التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِٱلْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ ٱللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإن كَانَ ٱلَّذِي عَلَيْهِ ٱلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِٱلْعَدْلِ وَٱسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَٱمْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ ٱلشُّهَدَآءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا ٱلأُخْرَىٰ وَلاَ يَأْبَ ٱلشُّهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوۤاْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إِلَىٰ أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَٰدَةِ وَأَدْنَىٰ أَلاَّ تَرْتَابُوۤاْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٨٢
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَا أيُّها الَّذِينَ آمنُوا إذَا تَدَايْنتُم بِدَيْنٍ إلى أجَلٍ مُسَمىًّ }، أى إذا عامل بعضكم بعضا بدين، والمفاعلة على بابها، لأن المتبايعين بالدين كل منهما له ملابسة بالدين، هذا يعطيه وذاك يأخذه، وكلاهما عاقد، وليس المراد كل منهما باع دينا للآخر، لأن بيع الدين بالدين باطل، وكذلك لا يدخل فى الآية بيع يد بيد، لأنه لا دين فيه بقى بيع العين بالدين وهو بيع الشئ بالثمن مؤجلا، وبيع العين بالدين وهو السلم، وهما داخلان تحتهما، وكذلك لا يدخل فيه القرض، لأنه لا أجل فيه، وقيل بجواز الأجل فيه، وقيل بوجوبه، والبحث مذكور فى الفروع، وقال الفخر: إن القرض لا يسمى دينا، وإنما قال بدين مع أن قوله تعالى: { تداينتم }، يكفى عنه ليرجع إليه الضمير فى قوله فاكتبوه، إذا لو لم يذكر لقيل فاكتبوا الدين، فيفوت بعض الحسن فى الكلام، ولأنه أظهر فى تنويع الدين إلى مؤجل وغيره، ولئلا يتوهم عند ذكر تداينتم المجازاة، ولو كان لفظ دين أيضاً يستعمل بمعنى الجزاء، لكن يتبادر منه بعد لفظ تداينتم ما يترتب فى الذمة لا الجزاء، ولا يقال لو لم يذكر فقيل فاكتبوه لدل عليه تداينتم كقوله تعالى: { اعدلوا } هو أقرب للتقوى، لأنا نقول مصدر تداين لفظ التداين فلا يناسب أن يقال اكتبوا التداين، وكذا لا يعود الضمير للأجل، وذلك أن المراد الإفصاح بكتب كمية الدين لأجله وغير ذلك يصح بتكلف، وخرج بالأجل، والمسمى بمعنى المعين باسمه الذى لا خفاء فيه كعدد الأيام والأسابيع والشهور والسنين غير المعين مما فيه خفاء، كالحصاد والجذاذ والقيظ، وقدوم الحاج، وقال ابن عباس نزلت فى السلم لأنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون فى الثمار سنتين والثلاث فقال: "من أسلم فليسلم فى كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" وقال ابن عباس لما حرم الله الربا أباح السلم وقال، أشهد أن الله أباح السلم المضمون إلى أجل معلوم فى كتابه، وأنزل فيه أطول آية. ولعله يريد أن سبب النزول السلم واللفظ عام للدين كله.
{ فاكْتُبوهُ }: بأجله المسمى وببدئه، لئلا يأخذ صاحب الحق أكثر من حقه، ويعطى من عليه أكثر مما لزمه بعمد ومغالطة، أو نسيان وتوهم، أو يأخذ هذا قبل أجله، ويعطى هذا قبل الأجل الذى عليه، أو يؤخر من عليه عن الأجل، وإنما الذى ينبغى أن يعلم الأمر على الحقيقة، ثم يزيد المعطى أكثر مما عليه بقصد الثواب، أو ينقص له صاحب الحق كذلك، أو يؤخر له فى الأجل، وإن جهل الأجل بطل البيع، وقيل يكون حالا والأمر بالكتابة على الندب عند الجمهور، وقالوا: إنا نرى جمهور المسلمين فى جميع ديار الإسلام يبيعون بالأثمان المؤجلة من غير كتبه ولا إشهاد، وذلك إجماع على عدم وجوبهما، فذلك ندب فى حفظ المال وإزالة الريبة، فإن كان الغريم ثقة لم يضره الكتب بل يكون له أعون فى الحياة وبعد الممات إن لم يقبضه، وإلا فقيد له وإن أشهدت وكتبت فحزم وإن ائتمنت ففى حل وسعة، وقال عطاء وابن جريح والنخعى والطبرى: الكتابة والإشهاد واجبان. وقال الحسن والشعبى وابن عينية: كانت الكتابة والإشهاد والرهن فرضا ثم نسخ بقوله تعالى: (فإن أمن بعضكم بعضاً أؤتمن أمانته)، وكذلك يؤمر بالكتابة إذا كان الدين بلا أجل لوجود علة النسيان والإنكار فيه، ويدل لهذا أنهُ استثنى البيع يدا بيد فى قوله: { إلا أن تكون تجارة } الآية.
