التفاسير

< >
عرض

وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٢٤٤
مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَٱللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٤٥
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وقَاتِلُوا فى سبيل الله }: لإعلاء دينه أيها المؤمنين ولا تجبنوا عن القتال، كما جبنت عنه بنو إسرائيل، لأنه إما أن تموتوا فى القتال لآجالكم شهداء، أو تنصرونه وتثابوا، وذلك قول الجمهور وقال الضحاك عن ابن عباس: الخطاب للذين خرجوا لما أحياهم الله من الموت، أمرهم ثانيا بالقتال، وذلك على تقدير القول، أى وقال لهم بعد ذلك: قاتلوا فى سبيل الله، أو وقيل لهم بعد ذلك: قاتلوا فى سبيل الله، أو فقال قاتلوا: أو ثم قال: قاتلوا، أو فقيل: أو ثم قيل، وضعف الطبرى هذا القول، حتى قال: لا وجه له، ولبس كذلك، ولكن قول الجمهور أولى.
{ واعْلَمُوا أنَّ اللّهَ سَمِيعٌ }: أى عليم بما يقوله من لا يحب القتال، أو يجبن عنه فى اعتلاله، وبما يقول من له عذر صحيح، وبمن يمضى إلى القتال.
{ عَليمٌ }: بما يضمره فى قلبه من ذكرناه وبأحواله فيثيب المحسن ويعاقب من لا عذر له، ويعذر من له عذر صحيح.
{ منْ ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسناً }: بإنفاق مال حلال فى سبيل الله بطيب قلب، وإخلاص، وقيل حسنة كثرته، وقيل خلاصه من المن والأذى، شبه تقديم المال فى سبيل الله، أو بدنه فى الدنيا ليثيبه فى الأخرى بإعطاء المال لأحد، فيرد له مثله ووجه الشبه الردو أو تفاوت بالمضاعفة وغيرها، والقرض: القطع ومن سلف غير، فقد قطع له من ماله، والمراد بالقرض فى سبيل الله إعطاء المال الواجب وغير الواجب، أو استعمال البدن فى أمر الطاعة الجهاد أو غيره، وتسمى الطاعة سبيل الله لأنها توصل إلى ثوابه ورضاه، وذلك ما ظهر لى من التفسير بالعموم وقيل: المراد إنفاق المال فى الجهاد من قدر على الجهاد، ينفق على نفسه ودابته فيه، ومن لم يقدر عليه أنفق على الفقير القادر على الجهاد، وقيل المراد الإنفاق الواجب فى الطاعة مطلقا كالزكاة والضيافة وإنفاق المال فى الجهاد إذا تعين. وقيل: المراد الإنفاق فى التطوع، ويدل له ما رواه ابن عباس:
"أن الآية نزلت فى أبى الدحداح، قال: يا رسول الله إن لى حديقتين فإن تصدقت بإحداهما فهل لى مثلاها فى الجنة؟ قال نعم قال: وأم الدحداح معى؟ قال: نعم، وقال: والصبية معى، قال: نعم فتصدق بأفضل حديقتيه" ، وكانت تسمى الحنينية، فرجع أبو أبو الدحداح إلى أهله وكانت فى الحديقة التى تصدق بها، فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته، فقالت أم الدحداح: بارك الله لك فيما اشتريت، ثم خرجوا منها وسلموها، فكان صلى الله عليه وسلم يقول "كم من نخلة تدلى فى الجنة لأبى الدحداح" وروى: "كم من عذق رداح لأبى الدحداح" ، وقيل: سمع أعرابى الآية فقال: أعطانا فضلا وسألنا منهُ فرضا، يرد إلينا أكثر وأوفر منه إنه الكريم. وسمع ذلك أبو الدحداح فقال للنبى صلى الله عليه وسلم: إن لى حديقتين. وأقول العبرة بعموم اللفظ، وفى الحائط ستمائة نخلة، فقيل نزلت الآية، فعمل بها أبو الدحداح، وقيل: عمل ما ذكر، فنزلت فيه كما رأيت وقال بعض. أصحاب ابن مسعود: المراد بالقرض قول الرجل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، والظاهر إنفاق المال، ولفظ القرض يتبادر منه التطوع، ولكن القرض أيضا قرض من حيث إنه تعالى يثيبنا عليه، والإثابة رد كرد المقترض، وقيل المعنى إعطاء العبد على أن يؤدى الله عن العبد فى الأخرى، أى من ذا الذى يقرض عباد الله على أن يرد الله عنهم، فحذف المضاف، كما قال أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة يا بن آدم استطعمتك فلم تطعمنى، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين، قال: استطعمك عبدى فلان فلا تطعمه، أما أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندى، يا بن آدم استسقيتك فلم تسقنى، قال: كيف أسقيك وأنت رب العالمين، قال استسقاك عبدى فلان فلم تسقه أما أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندى، يا بن آدم مرضت لم تعدنى، قال: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، قال: إن عبدى فلانا مرض فلم تعده أما أنك لو عدته لوجدتنى عنده" ولما نزلت الآية قالت اليهود لعنهم الله: يستقرضكم ربكم فهو فقير ونحن أغنياء. فنزل: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } ومن ذا مبتدأ اسم استفهام مركب أو خبر، والذى خبر له، أو من مبتدأ وذا خبره، أو بالعكس، والذى نعت ذا أو بدله أو بيانه وقرضاً مفعول مطلق اسم مصدر، أقرض فهو نائب عن الإقراض، ويجوز أن يكون بمعنى مقرضا بفتح الراء، وهو المال المقرض، فيكون مفعولا ثانيا ليقرض، وعلى الوجه الأول يكون المفعول الثانى محذوف أى مالا أو شيئا ما، فالحسن فى الإقراض إخلاصه وكونه من حلال ويطيب وخالص من المن والأذى، قيل وتجويده أو تكثيره مما يحبه المقرض، وقيل المراد كونه من حلال، وقيل خلاصه من المن والأذى، وقيل. كونه من حلال وطيب نفس والأولى ذلك كله إلا التجويد والتكثير فلا يشترطان إلا بحسب ما لا يكون إسرافا إلا أنه من يتعمد إلى ما هان عنده ولا رغبة له فيه أو بقى فينفقه، ويمسك سواه لا يكون منه ذلك قرضاً حسناً.
