التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَٰتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٢٩
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً }: هذا بيان للنعمة الأخرى مرتبة على قوله: { فأحياكم } أى خلق لهم منافع الأرض ينتفعون بها، ويعتبرون بها. حياتهم الدنيا، واللام: للتعليل أى خلق لأجلكم ما فى الأرض جميعاً تنتفعون به فى الدنيا والآخرة. ولم يخلق فيها شيئاً لغير ذلك. فبعض ما فى الأرض ينتفعون به نفسه لا بد أنكم ودنياكم بلا واسطة، كالثمرة والبطيخ والدلاع والعسل والسكر ونحو ذلك، مما يؤكل أو يتداوى مستقلا وبعض ما فيها تنتفعون به بواسطة غيره كالدباء وأنواع القرع، فإن ذلك ينتفع به بواسطة الطبخ، وكالأدوية المركبة كالجلجلان المسحوق المخلوط بدهن ورد، فإنه نافع للصداع الحاصل من حر الشمس، وكالبحر ينتفع به على السفينة فى تقريب المسافة البعيدة، ووصول أرض لا توصل بالبحر، كجزيرة الأندلس وجربة، وكل ما ينتفع به للدنيا ينتفع به للدين، استدلالا به على وجود الصانع سبحانه وتعالى، وكمال قدرته ويكتسب معرفة لذات الآخرة كما يميل بنعيم الآخرة بنعم الدنيا وينتفع بالدين بكل مخلوق يستدل به على ذلك الجبال والبحار وذات الإنسان وغيره، ويكتسب معرفة عذاب الآخرة من الدنيا، وجمع ما سوى الله مخلوق للتوصل به إلى الله - جل وعلا - لا لذاته، وإن قلت: الآية تناولت ما فى الأرض دون الأرض نفسها، قلت: نعم فى الظاهر، لكن منافع الأرض فى الحقيقة متناولة فى الآية لأن منافعها الدنيوية والأخروية من جملة ما فيها، فهى متضمنة لها مشتملة عليها، وأيضاً تفهم الأرض فى الآية من باب أولى لظهورها وعظمها جرما ونفعا، ولك وجه ثالث هو أن يراد بالأرض الجهة المستفلة بالنسبة للسماء، لا خصوص هذا لجسم السفلى، كما يراد بالسماء تارة الجهة العلوية لا خصوص ذلك الجسم العلوى، فتشتمل الآية باللفظ على هذه الأرض وما فيها، كأنه قيل خلق لكم ما تحت السماء من هذه الغبراء وما فيها. وتفيدنا الآية أن الأرض وما فيها كله مباحان للإنسان وحلال لنا أكلا وشربا ولبسا وركوبا ومداواة وغير ذلك، إلا ما قام عليه دليل، ولا يخفى أن المراد مجموع ما فى الأرض مخلوق مجموع بنى آدم وبعض ما فيها اشتركوا فيه، وبعض اختص به بعض، كالحرير والذهب للمرأة. وجميعاً حال من ما مؤكدة له. كما قال ابن هشام: لا توكيد لما محذوف الرابط أى جميعه، كما تقول كله، خلافاً لابن مالك وابن عقيل.