{ وَلْيَكْتُب بَّيْنكُم كاتِبٌ بالعَدْلِ }: بالحق لا يزيد فى المال والأجل، ولا ينقص، وهو كاتب يعرف العربية ففيه يجئ كتابة صحيحا موثوقا به شرعا فى اللفظ والمعنى، والآية نص فى إجزاء كتابة كاتب واحد معتديه، يكتب الأمر كما هو بالأجل والشهود والتاريخ يتوثق فى جنب الذى له الحق والذى عليه، ولا يحمل ولا يبهم ولا يجب أن يكتب كاتب آخر أيضاً مثله مثل ما كتب سواه أو باختصار فى كتاب آخر أو تحته كتابته وإن فعل ذلك أشد وثوقا.
{ ولا يأْبَ كاتِبٌ أنْ يَكْتُبَ كَما علَّمهُ اللّهُ } أى لا يأب من يكتب، أى لا يمتنع من الكتابة، ويجوز ألا يقدر فيكون أن يكتب مفعولا لأن أبى يتعدد، ويلزم ألا يمنع كتبه عن طالب إيقاع علمه الله من العدل، والعبارة الجيدة والخط البين أى إن وافق طالبا للكتابة فليكتب له بعدل، وتجويد العبارة والخط، فمتعلق النهى عن الإباء ألا يكتب على غير ذلك، أى إن وافق للكتابة فلا يمتنع من العدل والتجويد فى كتابته، ويجور أن يكون متعلقة أن يمتنع عن الكتب أصلا عن التجديد والعدل، ويجوز أن يكون متعلقة ترك الكتابة، أى لا بد أن يكتب إذا طلب وينفع الطالب بكتابته كما نفعه الله بتعليم الكتابة وغيرها كقوله تعالى:
{ وأحْسنْ كما أحْسنَ الله إليك } وليست الآية إيجابا على الكاتب أو ندبا له أن يكتب بلا أجرة، بل أوجب عليه أو ندب لهُ أن يكتب فقط سواء بأجرة أو بدونها، كما يوهمه قول بعض إنه إذا أمكن الكتاب لم يجب على معين، بل له الامتناع إلا إذا استأجره وأنه إذا عدم الكاتب سواه وجب عليه، قال عطاء والشعبى: واجب على الكاتب أن يكتب إذا لم يوجد سواه فهو فرض كفاية، وقال السدى واجب مع الفراغ، وقيل فرض عين على من طلب الكتابة، وكذا الخلاف فى تحمل الشهادة، وقال الضحاك والربيع بن أنس:{ ولا يأب كاتب } منسوخ بقوله: { ولا يضار كاتب ولا شهيد }، أى نسخ الوجوب عنهما، والكاف يتعلق بيكتب، ويجوز تعليقه بيكتب من قوله:.
{ فَلْيَكتُبْ }: وعلى تعليقه بيكتب قبله تكون الفاء عاطفة، فيكون قوله { ليكتب } توكيدا أى فليكتب تلك الكتابة المأمور بها، وعلى تعليقه بيكتب بعده تكون الفاء للتوكيد، أو فى جواب أما أى أما كما علمه الله فليكتب، فيكون أولا نهى عن ترك الكتابة مطلقا، ثم أمر بإيقاعها مقيدة وما مصدرية، أى كتعليم الله إياه أو اسم أى كالتعليم الذى علمه الله، أو كالكتابة التى علمه الله إياها، قال صلى الله عليه وسلم:
"لا تقوم الساعة حتى يفيض المال ويظهر العلم ويكثر التجار" قال الحسن: لقد أتى على الناس زمان وما يقال إلا تاجر بنى فلان وكاتب بنى فلان ما يكون فى الحى إلا تاجر واحد وكاتب واحد.