{ فَيُضاعِفَهُ لَهُ }: أى يضاعف قرضه، فالهاء للقرض على حذف مضاف، أى ثواب قرضه، وجاء بصيغة المفاعلة، لأنها وضعت لما يفعل فى محاولة الغلبة، وما يفعل فى محاولة المغالبة يكون أقوى، فدلت المضاعفة على إكثار المثل فى ثواب القرض بعشرة أمثاله فصاعداً إلى سبع مائة وأكثر، وضعف الشئ مثلاه فصاعدا، والمراد هنا عشرة فصاعداً، لأن الحسنة بعشر فصاعدا، ثم تذكرت أن بعد ذلك قوله تعالى:
{ أضْعافاً كَثِيرةً }؛ فهو نص فيما ذكرت، قال السدى: هذه المضاعفة لا يعلم قدرها إلا الله، وقيل الواحد بسبعمائة، وقول السدى أولى، لأن باب الترغيب الإبهام أليق به، وقرأ عاصم: { فيضاعفه } بالنصب هنا وفى الحديد، وقرأ بن كثير وابن عامر: { فيضعفه } ويضعف ومضعفة بالتشديد من غير ألف، حيث وقع، والباقون بالألف والتخفيف حيث وقع، إلا أن ابن عامر بنصب يضعف هنا وغيره، وغير عاصم برفعه، وكذا قرأ يعقوب بالتشديد والنصب، ولست أذكر قراءة نافع، ومن وافقه، لأنها التى أقرأ بها وأجرى عليها، وإتما أنبه على ما خالفها إلا ما شاء الله، ووجه للعطف على يقرض، ووجه النصب العطف على المعنى، عطف مصدر يضاعف على مصدر مقدر من المعنى، كأنه قيل: من الذى يكون منه إقراض الله قرضا حسنا فمضاعفة من الله له، وأضعافاً جمع ضعف وهو حال من هاء يضاعفه، أو مفعول ثان ليضاعف، أى يصيره بالتضعيف أضعافا، فعداه لاثنين لتضمنه معنى التصيير، أو مفعول مطلقا على أنه جمع الضعف الذى هو مصدر، والمصدر ولو كان يصلح للقلة والكثرة والأنواع، لكن إذا أريد النص على الكثرة أو النوعية، جئ به على صيغته، ومضاعفة الثواب تختلف باختلاف المقرض فى قوة الإخلاص واليقين، وباختلاف المال مثلا فى شدة حليته وتجويده وإكثاره باختلاف أنواع الجزاء.
{ وَاللّهُ يَقْبضُ } الرزق عن من يشاء إلا قليلا ابتلاء له أيصير أم يتعد الحد؟،
{ ويَبْسطُ }: يوسعه لمن يشاء امتحانا له، أيشكر أم يكفر؟ بحسب ما اقتضته الحكمة من تعليله على ذلك وبسطه بهذا، فلا تبخلوا فيدل بسطكم بقبض، ويرى الصلاح فى القبض، والبعض فى البسط، وقرأ غير نافع والكسائى وللبزى وأبى بكر يبسط بالسين، وقيل عنه بالصاد، وروى النقاش عن الأخفش السين هنا، والصاد فى الأعراف وكلتا اللغتين فى اسم الله، يقال الباسط بالسين وبالصاد، وما فيه رغبة الطبع يجوز إفراده عن مقابله من أسماء الله وما فيه لها صعوبة، يجمع مع ذلك ولا يفرد عنه، فيقال: القابض الباسط، الرافع الخافض، المعز والمذل، أو الباسط الرافع، المعز، ولا يقتصر على ذكر القابض أو الخافض أو المذل.
وإليْهِ }: وهو أكرم الأكرمين لا إلى غيره.
{ تُرْجَعونَ }: بالموت والبعث، فيجازيكم على أعمالكم وصدقتكم، فمن معنى كونه تعالى قابضاً أنه يقبضكم إليه بالموت والبعث، ومن معنى كونه باسطا بسط الإنعام على المؤمنين فى الأخرى، وأما فى الدنيا فيبسط على المؤمن والكافر، ومعنى القابض الباسط قابض الأرواح عند الموت، وباسطها فى الجسم عند الحياة، وقيل قابض الصدقات من الأغنياء، وباسطها للفقراء. وقيل مضيق القلوب ومؤنسها، وقيل مضيق الرزق وموسعه، وفسرت الآية به، لأن فى الآية الأخرى
{ يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } ومثل ذلك، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم التسعير فى المدنية وقت غلاء فقال: "إن الله هو الباسط القابض وإنى لأرجو أن ألقى الله ولا يتبعنى أحد بمظلمة فى نفس ولا مال" ولأن الكلام قبل فى القرض.