لم نقل بتنازع - إن ولم - لأن إن تطلب مثبتاً، ولم هى طالبة للمنفى، وشرط التنازع الاتحاد فى المعنى ولضعف الحرف وأجاز ابن العلج فى البسيط التنازع بين الحرفين، وكذا فى المسائل الدمشقيات الدائرة بين أبى على الفارسى وأبى الفتح بن جنى الإشارة إلى الجواز، ورد عليهم بما ذكروا ما الرد بأن الحرف لا يضمر فيه، وشرط التنازع صحة الإضمار بين المتنازعين، فلا يصح عندى، لأن المراد بالإضمار فى باب التنازع ما يشمل استتار الضمير وما يشمل الحذف، فالإضمار فى الحرف الحذف معه، كما تحذف الفضلة التى عمل فيها الفعل وغيره.
{ وَلَن تَفْعَلُوا }: فى المستقبل، وهذا من أخبار الغيب فهو معجزة، وهذه الجملة مستأنفة، اعترضت بين الشرط والجزاء، ونكتتها الجزم بنفى الإتيان بسورة، بعد ما ساق الكلام مساق الشك فى الإتيان بحسب ظنهم، والله - جل وعلا - يعلم أنهم عاجزون، ويجوز أن تكون الجملة حالا مقدرة، ولا يضر عندى تصدير الجملة الحالية بما يدل على الاستقبال، كلن إذا كانت الحال مقدرة، ولو أطلق غيرى المنع، والمعنى فإن لم تفعلوا فيما مضى، حال كونكم مقدراً عدم فعلكم فى المستقبل، أى قدرة الله، وأما أن تعطف الجملة على جملة { لَمْ تَفْعَلُوا } فلا يجوز، لأن لن لا تلى إن الشرطية. وإذا عطفت الجملة فكأنها تلت، إلا أن يقال يغتفر فى الثوانى ما لا يغتفر فى الأوائل. فان أنواع هذا الاغتفار كثيرة جدا، كعطف الظاهر على الضمير المستتر فيما لا يرفع الظاهر، وكعطف المذكر على الفاعل المؤنث، المقرون رافعه بالتاء، وكما ورد من عطف المعرفة على مجرور رب المنكر. وغير ذلك. وكثرتها تدل على القياس، غير أن الظاهر أنه ينظر إلى كل نوع على حدة، فإن كثر قيس كالنوعين الأولين، وإلا فلا كالثالث، وحمل الآية على الشاذ خلاف الأصل مع أنه لا دليل عليه. وقد اقتصر ابن هشام على أن الجملة معترضة إذ قال: والخامس بين الشرط وجوابه نحو: وإذا بدلنا آية مكان آية. والله أعلم بما ينزل. قالوا: إنما أنت مفتر ونحو: { فِإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُوا النَّارَ }... إلخ.
{ فَاتَّقُوا النَّارَ }: بالإيمان بالله والإيمان بأن القرآن من كلامه لا من كلام البشر، وبترك العناد، وإن قلت حق الشرط أن يكون سبباً للجزاء وملزوماً له، وحق الجواب أن يكون مسبباً عن الشرط ولازماً له، وليس عدم إتيانهم بالسورة فى الماضى والمستقبل سبباً لاتقاء النار ولا ملزوماً له. ولا اتقاؤها لازماً له ولا مسبباً عنه، فكيف صح الجزاء باتقوا النار؟ قلت: نزلت لازم الجزاء وهو اتقاء النار منزلة الجزاء وهو الإيمان بالله سبحانه وتعالى والقرآن. وترك العناد على سبيل الكناية، فإن الإيمان وترك العناد يصحان جزاء، لأنهما لازمان لعدم الإتيان بالسورة ومسببان عنه. وعدم الإتيان ملزوم لهما وسبب لهما، فأفادت هذه الكناية ترك العناد، وتهويل شأن العناد بإقامة النار مقامه، وإنابة اتقاء النار مناب ترك العناد، وتصريحاً بالوعيد وليس غير الكناية يفيد كل ذلك. قال الفخر: لما ظهر عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق النبى - صلى الله عليه وسلم - وإذا صح ذلك ثم لزموا العناد استوجبوا العقاب بالنار. واتقاء النار يوجب ترك العناد. وأقيم قوله: { فَاتَقُوا النَّارَ } مقام قوله: فاتركوا العناد، وأل فى النار للعهد الذكرى، إذ ذكرت النار فى سورة التحريم نكرة، وهى من السور التى نزلت بالمدينة، والبقرة مدنية أيضاً، لكن سورة التحريم متقدمة النزول، بل قيل آية - وقود النار - نزلت بمكة.