{ ولْيُملِلِ الَّذى عليْهِ الحقُّ }: أى ليلق الذى عليه الحق بلسانه على الشهود، والكاتب ما عليه لفلان وأجله وجنسه وصفته، فالإملال الإقرار، والفعل أمل بتشديد اللام وفيه لغة أخرى، وهى أملى بألف بعد اللام يملى بياء بعدها إملاء ومنها فهى تملى عليه، وقيل الألف فى أملى والياء فى يملى بدل من اللام الآخرة فى أمل بالتشديد، وفيه بحث لأن ذلك معتاد فى الكلمة المجتمع فيها ثلاثة أمثال فى آخرها كتقضض البازى وتسرى الأمة فيقال تقضى وتسرى، والوجه أن يقر للشهود وللكاتب ثم يكتب أو يقر لهم، ثم يودون للكاتب أو يقر للكاتب، ثم يكتب ثم الشهود فيأتون للكاتب فيشهدوا فيكتب شهادتهم أو يقرأ عليهم بحضرة المقر فينعم بها، فيكتب شهادتهم، وليملل مفعول به واحد هو محذوف وتعدى للآخر بعلى لأنه بمعنى ألقى، أى ألقى الحق الذى عليه لك بلسانه على الكاتب والشهود. وقيل له مفعولان هكذا أى يملل من عليه الحق كاتب ما عليه من الحق أى يعلمه إياه.
{ وليتَّقِ الله ربَّه }: أى ليحذر المل أو الكاتب الله ربه فى إملائه أو كتابته لا يعصى فى ذلك، ومن المعصية أن يقر على اسم غيره أو يقر باسم من ليس الحق له، أو ينقص من الحق شيئا، أو يكتب الكاتب كذلك، كما قال تخصيصا بعد تعميم.
{ ولا يَبْخَسْ }: أى لا ينقص من عيله الحق شيئا أو الكاتب.
{ مِنْهُ شَيئاً }: أى من الحق الذى عليه، والحق شامل لكون الأجل هو كذا لا أكثر منه مثلا، وكون الدين عددا من كذا، ونحو ذلك من جميع ما يمل به من، وقرئ شيئا بياء مخففة وحذف الهمزة، وقرئ بقلب الهمزة ياء وإدغام. الياء فيها، وهذه القراءة مطردة فى شئ فى جميع القرآن مرفوعا أو منصوبا أو مجرورا.
{ فإنْ كانَ الَّذِى عَليّهِ الحقُّ سَفِيهاً }: ناقص العقل بالغ غير رشيذ مستحقا للحجر عليه لتبذيره كما فسره به أصحابنا، وهو أول قولين فى الديوان، وبه قال الشافعى وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبى حنيفة، يرون الحجر على المبذر بسفه المفسد لماله ودينه فيقوم وليه مقامه ويبطل تصرفه، وقال أبو حنيفة يحجر عليه فيصح إقراره وعقوده وتجارته، لأن السفه هو وضع الأشياء فى مواضعها موجود فى الكفار يبذرون ويعصون ولا تحجير عليهم، والجواب أن الآية أفادت الحجر بجعل السفية كالصبى فى الإملال عليه وأنه لا تحجير على الكفار لأنهم على غير الملة، لأن ذلك السفه ديانة وقد يحجر عليهم ألا يظهروا بيع الخمر والخنزير.
{ أوْ ضَعِيفاً }: عن الإملال لكونه صبيا أو شيخا مختلا، وقيل السفيه الطفل الصغير والضعيف الشيخ الكبير، وقيل الضعيف ضعيف العقل بجنون وبلاهه، وقيل المرأة الضعيفة والأحمق الذى لا يحسن أن يمل.
{ أوْ لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُملَّ هُوَ }: لخرس أو جهل باللغة أو جنون، قيل أو لعمى أو حبس أو غيبة لا يمكن بها الحضور، أو لجهل بماله وما عليه.
{ فَلْيُملِلْ وليُّهُ بالعَدْلِ }: أى متولى أمره كأب وجد وعم وأخ ووصى على نحو صبى ومجنون وأخرس، وكمعتقه وكترجمان ووكيل وقائم على صبى أو مجنون أو أخرس، وكملتقطه ومن أسلم هو على يده وكزوجها وذلك دليل جر بأن النيابة فى الإقرار، وبه قال أبو يوسف مطلقا، وأجازه وأبو حنيفة ومحمد عند القاضى، ومنعه الشافعى مطلقا، وإنما يظهر الجواز للقائم والوكيل والترجمان إذا صدقه المقر عنه قبل الإقرار أو بعده، أو قال كلما قال عنى فهو جائز علىّ، وعن ابن عباس: أراد بالولى صاحب الدين إن عجز الذى عليه الحق عن الإملال فليملل صاحب الحق، لأنه أعلم بحقه ويصدقه من عليه الحق، والعدل الصدق والحق، وإن أمل بين يديه ولم يصدقه ولم يكذبه بل سكت فليس جايزاً عليه إلا إن أقر أنهُ حضر ليقر بما عليه، وقيل جائز عليه.
