التفاسير

< >
عرض

وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ
٣٥
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَقُلْنَا يَا أَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ }: حواء.
{ الجَنَّةَ }: أى اتخذها أنت وزوجك منزلا ولا تخرجا منها، ولذلك لم يقل فى الجنة، فوكل اتخاذها منزلا إليهما، فلم يتحفظا عليها ففعلا ما يوجب خروجهما منها. وقد سبق قضاء الله تعالى بذلك، فلم يقل أسكنتك وزوجك الجنة لا تخرجان منها، وهى الجنة التى هى جزاء المؤمنين يوم القيامة. فالآية دليل على أنها موجودة الآن، وذلك كله هو الصحيح. وأل للعهد. وهو أيضا ذهنى، فإن الجنة التى هى فى عرف المؤمنين دار الجزاء والثواب، ويدل لذلك قوله: { اهبطوا } فإنه أنسب بالنزول من علو إلى خفض. والجنة فوق السماء السابعة. وزعم بعضهم أن الجنة غير مخلوقة الآن، وأنها تخلق بعد قيام الساعة، وأن هذه الجنة التى كان فيها آدم وحواء بستان، كان بأرض فلسطين من الشام، أو بين فارس وكرمان، خلقه الله امتحانا لآدم، وأن الهبوط: الانتقال منه إلى أرض الهند. وإنما خاطب آدم أولا وذكر زوجه بعده على طريق الغيبة، ولم يعكس بأن يقول: يا حواء اسكنى أنت وزوجك الجنة، ولم يخاطبهما معاً بأن يقول: يا آدم ويا حواء اسكنا الجنة، تنبيها على أن المقصود فى السكون بالذات هو آدم، وأن حواء تتبع له، وأن المرأة خلقت لينتفع الرجل بها، وتلد ذكورا وإناثا ليتم العالم الإنسانى، ولتعبد الله. ألا ترى تأخرها فى الوجود ونقصها؟
{ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً }: نعت لمصدر محذوف، أى: كلا رغدا أى واسعا رافها لا حجر فيه، وهذا إما على أن رغدا وصف، كما يستعمل مصدراً. أو على أنه مصدر بمعنى الوصف، وإما على تقدير مضاف أى كلا ذا رغدا، أى صاحب وسع. وإما على أنه نعت به للمبالغة، ويجوز كونه مفعولا مطلقا على حذف مضاف، أى أكل رغد. ويأتى كلام فى غير هذه السورة إن شاء الله تعالى - ولك ان تقول الأكل الرغد: الأكل الهنىء، أو أكل الرغد أكل الهناء، وهو تفسير فيه زيادة الوسع.
{ حَيْثُ شئتُمَا }: أى مكان من الجنة، أباح لهما أن يأكلا فى كل مكان منها. سواء كان المأكول من ذلك المكان الذى يأكلان فيه، أو كان من غيره ونقلاه إليه، وذكر لهما هذه التوسعة امتناناً عليهما، وتنبيها على غناهما بالكلية عن الشجرة. التى ينهاهما عنها. إذ مأكول الجنة غيره هذه الشجرة من أشجارها لا ينحصران.
{ وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ }: نهاهما عن قربها إما على المبالغة فى النهى عن الأكل منها، والمراد النهى عن الأكل منها، ولم يحرم القرب منها، ولكن عبر بصيغة تحريم قربها مبالغة، ووجه ذلك أن القرب من الشىء يدعو إلى دخوله وملابسته، وإما على الحقيقة بأن حرم عليهما القرب منها، كما حرم الأكل منها، لأن القرب منها يدعو إلى اشتهاء النفس لها، فيتناولها منها. وفى ذلك على كلا الوجهين تنبيه على أن القرب من الشىء يدعو إلى الوقوع فيه، ويورث ميل القلب إليه وشغله عن غيره. وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم:
"حبك الشىء يعمى ويصم" أى يصدك عن الحق ويخفيه عنك، ويعميك عن وصمة تصمه، أى شانه يشينه وعابه، أو هو - بضم الياء وكسر الصاد وتشديد الميم - من أصمه يصمه أى صيره أصم عن سماع ما يقال فى ذلك الشىء المحبوب عن العيب. رواه أبو داود. فمن قرب من ممنوع عنه أحبه فيعميه حبه ويصمه عن الحق فيرتكبه، فينبغى لمن حرم عنه شىء ألا يحوم حوله مخافة أن يقع فيه. قال صلى الله عليه وسلم: "من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع فى الشبهات وقع فى الحرام، كالراعى حول الحمى يوشك أن يرتع. فيه ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه" . وقرئ ولا تقربا - بكسر التاء - على لغة من يكسر حروف المضارعة غير الياء، وقرئ هذه بإسقاط الهاء الثانية وإثبات الياء. وقد قيل إن هذى بالياء، ياء بدل من هاء هذه بها مكسورة مختلسة أو مسكنة. وقرئ الشجرة، بكسر الشين وكسر الجيم، وقرئ الشجرة، بكسر الشين والياء المثناة التحتية المبدلة من الجيم، وكرهها أبو عمرو بن العلاء، وقال: إنها قراءة برابر مكة وسودانها. والشجرة: شجرة القمح، وهى الأغصان التى تنبت من حبة القمح التى تبذر وتثمر السنبل. ونسب هذه القول لابن عباس ومحمد بن كعب ومقاتل. وقيل شجرة العنب. ونسب لابن عباس وابن مسعود وقتادة. وقيل شجرة التين وقيل شجرة الكافور، ونسب لعلى بن أبى طالب. وقيل شجرة الحناء، وفيها من كل شىء، وقيل شجرة العظلم، والظاهر أن الصحابة لا يقولون فيها عن رأيهم، وإنما روى عنهم موقوفا، بمنزلة المرفوع إذا صح السند، قال الشيخ هود: ذكروا عن ابن عباس أن الشجرة التى نهى عنها آدم وحواء هى السنبلة التى فيها رزق بنى آدم، يعنى سنبلة القمح. قال عبد الصمد: الحبة منها كالبقرة، أبيض من الثلج وأحلى من العسل وألين من الزبد. وبعضهم يمنع الخوض فيها لعدم دليل قاطع، وعدم توقف المقصود على تعيينها. ويقول: إنها شجرة من أكل منها أحدث. واختلفوا، هل الإشارة إلى شجرة واحدة معينة؟ أو إلى نوع الشجرة المذكورة فى تلك الأقوال كلها؟ ويتخيل لى أنها شجرة واحد معينة، وأنها لم تتعدد فى الجنة.
{ فَتُكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ }: لأنفسكم بسبب قربكما الشجرة والأكل منها، كما دل عليه فاء السببية التى نصب المضارع بعدها فى جواب النهى عن قربها، ومعنى ظلم الإنسان نفسه: تعريضها للعقاب بارتكاب المعصية، أو معناه: نقصه حضها بإتيان ما يخل بالكرامة والنعيم، أو معناه: وضع الشىء فى غير موضعه فهو بهذا المعنى ضد الحكمة، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة على تقربا فيكون معطوفها مجزوما منهيا عنه، أى فلا تكونا. ولا يطلق على الأنبياء أنهم ظلموا أنفسهم، ولا وصفهم بالظلم. ومن قال إن الإنبياء لا يذنبون فإنه يحمل مثل فعل آدم على فعل ما كان الأولى تركه. وعندى: يجوز أن يقال ظلم آدم نفسه بأكله من الشجرة، وأنه عصى ربه لقوله جل وعلا: { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } مع قوله: { فأكلا منها }. ولقوله عز و جل:
{ وعصى آدم ربه } مجازات مع لفظ القرآن، والمذهب أنهم لا يوصفون بالكبيرة ولا بالصغيرة، قبل النبوة ولا معها، ومن أجاز من قومنا عدم المعصية على الأنبياء قبلها، قال: إن آدم لم يكن نبيا حينئذ، ومن ادعى نبوته حينئذ فعليه البيان. وما وصفوا به من ذنب فليس كبيراً ولا صغيراً، ولكن خلاف الأولى. وقد قيل: إن ذلك النهى للتنزيه، وأما قوله: { عصى }، { وغوى }، { فتكونا من الظالمين }، { { ولتكونن من الخاسرين } فلأنه ترك ما هو الأولى له، فظلم نفسه ونقصها الحظ بتركه. ويأتى كلام فى بعض تلك الآيات، وإنما أمره بالتوبة ولقنه إياها، ليتدارك ما فاته مما هو أولى، وإنما أخرجه من الجنة ونزع لباسه وفاءً لقوله: { إنى جاعل فى الأرض خليفة } وجزاءً لتركه الأولى أو جرى عليه الإخراج والنزع، كما يجرى الضر على من تناول سما جاهلا له، فإنه يضر من جهله ومن علمه، لا على المؤاخذة، وذلك من القضاء الأزلى عليه، كما يقضى فى الأزل على من يموت بالسم جهلا به بعد وجوده، وذلك أنه زين له إبليس فقاسمه، فكف نفسه مراعاة لحكم الله، فنسى وسوسة إبليس، وقد أثرت فى طبعه ميلا، فأكل منها بالميل الطبعى، لا لمطاوعة إبليس لنسيانه وسوسته، لكن قول: { فدلالهما بغرور } ونحوه من الآيات والأخبار، يدل على أنه أكل باغتراره بها، غير أنه يحتمل التأويلات المذكورة ونحوها مما يأتى، وذكر كثير من قومنا ما يوافقنا. قال عياض فى الشفاء: وأما قصة آدم - عيله السلام - وقوله تعالى: { فأكلا منها } بعد قوله: { ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين } وقوله: { ألم أنهكما عن تلكما الشجرة } وتصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله: { وعصى آدم ربه فغوى } أى جهل. وقيل: أخطأ فإن الله تعالى قد أخبر بعذره بقوله: { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما } }. قال ابن عباس: نسى عداوة إبليس، وما عهد الله إليه من ذلك، بقوله: { إن هذا عدو لك ولزوجك.. } الآية. وقيل نسى ذلك بما أظهر لهما. وقيل لم يقصد المخالفة استحلالا لها، ولكنهما اغترا بحلف إبليس وتوهما أن أحدا لا يحلف بالله كذبا. وقال ابن جبير: حلف لهما حتى غرهما، والمؤمن يخدع. وقيل: نسى ولم ينو المخالفة. قال ابن عباس: إنما سمى الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسى. قيل فى قوله تعالى: { ولم نجد له عزما } لم نجد له قصدا للمخالفة. وأكثر المفسرين أن العزم هنا الحزم والصبر. وقال ابن فورك وغيره: إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوة، لقوله تعالى: { وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى } فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وقيل قد أكلها وهو متأول، وهو لا يعلم أنها الشجرة التى نهى عنها، لأنه تأول نهى الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس. ولهذا قيل: إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة. قيل فعل ذلك ناسيا لقوله تعالى: { فنسى } فعوتب بترك التحفظ عن أسباب النسيان، ويحتمل أن يكون النسيان غير محطوط عن الأنبياء لعظم قدرهم، وإن حط عن الأمم، قال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل" رواه الترمذى: "أشد الناس بلاء الأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل" وصححه. وروى الحاكم: "أشد الناس بلاء الأنبياء ثم العلماء ثم الصالحون" بل فهم بعضهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتى الخطأ والنسيان" أنهما لم يرفعا عن سائر الأمم، ويستثنى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأنبياء، فإنه مرفوع عنه ذلك لقوله تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } وقيل: تأول أن الله لم ينهه عنها نهى تحريم بل تنزيه، كما مر. قيل اجتهد آدم فأخطأ حيث أداه اجتهاده إلى أن النهى للتنزيه، أو إلى أن النهى عن عين تلك الشجرة فقط، فتناول من نوعها مع أن المقصود النوع كله. كما قبض - صلى الله عليه وسلم - قطعة ذهب وقطعة حرير بيده وقال: "هذان محرمان على ذكور أمتى محللان لنسائهم" وأراد الذهب والحرير جميعاً، لا خصوص ما بيده منهما فقط. ومعنى ذلك أخرج ونزع لباسه وعوتب تقطيعا للخطيئة لتجتنبن، فيما قررته تعلم بطلان استدلال الخشوية على عدم عصمة الأنبياء بارتكاب آدم ما نهى عنه، والوصف بالظلم والعصيان والغى وبالتوبة واعترافه بالخسران إن لم يغفر له، وبعقابه بما ذكر من الإخراج والنزع وغيرهما. وهم قوم جوزوا الخطاب بما لا يفهم.