التفاسير

< >
عرض

وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
٤
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ }: يا محمد من القرآن والسنة والإيمان بما أنزل منهما يتضمن الإيمان بما أنزل منهما. أو المراد بما نزل إليك: ما أنزله وما سينزل تغليباً لما نزل على ما ينزل تسمية للكل باسم البعض، أو تنزيلاً لما ينزل منزلة ما نزل على الاستعارة والتشبيه، شبه ما لم يتحقق نزوله بما تحقق نزوله، وفى الوجهين جمع بين الحقيقة والمجاز. والتحقيق ما ذكرته قبلهما فافهمه، فلعلى لم أسبق به. والجمع بين الحقيقة والمجاز ولو أجازته جماعة منهم الشافعى، لكن خلاف الأصل فلا يتركب مع وجه صحيح لا تكلف فيه.
{ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ }: من التوراة والإنجيل وغيرهما. وهم أهل الكتاب الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار. وهذا فى مؤمنى أهل الكتاب. وقوله للمتقين فى مؤمنى العرب، أو فى مؤمنيهم ومؤمنى غير أهل الكتاب. وإن قلت فلم خص أهل الكتاب بذكر إيمانهم بما أنزل إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل من قبله؟.. قلت: لتقدم عهدهم بالإيمان بما أنزل من قبله متضمناً الإيمان بما أنزل إليه، ولانتساب التوراة والإنجيل إليهم بخلاف غيرهم، فمن آمن بالقرآن فإن كتابهم القرآن فلم يذكر فى شأنهم غيره، مع أن بإيمانهم به إيمان بغيره متضمن له، ولأنه قد وصفهم بالاتقاء. ومن لم يؤمن بكتاب من كتب الله أو بحرف فليس بمتق. ويجوز أن يكون المراد بقوله للمتقين: مؤمنو العرب، ومؤمنو أهل الكتاب، ومؤمنو غيرهم.
والمراد بقوله: { والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُوْنزِلَ إليكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } مؤمنو أهل الكتاب، خصصهم بالذكر بعد دخولهم فى عموم المتقين لمزيتهم المشار إليها بنحو قوله تبارك وتعالى:
{ أولئك يؤتون أجرهم مرتين } }. فالعطف فى هذا الوجه عطف خاص على عام. كعطف الصلاة الوسطى على الصلوات. وجبريل على الملائكة، والنحل والرمان على الفاكهة، ويجوز أن يكون المراد بالمتقين: كل متق من العرب، أو من أهل الكتاب، أو من غيرهم. والمراد بالذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك: كل متق كذلك قالوا وعلى هذا الوجه عاطفة للصفة وهى لفظ الذين الثانية على الصفة الأخرى وهى لفظ الذين الأولى مثل قولك: جاء زيد العالم الكريم، تريد جاء زيد العالم والكريم. وإن العلم والكرم كليهما صفتان لزيد، فذلك الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله، والإيمان بما أنزل إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل من قبله. كل ذلك صفات للمتقين. ومن عطف الصفات لموصوف واحد كذلك قوله:

إلى الملك القرم ابن الهمام وليث الكتبية فى المزدحم

فإن المراد بابن الهمام وليث الكتيبة هو المراد بالملك القرم، فقد وصف إنساناً واحداً بأنه قرم أى كفحل مكرم لا يحمل عليه وبأنه ابن الهمام أى ابن الملك، سمى الملك هماماً لأنه يهتم بالمعالى، أو يفعل ما اهتم به، وبأنه أسد الجيش فى موضع الازدحام للقتال. وقوله سلمة بن زيابة:

يا لهف زيابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب

أى للحارث الذى يغير صبحاً فيغنم فيرجع، وزيابة اسم أبيه وقيل اسم أمه، واسم أبيه ذهل حسر أباه وأمه من الحارث ابن همام الشيبانى مخافة أن يغير عليه فيغنم فيرجع وقد قتله أو أسره أو تهكم به أن يطبق الإغارة عليه وغنمه وقتله وأسره. ويجوز أن يراد بالمتقين: مؤمنو العرب، وكذا بقوله: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِليْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } فيكون مدحاً لهم، وذما لمن لم يؤمن بالقرآن ولا بغيره، ولأهل الكتاب الذين آمنوا بغير القرآن وكفروا بالقرآن، وقالوا وأيضاً على الوجه عاطفة لصفة على أخرى لموصوف واحد. ويجوز أن يراد بذلك كله أهل الكتاب، فيكون العطف كذلك. والله أعلم.
والإنزال يختص بالذوات، وهو نقلها من أعلى إلى أسفل، وإنما يستعمل فى غير الذوات بواسطة الذوات بالملك ذات أنزل بالكلام وكذا النزول والتنزيل فنزول القرآن وغيره بنزول الملك بهما.
{ وَبالآخِرَةِ }: أى الدار المتأخرة عن هذه الدار المتقدمة الدنيا، والمتأخرة الجنة والنار. ويدل على بقاء وصفية الأخرى وكونه نعتاً لمحذوف، وقوله تعالى:
{ تلك الدار الآخرة } إلا أنها فى هذه الآية: الجنة، وفى آي البقرة الجنة والنار، ويجوز أن يراد بها أيضاً هنا الجنة، أى يوقنون أنها للمتقين المؤمنين بما ذكر الفاعلين لما ذكر. ويفهم أنها ليست لغيرهم وتفيد الآيات الأخرى والأحاديث أن لغيرهم النار. ويجوز كونها خارجة عن الوصفية متقلبة عليه الاسمية. وقرأ غير نافع بالآخرة بإسكان اللام وإثبات الهمزة مفتوحة ممدودة بالألف. وأما نافع فالذى نتلوا عن ورش عنه النقل فى جميع القرآن لحركة الهمزة إلى الساكن قبلها وحذفها ومد ما قبلها بما مدت به إن كانت لها مدة. وقدم الآخرة ليكون آخر الآية نوناً. وللطريقة العربية فى الاهتمام، وفى ذلك تلويح إلى ذم من لم يوقن بالآخرة من أهل الكتاب وغيرهم حين لم يوقنوا بشىء يعظم شأنه مهول، يهتم به من استعمل نظره.
{ هُم يُوقِنُونَ }: إنما ذكر قوله هم، وأخبر عنه بقوله: يوقنون، للتلويح الذى ذكرته آنفاً بأن اعتقاد غير من ذكر الله - عز وجل - فى أمر الآخرة غير مطابق لما هو عند الله فيه ولا صادر عن إيقان، كأنه قيل: هم لا غيرهم يوقنون. أما غيرهم فنوعان: منكر للآخرة أصلا، ومثبت لها على صفة ليست عليها، كوصف النار بأنها لا تمسهم إلا أياماً معدودة، ووصف اليهود أن أهلها النصارى وكل من خالفهم. ووصف النصارى أن أهلها اليهود، ووصف اليهود أنها لا يدخلها إلا من كان هودا، ووصف النصارى أنها لا يدخلها إلا من كان نصارى. وكتشبيه بعض الكفرة نعيم الآخرة بأنه كنعيم الدنيا، وكوصفهم الجنة والنار بأنهما ستفنيان بهما ومن فيهما. وكوصف بعضهم أن أصحاب النار لا يتألمون بها، كما لا يتأذى دود الكنيف أو الخل به. فوصف الله سبحانه وتعالى أولياءه بأنهم يوقنون إيقاناً لا يشوبه شىء من هذا الضلالات، فإن اليقين أعلى درجات العلم، وهو إتقان العلم بنفى الشك والشبهة عنه نظراً واستدلالا. ولذلك لا يوصف به العلم القديم والعلم الضرورى، إذ هما ليس بنظر واستدلال، فلا يقال الله متيقين بكذا، فإن علمه قديم لا بنظر واستدلال، ولا يقال تيقنت أن الجزء أعظم من الكل، لأن علم هذا ضرورى لا بنظر واستدلال. وترى أقواماً ينتسبون إلى الملة الحنيفة يضاهون اليهود فى قولهم: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة. وترى أبعضاً يقولون: بأنه سيفنى أهل الجنة والنار. فما علمهم بالآخرة إلا كعلم من سردنا ذكرهم. والواو الأولى فى يوقنون بدل من ياء أيقن لسكونها بعد ضمة. وأما همزة أيقن فمحذوفة، لأن همزة أفعل تحذف فى المضارع، واسم الفاعل، واسم المفعول، فى الكلام الفصيح. وأما قراءة أبى حية النميرى: يؤقنون - بهمزة ساكنة بعد الياء - فليست الهمزة فيها همزة أيقن، بل هى بدل من واو يوقنون المبدلة عن ياء أيقن، إجراء لضم ما قبل الواو مجرى ضم الواو. فأبدلت همزة، كما تبدل الواو المضمومة همزة، كقولك فى وجوه ووقتت ووقود أجوه وأقتت وأقود، كقول جرير:

لحب الموقدان إلى موسى وجعدة إذ أضاءهما الوقود

بابدال واو الموقدان وموسى والوقود همزة الأول والثانى لانضمام ما قبلهما والثالث لانضمامه. واللام لام الابتداء وجب فعل ماض بوزن كرم نقلت ضمة بإئه للحاء فأدغمت فى الياء بعدها وحذفت ضمة الياء فأدغمت فتبقى الخاء على فتحها. وإنما دخلت عليه لام الابتداء، لأنه جامد بصيرورته من باب نعم. والموقدان فاعل. وإلى متعلق بحب. وموسى بدل أو بيان من الموقدان بواسطة عطف جعدة وهما أبناء. وإذا متعلق بحب. أو خارجه عن الظرفية بدل اشتمال من الموقدان، أو موسى وجعدة مدحهما بالكرم وإيقاد نار الضيافة، ومعنى إضاءة الوقود لهما: إظهاره إياهما بالنور.