{ ثُمَّ اسْتَوَى إلىَ السَّمآءِ }: بعد خلق ما فى الأرض. ومعنى استوائه تعالى إلى السماء قصده إليها وتوجيه الإرادة إليها بأن يخلقها. يقال استوى زيد إلى كذا كالسهم المرسل إذا قصده من غير أن يميل إلى غيره. فكذا خلق ما فى الأرض وخلق بعده السماوات بلا خلق شىء بين خلقهن، وخلق ما فى الأرض. ووزن استوى: افتعل بمعنى تكلف السواء وهو أصل معناه. وأطلق فى اللغة على الاعتدال: تسوية وضع الأجزاء، تقول: استوى زيد على الأرض أى جلس عليها جلوسا مستوية إليه أعضاؤه التى جلس بها معتدلا. ولا يصح حمل الآية على ذلك، لأنه من خواص الجسم والله - جل وعلا - ليس جسما ولا عرضا. ولو كانت الآية على هذا المعنى لقال: ثم استوى فى السماء أو على السماء، لا استوى إلى السماء، لكن الله - جل وعلا - لا يوصف بهذا المعنى. ولو قال فى السماء أو على السماء لكان ما ولا بالقهر والغلبة. ويجوز تأويل الآية بهما، لكن تأويلها بالقصد والإرادة أولى، لأنه أقرب إلى أصل الاستواء وهو تكلف السواء، ولتعديته بإلى وللتسوية المرتبة عيه بالفاء. وعن ابن عباس: استوى إلى السماء ارتفع إليها، وفى رواية صعد. والمراد: ارتفاع أمره أو صعد أمره أو ارتفع إليها، وصعد بقصد وإرادة. قال الطبرى: على أمره وقدرته وسلطانه. وقال ابن كيسان: قصد إلى السماء أى بخلقه واختراعه، وذلك لأنه تعالى منزه عن الانتفال والحلول. والمراد بالسماء الجهة العليا التى فيها السماوات، لأنه ليس فيها حين الاستواء إليها سماء ولا سماوات، فمعنى قوله:
{ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ }: خلق حينئذ سبع السماوات التى تعلمون الآن فتسويتهن خلقهن مستويات الكيف والجهة، والملاسة والغلظ والقوة، وعدم الفطور وكون كل فى سمة الأخرى، ولو تفاوتن كبراً وجسما، بعض أكبر من بعض، بعض من فضة وبعض من ذهب، وغير ذلك، فالهاء للسماوات التى هن هؤلاء الهياكل العلوية، المدلول عليهن بلفظ السماء، بمعنى الجهة العليا، وذلك شبيه بالاستخدام البديعى. ويجوز أن يراد بالسماء الجهات العلوية، فيكون من الاستخدام، ويجوز أن يراد بالسماء حقيقة ذلك الهيكل العلوى المشرف، فتصدق على السبع من غير أن تكون موجودة حال الاستواء إليها، بل المعنى استوى إلى حقيقة السماء بإرادة خلقها، فخلقها سبعاً، فرجع الهاء فى سواهن إلى ما دلت عليه الحقيقة من إفراد. أو أراد بالسماء: جنس السماوات، فهى بمنزلة الجمع. كأنه قيل: ثم استوى بالقصد إلى السماوات بإرادة خلقهن فخلقهن سبعاً، والجمعية فى السماء على هذه الأوجه المذكورة فيها معنى الجمعية للسماء، إنما هى من أل، ولا يمنع من ذلك المذكور من عود ضمير الجماعة عدم وجود السماء حينئذ، لأن الكلام استخدام أو شبيه به، ولو ضعف السعد ذلك بتلويح، وليس كما قال لأن لهذا وجها يدعو إليه أن الأصل فى الضمير أن يعود إلى متقدم، وقيل إن السماء جمع سماءة أو سماوة وليس كذلك عندى. ولك أن تقول: الهاء عائدة إلى مبهم مفسر بقوله سبع. كقولك نعم رجلا زيد أو قولك ربه فتى، وقول أبى بكر من النظر:

* هــو الـدهـــر يـأســو *

إذا جعلنا الدهر بدلا من هو أو بيانا، ولم نجعل هو ضمير شان، والدهر مبتدأ وقول القائل:

* هـى الـدنيــا تقــول بمــلء فيهــا *

على حد ما قلت: وفى عود الهاء إلى مبهم مفسراً بما بعدها، تفخيم وتشويق وتمكين فى نفس السامع، حاصلات من الإبهام المعقب بتفسير. فهذا الوجه أولى لهؤلاء الحاصلات، ولا يرد على وجه الجنسية فى السماء، وعود ضمير الجماعة كما أورده السعد، لأنا لا نسلم أنها لا تكفى. وقول العرب: الدينار الصفر، والدرهم البيض. فنعتوا المفرد بالجمع لأنه جنسه. ولقوله تعالى: { والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا } فاستثنى الجماعة من المفرد لأنه جنس. وسبع: حال من الهاء على الأوجه السابقة غير عود الهاء إلى مبهم أو بدل بيان على عودها إلى مبهم بناء على جواز كون المعطوف عليه عطف بيان ضميراً، أو جواز بيان النكرة بالنكرة، والمعرفة بالنكرة، والنكرة بالمعرفة، كالمعرفة بالمعرفة، والأفلاك على ما يذكره أهل الأرصاد تسعة، فإن زعموا أن السماوات هى الأفلاك كذبهم القرآن. لأن السماوات سبع وإن زعموا أن الأفلاك غير السماوات فلا دليل صحيح لهم، وإن زعموا أن السماوات أفلاك سبع، والعرش ثامن، والكرسى تاسع، ما صدقوا ولم يثبت فى القرآن ولا فى السنة ولا فى الإجماع دليل على خلاف هذا.. والله أعلم.