{ واسْتَشْهِدُوا }: السين والتاء للطلب، ويجوز أن يكون لموافقة أفعل كأجعل وأيقن، واستجعل واستيقن.
{ شَهِيدَيْنِ }: لمَ يقل شاهدين للمبالغة فى تصحيح الشهادة وعدالة الشاهد.
{ مِنْ رِجَالِكُم }: أى واطلبوا رجلين أن يشهدا على الدين، بأن يسمعا ممن عليه الدين أو ممن يمليا عنهُ فيؤديان الشهادة لمن يكتبها، ولا يكتبها إلا بإذنهما، وقيل يكتبها إذا أدياها إليه وهو الصحيح، وإن حضر رجلان وسمعا وحققا الأمر ولم يحضرهما المتعاقدان للشهادة ولم يقولا لهما اشهدا فهل يشهدان، وتكتب شهادتهما ويحكم بها؟ قيل: لا وهى شهادة السماع، وقيل نعم، وجه الأول، إنهما لم يستشهدا، والله يقول: { واستشهدوا شهيدين } ووجه الثانى أنه قد حصل المراد من الاستشهاد، فكأنهما قد استشهدا، كما رخص بعضهم أن يكتب شهادة الشاهدين من رآهما استشهدا ولو لم يقولا كتبها إذا تحقق عنده أنهما قد فهما، ومعنى من رجالكم من الرجال المنتسبين إليكم بالإسلام، ولا تجوز شهادة مشرك ولو كتابيا إلا على مثله أو على من دونه من المشركين، هذا ما عندنا، وعند أبى حنيفة، وقال غيره: لا تكتب شهادة مشرك على مشرك، وحكم صبى المشركين فى شهادة المشركين عليه أوله حكم المشرك، وكذا يستفاد اشتراط الحرية من قوله: { رجالكم } أى المنتسبين إليكم بالمماثلة فى الدين والحرية، ويؤيده قوله تعالى: { ولا يأبى الشهداء إذا ما دعوا } لأن العبد يجب عليه أن يأبى إذا دعى لشئ حتى يأذن له مولاه، وكذا الصبى لا يشهد لأنه ضعيف لا يمل بنفسه، فكيف يشهد ولقوله: { من رجالكم }، وأجاز شريح رحمهُ الله شهادة العبيد العدول فى دينهم، لأن عدالتهم تمنعهم من الكذب، وكذا قال ابن سيرين وعثمان الليثى، وكان على بن أبى طالب لا يجيز شهادة العبد فى شئ.
{ فَإنْ لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ }: أى فإن لم يكن الشاهدان رجلين بأن لم يوجد رجلان ممن تصح شهادته أو وجد أو عدل عن أحدهما لأمر مّا فالألف فى يكونا للشاهدين.
{ فَرَجلٌ وامْرأتَانِ }: أى فليشهد رجل وامرأتان، فهو فاعل لمحذوف، أو فالمشهد رجل وامرأتان فهو خبر لمحذوف، أو فرجل وامرأتان يشهدون فهو مبتدأ محذوف الخبر، وعليه فالمسوغ الوقوع بعد فاء الجواب، وشهادة النساء مع الرجال جائزة فى الأموال إجماعا، ولا تجوز فى الحدود ولو دون القتل، وقال سفيان الثورى وأصحاب الرأى: تجوز فى سائر الحقوق غير العقوبات، وأجازها الشافعى فيما يختص بالنساء غالبا كالولادة والرضاع والبكارة والثيابة، فقد يتزوج امرأة ويطلقها أو يفارقها فيشهد هو وامرأتان على أنها بكر أو ثيب، وتجوز شهادتها فى النكاح أو العتق والطلاق والرجعة والفداء والظهار وغير ذلك، فهى جائزة عندنا وعند أبى حنيفة فى الأموال والحقوق كلها إلا فى الحدود، وخصها الشافعى فى الأموال وما مر عنه آنفا.
{ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهداءِ }: للشهداء بأن يكون حرا الواحدا بالغاً عاقلا عدلا فى دينه، ذا مروءة لا يجريها فى مال نفعا لنفسه أو لولده أو عبده، ولا يدفع بها ضراً عن نفسه وألا يكون معروفا بكثرة الغلط والسهو وألا يكون عدوا للمشهود عليه ظاهر السعى فى الانتقام منه، والكافر يكذب على الله فكيف لا يكذب على غيره، فكيف تجوز شهادته، وأجيزت على الكافر على حد ما مر، وسئل ابن عباس عن شهادة الصبى فقال: ليس ممن ترضون من الشهداء، ولا تقبل شهادة المقارف للكبائر والمصرّ على الصغائر، وتجوز القرابة فى الشهادة إلا الأب فى المال لولده، وقال قومنا لا تجوز أيضا من ولد لوالده، وعنه صلى الله عليه وسلم:
"لا يجوز شهادة ذى الظنة وذى الجنة وذى الجنة" الظنة التهمة، والجنة من يرق للمشهود له حتى يخاف عليه، ومن الكذب، ويروى الإحنة أى الحقد لم يحقد على المحقود عليه، والجنة الجنون، قال شريح: لا أجيز شهادة الخصم ولا الشريك ولا دافع المغرم، ولا شهادة الأجير لمن استأجره فى تلك الصنعة بعينها، وعن عائشة رضى الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز شهادة خائن، ولا مجلود فى حد، ولا ذى غمر على أخيه، ولا مجرب شهادة، ولا القانع لأهل البيت، ولا ظنبن فى ولاء، ولا فى قرابة" والغمر الحقد، والقانع السائل المستطعم لأهل بيت لا يشهد لهم، وقيل المنقطع إليهم يخدمهم، وقوله: { ممن ترضون من الشهداء }، تنازعه استشهدوا، والفعل المقدر فيه قوله: { فرجل وامرأتان }، وإن لم يقدر ما يصلح للتنازع علق باستشهدوا، وقدر مثله لقوله: { فرجل وامرأتان }، يكون نعتا له أو متعلقا بما يقدر أو بالعكس، فقوله: { ممن ترضون من الشهداء }، عائد إلى قوله: { فاستشهدوا شهيدين من رجالكم }، وإلى قوله: { فرجل وامرأتان }، ويرجح للأخير إما على التنازع أو غيره قوله.
{ أن تَضِلَّ إحْدَاهُما فَتُذكِّر إحْدَاهما الأخْرَى }: علة للمحذوف فى قوله: { فرجل وامرأتان } والتقدير مثلا فالمستشهد امرأتان لأجل أن تضل إحداهما فى شهادتها كمن فى الطريق بأن تنساها أو تزيد أو نقتص منها أو تبدل فتذكرها الأخرى، ومحط التعليل قوله: { فتذكر } وأما قوله: { أن تضل } فتمهيد كأنه قيل فتذكر إحداهما الأخرى لضلالتهما فى الشهادة، وذلك من التمهيد بالسبب، لأن التذكير سبب عن الضلالة، والضلالة الغيبة عن الشئ، فمن أخطأ فى الشهادة فقد ضل، ومن التمهيد بالسبب قولك أعددت الخشبة لأن يميل الحائط فادعمه، وبه مثل سيبوبه للآية، وأعددت السلاح لأن يجيئ العدو فادفعه، فالعلة فى الحقيقة الدفع والإدعام، والآية دالة على ما صرح به حديث: "إن النساء ناقصات عقل إذا قيمت اثنتان مقام واحد، لقلة ضبطهن لتذكر من لم تنس من نسيت بأن تقول لها مثلا: حضرنا مجلس كذا وتحملنا شهادة كذا ومعنى تذكر نصيرها ذاكرة، أى غير ناسية وهو التفكير، وقال سفيان ابن عيينة معناه تصيّرها ذاكرا فى المعنى ضد الأنثى ويرده عطفه على تضل، لأن تصيرها إياها ذكرا لا يختص بما إذا ضلت، ولأنها لا تصير وحدها ذاكراً، بل مع الأخرى كما هو مراده، واللفظ لا يتبادر منه ذلك، وهذا واقع لم تنس أو نسيت، وأن الأصل ألا يشتق الفعل من الجامد غير المصدر، وقد يجاب عن غير هذا بأن تذكر على تفسيره نصب فى جواب أمر أو محذوف، أى فليشهد أو ليستشهد رجل وامرأتان، فتذكر إحداهما الأخرى، وقرئ: ببناء تضل للمفعول، وقرأ حمزة، أن تضل إحداهما فتذكر بكسر همزة إن على الشرط، فتكون فتحة لام تضل للتخلص من التقاء الساكنين، ورفع تذكر والفاء على هذا فى جواب الشرط، فيكون تذكر إحداهما جواباً مع قد محذوفة دلت عليها الفاء، أى فقد تذكر، وقرأ ابن كثير وأبو عمر ويعقوت بفتح أن، ونصب ما بعد الفاء وإسكان الذال، وتخفيف الكاف بالتعدية بالهمزة من اذكره إذكارا، كما عداه الجمهور وحمزة بالتشديد، وقيل التذكير ذكر أسباب التذكير لها، والإذكار تصيرها ذاكرة، وعلى الأول وهو قراءة الجمهور وحمزة قد تذكرها ولا تتذكر.
