التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ
٣٤
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَإِذْ } معطوف على إذ الأولى، أو معمول لمحذوف من جملة المعطوف أو المحذوف مستأنف. وذلك مثل أن يعطف اذكر أو يستأنف به أو يقدر إطاعة الملائكة: { وإذ قال ربك للملائكة } فيعطف إطاعة الملائكة إذا.. إلخ. على { قالوا أتجعل } }.. إلخ مع إذ الأولى المتعلقة بقالوا إن علقت فيه، وهذا شروع فى ذكر نعمة رابعة على الناس بعد الثلاثة، فى قوله: { وإذ قال ربك } }. { قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ }: كلهم على الصحيح بدليل فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس. حيث أكد بما يفيد الشمول. وقرئ الكلام بالفاء الدالة على السببية فإنها للسببية عن الأمر بالسجود، أى سجدوا كلهم لأجل أمره إياهم. وقيل ملائكة الأرض. وقرأ أبو جعفر (بضم التاء) إتباعاً لجيم اسجدوا. والفصل بالساكن ضعيف واستهلاك حركة الإعراب لحركة الإتباع كهذه القراءة. وقراءة الحمد لله [بكسر الدال] لغة ضعيفة فبما قال الزمخشرى وأظن أن معنى كون ذلك لغة، أن قوما من العرب يفعل ذلك فى بعض كلامه جوازا لا وجوبا.
{ اسْجُدُواْ لآدَمَ }: سجود تحية وتعظيم لا سجود عبادة، فيمكن أن يكون أمرهم بالانحناء بدون إيصال رءوسهم الأرض أو بإيصالها الأرض، وذلك سواء لأنه على كل حال سجود تحية لا عبادة. وقال الجمهور انحناء وخضوع بلا وصول للأرض، بناء على أن السجود إلى الأرض لم يجز لغير الله، وأصحاب القول الأول قالوا: مباح لغيره تحية وتعظيما لا عبادة، حتى نسخ التحية الانحنائية كلها على وصول الأرض، أو على غير وصولها، بتحية الإسلام، وهو قولنا السلام عليكم. وقوله صلى الله عليه وسلم:
"لو أمر أحد بالسجود لأحد لسجدت المرأة لزوجها" يحتمل وصول الأرض على أن الملائكة لم تصلها، ويحتمل سجود العبادة، ويحتمل الانحناء بلا وصول تعظيما وتحية، وتستثنى الملائكة، فالمراد أحد من الناس والجن. ولا يدل قوله: { فقعوا له ساجدين } على وصول الأرض، لأن من جثى على ركبتيه واقع، وكذا كل من نكس أعلاه. وممن قال سجود انحناء: على بن أبى طالب وابن مسعود وابن عباس. وقال الشعبى: إنما كان آدم كالقبلة، والمعنى إلى آدم، فاللام بمعنى إلى، وفى ذلك على كل حال كرامة لآدم - عليه السلام - ويجوز كونها بمعنى عند، أى اسجدوا عند آدم، ومن اللام بمعنى إلى، كقول حسان:

ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا عن هاشم ثم منها عن أبى حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعرف الناس بالقرآن والسنن

وكأنه قال ذلك حين استخلفوا عثمان، ولم يستخلفوا عليا، أى من صلى إلى قبلتكم، ويجوز كونها للتعليل، أى اسجدوا لأجل آدم، فإذا كانت اللام بمعنى إلى أو عند أو للتعليل، فالسجود إنما هو عبادة لله تعالى بوصول الأرض، وإذا كانت بمعنى إلى فآدم قبلة قطعاً تنص عليه إلى. وأما إذا كانت بمعنى عند فكونه قبلة متبادر، وإذا كانت للتعليل فليس فى ذلك ما يدل على أنه قبلة لهم فى سجودهم. ووجه كونه قبلة لهم تعظيمه أوامرهم باستقباله فى السجود له تعالى لكونه سبباً لهذا السجود الذى أمرهم به الله، أو لكونه ذريعة لهم إلى استيفاء ما قدر لهم من الكمالات، مثل الصلاة خلق سيد الأولين والآخرين محمد - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء وتكلمهم له وإيحاء القرآن ومناولته والسنة وسائر كتب الله، تبارك وتعالى، وسائر وحيه خصوصاً جبريل، بل يكفيهم كون جبريل الذى يلى غالب ذلك منهم، ومثل نزولهم ليلة القدر، وحضور مجلس القرآن والذكر والعلم وكتابة حسنات بنى آدم ونحو ذلك. ولكونه ذريعة إلى ظهور تفاوتهم فى الدرجات، فأفضلهم جبريل لملاقاته سيد الأولين والآخرين وسائر الأنبياء، أو لكونه أصلا لخلق الخلق كلهم، الملائكة وغيرهم الأجسام والأعراض، لأن سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يكون منة، وهو لولاه لم تخرج الدنيا من العدم، وأمرهم باستقباله شكراً لما أنعم عليهم بوساطته، ولتعليمه إياهم أسماء الأشياء بأمر الله - عز وجل - أو لجميع ذلك. وهذه الاحتمالات كلها تتأتى إذا قلنا ذلك السجود خضوع لآدم، بإيماء أو بوصول الأرض. ويزداد هذا بأنه أمرهم بالسجود له ليعترفوا بفضله، ويؤدوا حقه الذى يتضمن كلامهم نقصه، ويعتذروا عما تكلموا فيه، وتتأتى جميع الأوجه أيضاً إذا قلنا: إنه لا سجود إيماء هناك بوصول الأرض، ولا بدون وصولها، بل أمرهم بالتذلل والانقياد بالسعى فى تحصيل ما تتعلق به حياتهم، ويتم به كمالهم. فإن أصل السجود مطلق التذلل. قال زيد الخير:

بجيش يظل البلق فى حجراته ترى الأكم فيه سجدا للحوافر

وفى رواية: بجمع يظل البلق البيت. فالأكم جمع أكمة وهو الموضع المرتفع من الأرض، أى ترى المواضع المرتفعة تحت حوافر الخيل، كأنها تنخفض لحوافرها تذللا. وقال أعرابى من بنى أسد:

فقدن لها وهما أبيا خطامه وقلن له اُسجد لليلى فأسجدا

أى قادة النوق إلى ليلى أو لأجل ليلى جملا ضخماً ممتنع الرسم، وقلن اتضع لليلى فاتضع بحط رأسه لتركبه، يقال: أسجد البعير بوزن أكرم بمعنى طأطأ رأسه ليركب، ويجوز كون همزته للتعدية أى اسجد رجليك ويديك ورأسك، فأسجدهن آى وضعهن إلى جهة الأرض، والسجود شرعاً وضع الجبهة والأنف والرجلين والركبتين واليدين على الأرض على قصد العبادة.
{ فَسَجَدُوا }: له.
{ إِلآَّ إِبْلِيسَ }: استثناء متصل على سبيل المجاز، لما كان بينهم متعبداً بعبادتهم صار كأنه واحد منهم، فسمى باسم الملك مجازا بالاستعارة. ويجوز أن يكون منقطعاً. ومن زعم أن إبليس من الملائكة فقد قال بعض أصحابنا إنه يشرك لأن الله - عز وجل - قال:
{ كان من الجن } وأقول: لا يشرك لأنه تأول ذلك من الاستثناء، لأن أصله الاتصال. وتأول قوله: { كان من الجن } وأنه كان من الجن فى فساد افعل، والاعتقاد والقول، ومن الملائكة أصاله وجسما ونوعا، كما نقول عمر من الشياطين وحاله والبهائم، فهو يقول: إن إبليس عدو الله من الملائكة، لكنه فسق كما تفسق الجن، فيصير البحث مع ذلك القائل فى عصمة الملائكة. والحق أنهم معصومون لقوله تعالى: { وهم بأمره يعملون } أى لا يعملون إلا بأمره، وأنه ليس من الملائكة لأن قوله: { كان من الجن } ظاهر فى أنه واحد منهم، وأن نسبته فيهم، وهذا حقيقة الكلام والمتبادر منه، والتأويل المذكور مجاز، وخلاف المتبادر، فلا يحمل عليه بلا قرينة واضحة، وزعم قومنا أن ابن عباس روى أن من الملائكة نوعاً يتوالدون، يقال لهم الجن، ومنهم إبليس. وذكر أصحابنا أن من قال الملائكة ذكوراً وإناثا مشرك، وكذا إن قال: يتوالدون. وقيل لا يشرك إن قال ذلك فى أفراد منهم أو فى