والآية دليل على أن الأرض وما فيها مخلوقان قبل السماء أما على أن المراد بالأرض فى الآية جهتها فواضح كما مر، وأما على أن المراد بها هذا الجسم، فلأن خلق ما فيها قبل السماء مشعر بخلقها قبل السماء، لأن المتبادر أنه خلق ما فى الأرض، وجعل الأرض مستقرة، لا أنه مخلوق فى الهواء ثم جعل له الأرض مستقرا، وإنما استفدنا الأرض من لفظة ثم، لأنها للترتيب والانفصال ولا يشكل على ذلك قوله تعالى:
{ والأرض بعد ذلك دحاها } أى بعد خلق السماوات، لأن المتأخر عن خلق السماوات إنما هو دحوها، أى يبسطها، فالله - جل وعلا - خلق الأرض مكورة، ثم خلق سبع سماوات، ثم بسط الأرض، وإن قلت لا يلائم بحسب العادة وما يظهر لنا أن يخلق لنا ما فى الأرض وهى كرة. قلت هو منكر ممكن لعظمها فكوريتها لا تمنع من تمكن الأشياء عليها، ويمكن عود الإشارة فى قوله: { بعد ذلك } على وصف السماء، وهو تسويتها سبع سماوات، فجرم الأرض مقدم على جرم السماء، ووصف السماء وهو تسويتها سبعاً، مقدم على وصف الأرض وهو بسطها، وهذا يناسبه أن تجعل السماء فى قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى إلىَ السَّمآءِ } فى فضله جسما علويا. موجودا بعد خلق الأرض فى غلظة سبع سماوات، دحا الأرض بعد فتقه سبعاً. وهذا ما ظهر لى بعد استفراغ الوسع من الأبحاث، وممن ذكر تقدم خلق الأرض على خلق السماوات: السبكى. وعن الحسن: أنه كان بدء خلق الأرض قبل أن يبسطها، كانت فى موضع واحد، موضع بيت المقدس، ثم خلق السماوات، ثم بسط الأرض فقال لها: انبسطى أنت كذا، وانبسطى أنت كذا. والمشهور أن الدحو من تحت الكعبة. قال عطاء: بلغنى أن الأرض دحيت من تحت الكعبة، ولا يغايره قول بعض من مكة دحيت الأرض لأن الكعبة فى مكة. وعن مجاهد: كان البيت قبل الأرض بألفى سنة، ومدت الأرض من تحته. وعن ابن عباس: فى قوله تعالى: { وهو الذى خلق لكم ما فى الأرض جميعاً.. } إلخ. وقوله عز وجل: { ءأنتم أشد خلقاً أم السماء.. } إلخ. أنه خلق الأرض، ثم خلق السماوات، ثم عاد فدحى الأرض، وخلق جبالها وأنهارها وأشجارها ومرعاها. ثم استوى إلى السماء أى قصدها بالفتق سماوات سبعاً، وذكر السعد: أن الأرض خلقت وبسطت وخلق ما فيها، ثم خلق السماء. وروى مقاتل: أن السماء مخلوقة قبل الأرض، وعلى روايته نجعل ثم بمعنى الواو وللترتيب الذكرى بلا تراخ أو للترتيب والتراخى فى العظم والفضل، لا فى الإيجاد. وإن قلت: كيف صح للسعد أن يخبر ببسط الأرض قبل خلق السماء مع قوله تعالى: { والأرض بعد ذلك دحاها } }. قلت: كأنه جعل البعدية بعدية إخبار. وذكرك ثم، فإنه يقال: أعجبنى ما فعلت اليوم، ثم ما فعلت أمس أشد إعجابا لى. كقولك فى غير أداة ترتيب ألم أعطك؟ ألم أرفع قدرك؟ ألم أدفع عنك؟ تقول: هذا ولو كان ما أخرت ذكره فى هذا الكلام مقدماً فى الوجود، أو كأنه جعل قوله: { دحاها } مستأنفاً متصلا بقوله: { أخرج } غير عامل فى بعد. ويقدر لبعد عاملا يدل عليه، أنتم أشد خلقا، أى تدبروا أمر الأرض واكتسبوا معرفة حالها تنظروا: هل أنتم أشد أم هى أيضاً؟ وفى هذا تكلف. والتحقيق ماذكرته لك أولا من أن الأرض قبل السماء، وبسط الأرض بعد تسوية السماء جميعاً بين الآيات. وبذلك قال الحسن كما مرت روايته، ذكرها الشيخ هود، وذكر الزمخشرى عنه: أن الله - جل وعلا - خلق الأرض فى موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق ثم أصعد الدخان وخلق منه السماوات وأمسك الفهر فى موضعه وبسط منه الأرض فذلك قوله: { كانتا رتقا } وهو الالتزاق والله أعلم. وسئل السبكى هل كانت الخيل قبل آدم أم خلقت بعده؟.. وهل خلق الذكور قبل الإناث أو الإناث، قبل الذكور؟ وهل العربيات قبل البراذين أو البراذين قبل العربيات؟ وهل ورد فى الحديث أو الأثر أو السير أو الأخبار ما يدل على ذلك؟ فأجاب بأن تختار أن خلق الخيل كان قبل آدم عليه السلام بيومين أو نحوهما، وأن خلق الذكور قبل الإناث، وأن العربيات قبل البراذين. أما قولنا أن خلقها كان قبل آدم فالآيات فى القرآن سنذكرها آية آية، ونذكر وجه الاستدلال. والمعنى فيه وهو أن الرجل الكبير يهيأ له ما يحتاج إليه قبل قدومه. وقال تعالى: { خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ جَمِيعاًً } فالأرض وكل ما فيها مخلوق لآدم وذريته إكراماً لهم. ومن كمال إكرامهم وجودها قبلهم فجميع ذلك مقدم على خلقه. ثم كان خلق آدم بعد ذلك آخر الخلق، لأنه وذريته أشرف الخلق، ألا ترى أن النبى - صلى الله عليه وسلم أشرف من الجميع؟ ولذلك كان آخر الأنبياء - صلى الله عليه وسلم - وتمام كمال الوجود، وما سوى آدم مما هيئ له حيوان وجماد. والحيوان أشرف من الجماد، والخيل من أشرف الحيوان غير الآدمى فكيف يؤخر خلقها عنه؟ فهذه الحكمة تقتضى تقديم خلقها مع غيرها من المنافع، وإنما قلنا بيومين أو نحوهما، لحديث ورد فيه، يتضمن أن بث الدواب يوم الخميس، والحديث فى الصحيح لكن فيه كلام. ولا شك أن خلق آدم عليه السلام كان يوم الجمعة. والحديث المذكور يتضمن أنه بعد العصر، فلذلك قلنا: إنه بيومين أو نحوهما على التقريب، وأما التقدم فلا يتردد فيه. والمعنى فيه قد ذكرناه، وأما الآيات التى تدل له فمنها قوله تعالى: { خَلَقَ لَكُم مَّا فِى الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } ووجه الاستدلال أن الآية الكريمة اقتضت خلق ما فى الأرض جميعاً، قبل تسوية الرحمن السماء، ومن جملة ما فى الأرض الخيل، فالخيل مخلوقة قبل تسوية السماء عملا بالآية ودلالة على الترتيب، وتسوية السماء قبل خلق آدم عليه السلام، لأن تسوية السماء كانت فى جملة الأيام الستة لقوله تعالى: { رفع سمكها فسواها } إلى قوله جل وعلا: { والأرض بعد ذلك دحاها } ودلالة الحديث الصحيح المجمع عليه أن خلق آدم عليه السلام يوم الجمعة قبل كمال المخلوقات. أما آخر الأيام الستة إن قلنا إن ابتداء الخلق يوم الأحد كما يقول المؤرخون وأهل الكتاب وهو المشهور عند أكثر الناس، وأما فى اليوم السابع، فهو خارج عن