{ وَلاَ يَأبَ الشّهَداءُ إذا ما دُعُوا }: أى لا يمتنع الشهداء عن تحمل الشهادة إذا ما دعوا لتحملها، فمعنى الشهداء من يتأهل للشهادة قاله قتادة أو يمتنع الشهداء عن أداء الشهادة بعد تحملها، قاله مجاهد. قال النعاش وهو تفسيره صلى الله عليه وسلم، أولا يمتنع من تأهل الشهادة عن تحملها إذا لم يتحملها، ولا عن أدائها إذا تحملها، قاله ابن عباس والحسن، والمتحمل لها يصح أن يقال فيه متأهل غايته أنه قد دخل فيما هو لهُ أهل، وقد يقال الراجح حمل لفظ الشهداء على من تحملوا الشهادة، والمعنى لا يأبوا عن أدائها، وهذا حقيقة، وأما حمله على من تأهل للشهادة فمجازو والحقيقة أولى، وأيضا هذا المجاز من مجاز الأول، وشرط مجاز الأول أن يكون متحقق الوقوع بعد مثل:
{ إنك ميت وإنهم ميتون } أو يترجح الوقوع كتسمية العصير للخمر خمراً، وما هنا ليس كذلك إذ المعنى ليس لا يأب من لا بد أن يكون شهيداً بعد، ولا من يترجح أن يكون شهيدا، وقد يقال بالغ فى الأمن بتحملها فسماه، باسم متحملها أو لوح لهم للمبالغة بأنهم لا بد أن يكونوا حامليها أو شهيد للنسب، فإنه قدير دله فعيل أى لا يأب المنتسبون للشهادة بتأهلهم لها، وقد يرجح حمل لفظ الشهداء على المتأهل للشهادة بطريق المجاز أو النسب، ليناسب قوله { ولا يأب كاتب أن يكتب }، فإن معناه أمره بأن يكتب، وليكن المعنى هنا أمرهم بأن يشهدوا إلا بأن يؤدوا، أو مفعول يأب يقدر بعن، أى لا يأب الشهداء عن تحمل الشهادة، أو عن أدائها، أو بمن أو منصوبا بدونهما، وما لفظ أكد به عموم وقت إذا قيل كان الرجل يأتى المجلس العظيم يطلب من يشهد فلا يتبعه منهم أحد فنزلت الآية.
{ وَلاَ تَسْأمُوا أنْ تَكْتُبوهُ صَغِيراً أوْ كَبِيراً إلىَ أجَلِهِ }: نهى لأصحاب الحقوق عن أن يملوا كتابة حقوقهم، ولو كانت شيئاً قليلاً، فإن النزاع فى المال القليل أو الحق الحقير ربما أدى إلى فساد عظيم، وجناح شديد، وأيضا تضييع القليل إسراف، وذلك أن صاحب الحق قد يكسل عن كتابته لقلته وهو أنه عنده أو لكونه كسلانا، وقد تكثر حقوقه فيمل الكتابة للكثرة، فنهى عن ذلك، والسامة الملل، ومصدر تكتب مفعول تسأم تضميناً لتسأموا معنى تكرهوا، أو على تقدير من، أو عن أى لا تضعفوا عن أن تكتبوه، أو من أن تكتبوه، والهاء للدين أو الحق أو الكتابة، وقيل المعنى لا تكسلوا عن أن تكتبوه، لأن حقيقة السآمة هنا لا تعم لأنها بعد الشروع فى الفعل الممتد الطويل، فلا يقال لمن لم يشرع سئم فتسأموا كناية عن الكسل، وإنما عدل إلى الكناية به لأن الكسل صفة المنافقين،
{ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } قالى صلى الله عليه وسلم "لا يقل المؤمن كسلت" ، والجواب أنه لا تختص السآمة بالشروع، بل يجوز استعمالها فى شئ لكثرة ارتكاب مثلة، ومعنى صغر الدين أو الحق وكبره قلته وكثرته، وإذا أعيدت الهاء للكتاب، فمعنى صغر الكتاب وكبره كونه قليل الألفاظ أو كثيرها، وأجل الدين أو الحق أو الكتاب وقت حلوله، وإلى أجله حال من الهاء فى تكتبوه، أى مستقرا فى الذمة إلى أجله لا متعلق بتكتبوه، لأن الكتابة لا تتسم إلى أجل الدين، قال ابن هشام وقرئ بالتحتية فى تسأموا وتكتبوه.