{ التَّى وُقُّودُهَا }: أى ما توقد به. وأما الوقود - بضم الواو - فمصدر، بمعنى اشتعال النار، وقرأ به عيسى بن عمر الهمدانى. إما على المصدرية مبالغة بحيث نزل قوة الاشتعال منزلة الناس والحجار، كأن نفس الناس والحجارة هى الاشتعال، كقولك زيد صوم إذا أكثر الصوم. وقولهم حياة السراج الزيت أى ما يحيا إلا به، فكأنه نفس الزيت. وما تتقد النار إلا بالناس والحجارة. فكأن الاتقاد نفس الناس والحجارة، وإما على المصدرية وتقدير مضاف أى متعلق وقودها الناس والحجارة، أو محل وقودها الناس والحجارة، أو وقودها احتراق الناس والحجارة، أو اشتعال الناس والحجارة بها. وإما على التسمية بالمصدر بدون أن تعتبر المبالغة ولا تقدير مضاف، كقولك: زيد فخر قومه وزين بلده، أى والذى يفتخر قومه به ويتزين بلده به، وقيل: كل من الوقود، بالفتح، والوقود، بالضم، يكون اسماً لما تتقد به ومصدراً بمعنى الاتقاد. قال سيبوية: سمعنا من يقول، وقدت النار وقوداً عالياً، والاسم بالضم.
{ النَّاسُ }: الذين أشركوا والذين نافقوا.
{ وَالْحِجَارَةُ }: جمع حجر كجمل وجمالة، وهو غير كثير ولا مقيس، وجمع الجمع حجارات كجمالات، وفى الأخبار يكون وقودها الحجارة إخبار بقوتها، لأنها لا تتصل بالحجارة إلا لقوتها، وإذا اتصلت بالحجارة كانت قوتها قوة الحجارة، والمراد بالحجارة، الأصنام المنحوتة من الحجارة، يقرنهم الله بها فى النار
{ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون } يعذبون بها لما عصوا بها، كما يعذب مانع الزكاة بماله. وبذلك يشتد تحسرهم إذا عذبوا بها. وإذا طمعوا فى أن تنجيهم فعبدوها فصارت وبالا عليهم عكس ما طمعوا، وإتيان المكروه من حيث ترجوا النفس إتيان ما تحبه أشد عليها من إتيانها من حيث ما تتوقع. وقيل المراد بالحجارة: الذهب والفضة اللذان يكنزان، ولا يؤدون منهما الحقوق. وإن قلت كيف يخص هذا بالمشركين؟ قلت: لا تخصيص بل الناس المشركون والمنافقون بالشرك أو بالكبائر. وقال ابن عباس: المراد بالحجارة حجارة الكبريت. رواه الطبرى وغيره ورواه الطبرانى والحاكم والبيهقى وغيرهم عن ابن مسعود، فإن كان ذلك منهما حديثاً مرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا إشكال، وإن كان من كلامهما فله حكم الحديث المرفوع، وكلاهما سواء أكان حديثاً أم لا، دليل على تخصيص الحجارة بالكبريت، ووجه التخصيص أن الكبريت أشد حرا، وأكثر التهاباً، وأسرع اتقاداً، وأكثر دخاناً ومنتن الريح وشديد الالتصاق. وإن قلت: لعل ابن عباس وابن مسعود عينا أن الأحجار كله لتلك النار، كحجارة الكبريت لسائر النيران، وليس مرادهم خصوص الكبريت، لأنه تهويل فى الكبريت. لأن كل نار تتقد به وإن ضعفت، بخلاف ما إذا فسرنا الحجارة بالحجارة المعروفة. فإن فيها تهويل حيث اتقدت بما لا يتقد به غيرها. قلت هذا تأويل مخالف للظاهر مع أن النكت لا تتزاحم. فكما تقصد الحجارة المعروفة للتهويل المذكور، تقصد حجارة الكبريت لزيادة الالتهاب والدخان والحرارة والنتن والالتصاق وسرعة الاتقاد. والحجر يطلق على كل جامد يابس صلب، ولو كان أصله الحجر المعروف. وإنما جاء وقودها الناس والحجارة صلة، والصلة والصفة فى غير مقام قصد التهويل للإبهام، يجب