الأيام الستة، كما يقتضيه الحديث الذى أشرنا إليه فيما سبق، الذى فى صحيح مسلم صدره: "إن الله تعالى خلق التربة يوم السبت" ، وإن كان فيه كلام. وأما تأخر خلق آدم عليه السلام فلا كلام فيه. فثبت بهذا أن خلق الخلق قبل خلق آدم عليه السلام، وهو من جملة المخلوقات فى الأيام الستة. قلت: قال الشيخ هودرحمه الله : خلق الله آدم آخر ساعات النهار من يوم الجمعة، بعد ما خلق الخلق كلهم. انتهى. ويأتى كلام فى تفسير قوله تعالى: { إن ربكم الله الذى خلق السماوات والأرض فى ستة أيام } ومن الآيات قوله تعالى: { وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العلم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون } وجه الاستدلال بهذه الآية أن الأسماء كلها إما أن يراد بها نفس الأسماء أو صفات المسميات ومنافعها، وعلى كلا التقديرين المسميات موجودة فى ذلك الوقت، للإشارة إليها فى قوله: { هؤلاء } ومن جملة المسميات: الخيل فلتكن موجودة حينئذ، والأسماء عام بالألف واللام مؤكدة بقوله تعالى: { كلها } فتقوى العموم والمسميات لا بد من إرادتها بقوله تعالى: { ثم عرضهم } وقوله تعالى: { بأسمائهم } فهذا دليل قاطع فى ذلك والعموم شامل للخيل. فمن رأى دلالة العلوم قطعية يقطع بدخولها، ومن لا يرى ذلك يستدل به فيه، كما يستدل بسائر الأدلة الشرعية. ومن الآيات قوله تعالى فى سورة: { آلم تنزيل } }، { { الله الذى خلق السماوات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ثم استوى على العرش } وجه الاستدلال اقتضى بها خلق ما بينهما فى الستة أيام وقد قلنا إن خلق آدم عليه السلام خارج عن الأيام الستة بعدها أو حاصل فى آخرها بعد خلق غيره كما سبق. ومن الآيات قوله تعالى فى سورة ق: { ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما فى ستة أيام وما مسنا من لغوب } وجه الاستدلال بها ما قدمناه فيما قبلها. فهذه أربع آيات تدل على ذلك فيها كفاية. وأما قولنا: إن خلق الذكور قبل الإناث فلأمرين: أحدهما شرف الذكور على الإناث، والثانى حرارته، وإن كانت الإناث من جنس واحد من مزاج واحد فأحدهما أكثر حرارة من الآخر. فقد جرت عادة القدرة الإلهية بتكوين أقواهما حرارة قبل الآخر. والذكر أقوى حرارة من الأنثى، فناسب أن يكون وجوده أسبق، ولتحصل المنة به أكثر، ولذلك كان خلق آدم عليه السلام قبل خلق حواء، ولأن أعظم ما يقصده له الخيل الجهاد، والذكر فى الجهاد خير من الأنثى، لأن الذكر أجرى أعنى أشد جرياً وأقوى جراءة، ويقاتل مع راكبه، والأنثى بخلاف ذلك، وقد تقطع بصاحبها وهو أحوج ما يكون إليها إذا كانت وديقا ورأت فحلا. ولا يرد على ذلك ركوب جبريل عليه السلام أنثى، لما جاز البحر بموسى عليه السلام، لأن ذلك لركوب فرعون فحلا، فقصد طلبه للأنثى، وعجز فرعون عن إمساك رأسه، وأما قولنا: إن العربيات قبل البراذين فلما روى من حديث إسماعيل - عليه السلام - أن الخيل كانت وحوشا، وأن الله تعالى ذللها