{ ذَلِكُم }: الإشارة لمصدر تكتب وهو الكتب بفتح الكاف وإسكان التاء، كأنهُ قيل ذلكم الكتب.
{ أقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ }: أعدلُ أى أكثر قسطا وهو العدل.
{ وأقْوَمُ للشَّهادَةِ }: أعون على إقامتها، لأن يذكرها بالقراءة لها من الكتاب الذى كتبت فيفى، لا يقال قسط بمعنى عدل، بل بمعنى جاز، وقام بمعنى أثبت غيره، فأقسط اسم تفضيل من أقسط بالهمزة بمعنى سلب القسط وهو الجور، وأقوم اسم تفضيل من أقام بالهمزة التى للتعدية أى صيره ثابتاً، وذلك غير مقيس، وأجاز سيبويه قياسه، وقيل إن كانت الهمزة لغير التعدية وذلك أولى من أن يقال بنى اسم التفضيل مما لا فعل له وهو قاسط بمعنى ذى قسط، أى عدل وقويم بمعنى مستقيم، ولم تنقل فتحة واو أقوم لقافه فتقلب الفاء لتحركها فى الأصل، وانفتاح ما قبلها فى الحال لجمود اسم التفضيل كفعل التعجب.
{ وأدْنَى ألاَّ تَرْتابُوا }: أى أقرب إلى أن ترتابوا، أى إلى ألا تشكوا فى قدر الحق، الحق أو جنسه أو صفته أو أجله أو فى الشهادة أو الشهود لو لم تكتبوا، وبعض قدر أدنى فى ألا ترتابوا.
{ إلاَّ أنّ تَكُونَ }: تثبت ولا خبر له.
{ تجَارةً }: فاعل تكون.
{ حَاضِرةً }: يدا بيد.
{ تُدِيرُونَها بَيْنَكم }: بالقبض فى المجلس، فالجملة نعت ثان لتجارة أو حال منها أو من ضميرها فى حاضرة، وفى الجملة توكيد، لأن القبض أفاده لفظ حاضرة، ويجوز أن يكون حاضرة بمعى مطلق حضور التصرف فى المال لطلب الربح، وهذا التصرف تجر حاضر ولو غاب الثمن أو الثمن، فيكون يديرونها حينئذ قيد مخصص، ومعناه تقبضونها فى المجلس وتقبضون الثمن فيه أيضاً، وتسمية نقل السلعة مثلا من ملك صاحبها إلى مشتريها ولو لم ترجع إليه بواسطة أو بها إدارة استعمال للمقيد فى المطلق، ويجوز أن تكون جملة { تديرونها } خبرا لتكون وتجارة اسمها، وقرأ عاصم ينصب تجارة على أنهُ خبر تكون واسمها ضمير مستتر عائد إلى التجارة التى دل عليها المقام، ولفظ تجارة، أى إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة، والاستثناء منقطع عائد إلى قوله: { ولا تسأموا أن تكتبوه }.
{ فَلَيْسَ عَليْكُم جُناحٌ }: ضرر أو إثم.
{ ألاَّ تَكْتُبوها }: أى فى ألا تكتبوها، لأنه لا يتجاحدون إذا قبض كل واحد ما هو حق له من الآخر لئلا يشق عليهم ذلك. قال الضحَّاك والسدى: الآية فيما كان يدا بيد تأخذ وتعطى كما قلنا.
{ وأشْهِدُوا } على المبايعة من تجزئ شهادته.
{ إذَا تَبايَعْتُمُ }: هذا التبايع الحاضر ندبا أو وجوبا خلاف فاقبل هذا نفى للحرج فى ترك كتابة التجارة الحاضرة، وهذا فى الأمر بالإشهاد عليها، لأنه أخف مؤنة وأكثر احتياطا، وقيل المراد بالمبايعة هنا مطلق البيع نقداً وعاجلا أو آجلا فيما قل وأكثر، والجمهور من الأمة على أن الأمر فى هذا الآيات للندب، والنهى للتنزيه لا للوجوب، والتحريم قبل قوله: { وأشهدوا إذا تبايعتم } منسوخ بقوله:
{ فإن أمن بعضكم بعضا } الإية، ونسب لأبى سعيد الخدرى، وقال الشعبى والنخعى وجماعة من التابعين: غير منسوخ، قالوا: نرى أن نشهد ولو على جوزة بقل، وذلك أنهم قالوا الأمر والنهى فى ذلك للوجوب والتحريم، ونسب للجمهور أنهما فى ذلك للندب والتنزيه، فلم ينسخا، وعن الحسن إن شاء شهد وإن شاء لم يشهد، وعن الضحاك: عزيمة من الله ولو على باقة يقل، وكان بن عمر إذا اشترى بنقد أو نسيئة أشهد.