نوع، بل إن قال فيهم عموماً لأن قائل هذا تأول قول ابن عباس، الذى زعموا عنه. ومن أطلق الإشراك ولو على من قال ذلك فى أفراد أو نوع، يحمل كلامه على من قال ذلك تعمدا لمخالفة القرآن أو جهلا لا على من قاله اعتمادا على ما روى عن ابن عباس، وكذا يحمل قوله بإشراك من قال: إن إبليس من الملائكة على من قاله جهلا أو عنادا للقرآن، لا على من قاله اعتمادا على ما روى عن ابن عباس مثلا، وكذا الكلام فى عصمة الملائكة، فقد قيل إن الملائكة ليسوا كلهم معصومين، ولكن الغالب فيهم العصمة، كما أن الإنس ليسوا معصومين، لكن القليل فيهم العصمة، ويجوز أن يكون الجن أمروا بالسجود كما أمر الملائكة وأن فى الكلام حذفا تقديره: وإذا قلنا للملائكة والجن اسجدوا لآدم فسجدوا، يعنى الملائكة والجن، إلا إبليس فيكون الاستثناء متصلا. وإن قلت: كيف تسجد الجن وهم شرور؟ قلت: يسجد مؤمنوهم طوعا وإخلاصا. ويسجد مشركوهم ومنافقوهم كارهون فى قلوبهم غير مخلصين. وإن قلت: إذا قدرت محذوفا هكذا: وإذ قلنا للملائكة والجن، فما الدليل عليه؟.. قلت: يدل عليه بعض دلالة استثناء إبليس، ويدل عليه أنه إذا أمر الكبار بالسجود وهم الملائكة، فأولى أن يؤمر به الصغار وهم الجن. قيل: ويحتمل أن يكون الجن قسمين: قسم ملائكة تخالف سائر الملائكة غير معصومة، وخلقت مما خلقت منه الشياطين وسائر الجن، وقسم شياطين، وإن إبليس - أعاذنا الله منه - من القسم الأول لا من سائر الملائكة، فصلح عليه الوقوع فى المعصية، فيكون النور الذى خلقت منه الملائكة قسمين: قسم هو نور محض غير نار، ومنه خلقت الملائكة المعصومون. وقسم هو نار، ومنه خلقت الملائكة غير المعصومة ومنهم إبليس. وخلقت الشياطين من نار ودخان مختلطين، كما قال الله تبارك وتعالى: { من مارج من نار } أو قيل المارج اللهب الخالص عن الدخان وقال الله تبارك وتعالى حكاية عن عدوه: { خلقتنى من نار } وحقيقة النار والنور واحدة، وهى الجوهر المضىء، غير أن ضوء النار مكدر بالدخان مستور به. فإذا كانت النار مصفاة عن الدخان كانت محض نور، وإلا تزايل الدخان حتى ينطفئ نورها، ويبقى الدخان الخالص، وأصل النور مطلقاً الإحراق والحرارة، ألا ترى الشمس والقمر كيف كانت فيهما الحرارة؟ ألا ترى النار؟ ألا ترى ما وردت فى الأحاديث من أن الأنوار تحرق، كموسى حين قصة طلب الرؤية، لولا الله لاحترق بالأنوار، وجبريل حين وصل موضعا فوق السماء السابعة فوقف وقال: لو دخلته لاحترقت، وذلك ليلة الإسراء... والله سبحانه وتعالى أعلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجن من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم" رواه مسلم عن عائشة - رضى الله عنها - وروى عن ابن عباس والحسن: إن إبليس أبو الجن، كما أن آدم أبو البشر، ولم يكن قط ملكاً. قال الحسن واسمه الحارث: وقال شهر بن حوشب: كان من الجن الذين كانوا فى الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبوه صغيراً، فتعبد مع الملائكة وخوطب معها، وحكاه الطبرى عن ابن مسعود. وزعم الطبرى أن الراجح قول من قال: إن إبليس كان من الملائكة، وقال: ليس فى خلقه من نار، ولا فى تركيب الشهوة والنسل فيه، حين غضب عليه ما يدفع أنه كان من الملائكة وقوله عز وجل: { كان من الجن } معناه أنه عمل عملهم. بل الملائكة قد تسمى جنا لاستتارهم.