لإسماعيل. رواه ابن عباس، فهى مخلوقة قبل آدم متوحشة، إلى أن ذللها الله - عز وجل - لإسماعيل، أو ركبت ثم توحشت إلى أن ذللت له، روى الترمذى عن ابن عباس - رضى الله عنهما - لما أذن الله - تبارك وتعالى - لإبراهيم وإسماعيل - عليهما الصلاة والسلام - لرفع القواعد، فقال الله تبارك وتعالى: "إنى معطيكما كنزاً ادخرته لكما" ثم أوحى الله تعالى إلى إسماعيل: "ان اخرج إلى أجياد فادع يأتيك الكنز" فخرج إلى إجياد ولا يدرى ما الدعاء ولا الكنز، فأفهمه الله - تعالى - الدعاء، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته وأمكنته من نصايتها، وذللها الله تعالى. ولأن العربيات أشرف وآصل، والبرذون إنما يكون بعارض أوعلة، إما فيه أو في أبيه أو فى أمه. ولم تكن البراذين تذكر، فيما خلا من الزمان، ألا ترى إلى قصة إسماعيل وقصة سليمان عليهما السلام؟ وإنما البراذين ما انتخس من الخيل. حتى اختلف العلماء هل يسهم له كما يسهم للفرس العربى أو لا؟ وفى حديث مراسيل مكحول فى بعض ألفاظه: للفرس سهمان وللهجين سهم. فهذه الرواية تقتضى أن الهجين من لا يسمى فرساً، والهجين هو البرذون. وبالجملة البراذين حثالة الخيل، وما كان الله تعالى ليخلق من الجنس حثالة فى الأول. والله أعلم. قال الشيخ هود -رحمه الله - عن الكلبى: خلق الله كل شىء قبل آدم، وأشار بخلقه السماوات وما فى الأرض إلى أنه قادر على جمع مواد الإنسان بعد تلاشيها، وعلى إحيائها، وأشار إلى أنه عالم بها وبمواقعها بقوله:
{ وَهُو بِكُلِّ شَىءٍ عَلِيمٌ }: الجزئيات والكليات، والمفصلات والمجملات أفلا تعتبرون أن من قدر على خلق السماوات والأرض، وما فيها وهْن، أعظم قادر على بعثكم؟ فإن إتقان هذا الفعل العظيم، لا يتصور إلا من عالم حكيم، لا يعجزه ما تلاشى بلا نقص منه ولا زيادة إليه، فهذا رد على إنكار البعث، وإثبات لكونه تعالى رحيما وحكيما، إذ خلق ما خلق نفعا للخلق، كأنه قيل: هو عليم بمصالحهم فخلق ما خلق على وجه الحكمة، وذلك أيضاً تعليل جملى مستأنف معنوى، كأنه قيل: خلق ذلك لأنه بكل شىء عليم، وليس التعليل مستفادا من الواو كما زعم بعضهم. قال ابن هشام قال الخازنجى تكون الواو للتعليل، وحمل عليه الواوات الداخلة على الأفعال المنصوبة فى قوله تعالى:
{ أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين يجادلون } }، { { أم حسبتم أن تدخلو الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين } }؟ { { يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } }. انتهى. وها هو وهى متحركة عند نافع، وروى عنه قالون إسكانها، وكذا أسكنها أبو عمرو والكسائى، ووجه تسكينها تشبيههما مع ما دخل عليهما من واو أو فاء أو لام بفعل، بفتح الفاء وضم العين، فعل ككرم أو أسماء كعضد وما كان من الثلاثيات مضموم الوسط ومكسورها فيجوز تخفيفه بالإسكان. وسكنها قالون والكسائى أيضاً مع ثم، فى قوله تعالى: { ثم هو يوم القيامة } والباقون يحركون هاءهما.