{ ولا يُضَارّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ }: بالقهر على الكتاب أو الشهادة مطلقا أو فى وقت يتيسر له كالليل، ووقت القيلولة والمرض والصلاة، وشدة البول أو الغائط عليه، واشتغاله بما لا بد منه، ككتب ما يفوت أو بعد إعطائه أجره، أو بدعائه إلى أن يشهد أو يكتب ما اعتقد كراهته أو حرمته أو رأيه، أو أن يكتب شهادة من تجوز شهادته أو يحصل له ضرر أو لغيره بكتابته، أو شهادته، لا يلح عليه صاحب الحق فيقول: إن الله أمر كما أن تحبيبانى، ولا أجرة لمن يحمل الشهادة إلا من بعيد على حملها، وقيل له: أن يأخذها والأصل يضار بفتح الراء الأولى وإسكال الثانية كما قرأ به بن عباس رضى الله عنهما على الجزم، ولا ناهية سكنت الأولى تخفيفاً، وفتحت الثانية للتخلص من التقاء الساكنين، وكان بالفتح تخفيفا والفعل مبنى للمفعول، ويجوز أن يكون المعنى لا يضر شاهد ولا كاتب من له الحق أو عليه للامتناع من الكتابة والشهادة مع إمكانهما وتيسرهما وعدم حرمة أو كراهة ما يكتب أو يشهد عليه، أو بالنقص من حقه، أو تأخير الأجل وبإثباته، ولم يعقد عليه أو إزالته، وقد عقد عليه أو تقديمه أو بزيادة على الحق، وعلى هذا فالأصل يضارر بكسر الأولى وإسكان الثانية كما قرأ به عمر رضى الله عنه، وهو مبنى للفاعل، وأدغمت الأولى فيها وفتحت تخليصا من التقاء الساكين، وتخفيفا، وتقدم الكلام فى قوله تعالى:
{ ولا تضار والدة بولدها } وصيغة المفاعلة بين الاثنين فى الآية لموافقة المجرد أو للمبالغة، لكن المبالغة عائدة إلى النهى، وقرأ الحسن: ولا تضار بكسر الراء والتشديد، وهو محتمل للبناء للفاعل والمفعول كقراءة الجمهور، إلا أنه كسر على أصل التخلص.
{ وإِنْ تَفْعَلُوا }: ما ذكر من المضارة أو ما نهيتهم عنه مطلقا فى الآيات السابقة، وهو قول من قال إن الإشهاد والكتابة والمطاوعة الكتابة والشهادة واجبات.
{ فإنَّهُ }: أى فعليكم والضرر.
{ فُسُوقٌ }: أى خروج عما حده الله تبارك وتعالى وعز وجل.
{ بِكمُ }: أى منكم أو الباء للالصاق وهو متعلق بمحذوف نعت لفسوق، أى ثابت معكم جزاءه لا يفارقكم، أو صادر منكم ولاحق بكم من الشيطان والنفس.
{ واتَّقُوا اللّهَ }: أى عقابه بترك المعصية.
{ ويُعلِّمُكمُ اللّهُ }: علم الشريعة لتتوصلوا به إلى مصالح دنياكم وأخراكم، والجملة مستأنفة، ومن جاز أن يكون الحال جملة فعلية فعلها مضارع مثبت مجرد، وقد مقرونة، فواو الحال أجاز أن تكون هذه الجملة حالا مقدرة.
{ واللّهُ بِكلِّ شَىءٍ عَليمٌ }: من جملة ذلك علمه مصالحكم وتعليمه إياكم علم الشريعة، وعلمه بأن التقوى من أسباب العلم كما قال يوسف: { مما علمنى ربّى إنى تركت ملة } الآية وعن ابن القاسم صاحب مالك فى المسائل التى سمعها منه فى عتبة الدار: سمعت مالك يقول: ما زهد عبد واتقى الله إلا أنطقه الله بالحكمة، وقال أبو عمر وابن عبد البر: روينا عن مسروق]: كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه. قال أبو عمرو: وإنما أعرفه بعلمه. ومقتضى الظاهر: (واتقوا الله ويعلمكم الله وهو بكل شئ عليم)، ولكن أظهر للتعظيم، ولكون كل جملة من الجمل الثلاث مستقلة، الأولى فى الأمر بالتقوى، والثانية فى الوعد بالإنعام، والثالثة فى تعظيم شأنه سبحانه وتعالى، والتهديد على أنه لا تخفى عنه طاعة المطيع ومعصية العاصى.