قال الأعشى فى سليمان عليه السلام:

وسخر من جن الملائك أنفسا قياماً لديه يعملون له جرما

قال عياض ومما يذكرونه قصة إبليس وأنه كان من الملائكة ورئيساً فيهم ومن خزان الجنة، وهذا لم يتفقوا عليه، بل الأكثر ينفون ذلك ويقولون إنه أبو الجن. وإن قلت قد أسبقت أن لفظ إبليس عجمى، فليس مشتقاً من الإبلاس، بمعنى انقطاع الرجاء. أو بمعنى البعد عن الخبر. قلت: نعم لكن روى عن ابن عباس أنه مشتق من أبلس بمعنى بعد عن الخير، أو بمعنى انقطع رجاه كقوله تعالى: { فإذا هم مبلسون } وعليه فهو لفظ عربى بوزن إفعل لكن تشكل عليه منعه من الصرف، فلعله مشتق من ذلك فى لغة العجمة على أنه وجد فيها تلك المادة بهذا المعنى، فيمنع للعلمية والعجمة. ووزنه ما ذكر، لأنه لا مانع من بيان الزيادة فى اللفظ العجمى المشتق فى العجمة، وذلك متبين فى لغتنا البربرية، اللهم إلا أن يقال: إنه عربى منع صرفه لشذوذه وقلته. وزعم الزجاج أن وزنه فعايل وكأنه يراه أعجمياً، ولم يظهر له فيه تصرف على لغة العجم فحكم بأصالة حروفه غير المثناة، والمناسب على هذا أن يقول أيضاً بأصالة المثناة كالهمزة، وقيل: كان اسمه بالسريانية عزازيل كما سماه به أبو نصر فتح النفوشى التملوشائى -رحمه الله - فى اليونية. وبالعربية الحارث. ولما عصى غير اسمه فسمى إبليس. وغيرت صورته. قيل كان ملكاً فغيرت صورته عن صورة الملائكة وأجسامهم، فكأنه على هذا القول ملك منسوخ، ونسب لابن عباس وهو ظاهر ترجيح الطبرى السابق:
{ أَبَى }: امتنع عما أمر به من السجود، فإن الإباء الامتناع باختيار، لا بطبع ولا بإكراه.
{ وَاسْتَكْبَرَ }: بالغ فى الترفع عن أن يفعل فعلا فيه خضوع لآدم، واعتراف بفضله وسعى فى صلاحه وعن أن يتخذ آدم وصلة فى عبادة ربه - عز وجل - فإن التكبر أن يذعن الرجل إلى ما تدعيه نفسه من أنه أكبر من غيره، ويطلق أيضاً على ما يقتضيه ذلك الإذعان من فعل أو قول، مثل: أن يعرض عن الفقير أو يقول فيه قولا غير حسن فيسمى ذلك الإعراض أو ذلك القول تكبرا، هذا ما ظهر لى وهو إن شاء الله أولى من قول بعض إن التكبر أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره والاستكبار المبالغة فى ذلك الإذعان لتعاطيه التزين بما ليس عنده، ويطلق على المبالغة فيما يقتضيه ذلك الإذعان. وهذا أولى من أن يقال هو طلبه أن يرى نفسه أكبر من غيره بالتزين بما ليس عنده، وقيل الاستكبار الدخول فى الكبرياء، وإن قلت إيهما سبق الاستكبار أم الإباء؟.. قلت: أما فى الخارج فالسابق الإباء لما أبى ظهر للملائكة أنه استكبر، وأما فى نفس الأمر فالسابق الاستكبار فإنه لما اعتقده تولد منه الإباء. وقال ابن القاسم صاحب مالك: قال مالك بلغنى أن أول معصية كانت الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر وشح آدم فى أكله من شجرة قد نهى عن قربها، وفى إطلاقه الشح على آدم سوء أدب بحسب الظاهر، لكنه - والله أعلم - أراد شح النفس الطبعى.
{ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }: فى علم الله بحسب ظاهره مؤمناً شاكراً عند الملائكة، فإباؤه واستكباره نتيجة ما قضى الله عليه من الكفر، أو المعنى صار من الكافرين، أى ظهر كفره، أو دخل فى الكفر بامتناعه عن السجود، واعتقاده أنه خير من آدم، وأن الفاضل لا يسجد للمفضول، ولا يخضع له ولا يتوسل به، واعتقاده أن أمر الله إياه بالسجود لآدم غير صوب، لأنه أفضل. والمراد بالكفر مطلق الفسق المضاد للشكر، فهو شامل للنفاق والشرك، فترك السجود الواجب عليه نفاق، وكذا استكباره. وأما اعتقاده أن أمره بالسجود غير صواب فشرك. ويحتمل أن المراد بالكفر النفاق، وهو ترك السجود، فالكفر فى الآية: إما نفاق كما يتبادر من ذكره بعد الإباء والاستكبار. وإما عام للنفاق والشرك، قلنا: فى الآية دليل على أن فسق الموحد، يسمى كفرا، وإن قلت فقد قال الله سبحانه وتعالى:
{ أستكبرت أم كنت من العالين } ومعنى العالين: المعاندون مواجهة أو المدعون الربوبية. فأجابه عدو الله بقوله: { أنا خير منه } فيكون هذا الجواب إقرارا بأنه من العالين، كأنه عاند وقال: أمرك إياى بالسجود له غير صواب. فيناسب أن الكفر هنا شرك. قلت: لا نسلم أن المعنى كذلك، بل المعنى أنت مستعل بلا تأهل للعلو أم عال حقيق بالعلو فلا يلزم أن الأنسب تفسير الكفر لشرك، وإبليس مشرك قطعا، إن لم يشرك من الآية أشرك من غيرها، مثل دعائه الثقلين إلى عبادته. وقد اختلف قومنا هل كفره جهل أو عند؟ الصحيح أنه عناد، وتفيد الآية قبح الاستكبار، إذ هو فى نفس نفاق، وقد يفضى بصاحبه إلى الشرك، وتفيد الحث على امتثال الأوامر، وترك الخوض فى سرها، إلا بعد الامتثال وصميم الاعتقاد، أو بعد الاعتقاد الصميم فى كونها صوابا، وترك الخوض فى وساوس النفس. وتفيد أن الأمر للوجوب إذا جرد عما يصرفه عنه، ولولا أنه للوجوب لم يقطع عذره بعد السجود، بعد مجرد قوله اسجدوا. بل حتى يقول اسجدوا، فان السجود واجب عليكم. أو اسجدوا، ومن لم يسجد أغضب، أو أهلكه أو يكفر أو نحو ذلك. وتفيد ان الشقى كافر تحقيقا ولو فى حال عبادته إذ العبرة بالخاتمة، فهو يختم له بالكفر وهذه المسألة عندنا وعند الأشاعرة، وتسمى الموافاة. وتنسب إلى أبى الحسن الأشعرى، وذلك أنه يوافى الشقى الموت ولقاء الله بالكفر. أو تفيد الآية أيضا تقريع اليهود ونحوهم، إذ كفروا بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - مع علمهم برسالته من التوراة والكتب والأخبار والمعجزات، حسدا له وللعرب بنى إسماعيل واستكباراً، ومع تقدم نعم الله - عز وجل - عليهم وعلى أسلافهم، فاليهود نظروا إبليس، وكذلك كل من استكبر. وعنه صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكى يقول: يا ويلتى أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلى النار" . رواه مسلم عن أبى هريرة.