أن تكونا معهودتين للمخاطب، وإلا كانتا من باب الخبر، لا من باب الصلة والصفة، لأن هذه الجملة معهودة عندهم، من قوله تعالى فى سورة التحريم: { ناراً وقودها الناس والحجارة } خوطب بها المؤمنون فسمعوها منهم أو سمعوها منه - صلى الله عليه وسلم - ومن غيره بدون تلاوة الآية أو تلاوتها، أو من أهل الكتاب كأنه قيل: فاتقوا النار التى عرفتم أنها ممتازة عن سائر النيران، بأنها، لا تتقد إلا بالناس والحجارة، كما يستفاد الحصر من تعريف الطرفين وهما وقودها، الناس والحجارة، وبأن غيرها من النار إن أريد إحراق الناس بها. وليس بجائز أو إحماء الحجارة بها أو إحراقها أو صنعها جيراً مثلا أوقدوا لا بنحو حطب، وقد تقرر أن أحكام الجن فى التكليف والثواب والعقاب واحدة، فكما يكون وقود نار الأشقياء من بنى آدم هو هؤلاء الأشقياء منهم والحجارة، كذلك يكون وقود نار الأشقياء من الجن هو هؤلاء الأشقياء من الجن والحجارة، فيجازى كل نفس بما يشاكله، ونار جهنم أنواع شتى، والتنكير فى سورة التحريم لهذا أو للتعظيم.
{ أُعِدتْ }: هيئت أى هيأها الله.
{ لِلْكَافِرِينَ }: وجعلها عدة لعذابهم، كما تجعل الخيل والسلاح عدة للقتال. وقرأها عبد الله بن مسعود أعدت بمعنى هيئت وجعلت عدة. أو بمعنى أحضرت من العدم إلى الوجود. وفى القراءتين دليل على وجود النار الآن. ومن قال: لم توجد قال معنى ذلك هو الحكم والقضاء بها. ولا يخفى ما فى هذه الآية من التحدى بتغليظ وتأكيد ولو كان - صلى الله عليه وسلم - على شك أو كان القرآن بحيث يمكن أن يؤتى بمثل بعضه لما أنزل الله هذه الآية هكذا بتغليظ يتحدى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المشركين لأن ذلك يؤدى إلى أن تدحض حجته، ولا سيما أن الله - سبحانه وتعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتحديان إلا بحق لنزاهتهما عن الكذب والخيانة، وقد تحداهم بتغليظ ووعيد، فلم توجد منهم المعارضة بسورة من مثله، مع حرصهم على إطفاء نوره وإبطال أمره، مع علمهم بأنهم إذا عجزوا ولم يتركوا العناد سببت ذراريهم ونساؤهم، وغنمت أموالهم وقتلوا ولو عارضوه بشىء لم يكن خافياً لكثرة الطاعنين فى كل وقت وقلة الذابين عنه بالنسبة إليهم. وجملة { أعدت } صلة ثانية للتى عند التفتازانى لأنه أجاز تعدد الصلة بلا تبعية، كما يجوز تعدد الحال والصفة والخبر بلا تبعية، والذى عندى: أن المعنى على النعت وأن المراد بالنار الجنس، ولو كانت أل للعهد، لأن المعهودة نار كثيرة يصلح كل جزء منها لهؤلاء المخاطبين. والجملة: نعت للنار، وهذا أولى من كونها حالا أو مستأنفة. وما ذكره التفتازانى أحسن جداً من حيث المعنى القريب من معنى النعت على ما ذكرت، لكن أبدع فى تعدد الصلة بلا تبعية ولا بأس به، وعلى الحالية يختلف، هل يستغنى عن تقدير قد؟ ذهب بعض إلى أن الماضى المثبت المنصرف إذا وقعت جملة حالا، لا بد من قد فيه ظاهرة أو مقدرة، وقال بعض: لا يلزم ذلك، واعترض على الحالية بأن النار أعدت للكافرين فاتقوها أولا، وأجيب بأنها حال لازمة، ولا تجوز الحالية من الضمير فى وقودها، ولو جعلت الوقود مصدراً للفصل بين الحال وصاحبه بأجنبى وهو الخبر. وذكر التفتازانى أن الاستئناف لا يحسن.