التفاسير

< >
عرض

أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٥
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ }: هذه الجملة مستأنفة استئنافاً نحويا بيانيا هو نحوى بلا عكس فإن البيانى تكوين الجملة جواب لسؤال يقتضيه المقام كأنه قيل: ما السبب فى اختصاص المتقين الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، والذين يؤمنون بما أنزل إلى سيدنا محمد ومن قبله - صلى الله عليه وسلم - ويوقنون بالآخرة، يكون القرآن هدى لهم؟ فأجاب: بأن السبب فى اختصاصهم يكون القرآن هدى لهم التوفيق من الله واللطف عليهم بالهدى، ولا يقال هذا نفس قوله هدى للمتقين فيلزم تحصيل الحاصل لأنا نقول معنى قوله: هدى للمتقين زيادة هدى لهم، أو صالح لأن يهتدوا به. ثم قال أولئك الموصوفون بتلك الصفات غير بعيد أن يختصموا بكون القرآن زيادة هدى لهم، أو بكونه هدى موصلا لهم إلى تلك الصفات. وإن شئت فقل: إن جملة: أولئك على هدى من ربهم، ليست بياناً للعلة، بل إخبار بأن الهدى الحاصل لهم من القرآن إنما جاءهم من فضل الله. وهذا على أن معنى هدى للمتقين: أنه هداهم بالفعل، واهتدوا بالصلاحية والإمكان فقط. نقول أحسن زيد إلى شيخه، شيخه حقيق بالإحسان سواء أردت بيان العلة كأنك قلت: لأن شيخه حقيق بالإحسان من أجل أنه شيخه، أو أردت مجرد الإخبار بأنه حقيق به ولكن تعليق الحكم بمشتق يؤذن تعليته. والشيخ فى معنى المشتق، والآية من هذا القبيل، فإن أولئك غير مشتق، لكنه إشارة إلى المتصفين بتلك الصفات. فهو فى معنى المشتق فكأنه قيل: اتصافهم بالاتقاء والإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وما بعد ذلك سبب لزيادة الهدى الحاصلة لهم من توفيق الله وتفضله عليهم، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة لمجرد الإخبار بأنهم أحقاء بالهدى، بأن تكون الإشارة إلى أنفسهم لا تفيد اعتبار صفة، فضلا عن أن تكون موذنة بالعلية، كقولك: أكرم زيداً زيد أهل للإكرام، فإن قولك زيد أهل للإكرام غير متضمن لما هو علة لإكرامه، ولو جعلت العلة تعليلا. وإذا ذكرت الجملة الثانية بصفة ما بنى له الكلام الأول، كانت كمصرحة بالعلة نحو أكرم زيداً صديقك القديم أهل للإكرام، كأنه قيل: أكرم زيدا لأنه صديقك الكريم، والصديق الكريم أولى بالإكرام وأهل له. وهذا النوع أحسن وأبلغ لانطوائه على بيان الموجب وهو العلة، وكيفية حمل الآية عليه أن تجعل الإشارة إلى المتصفين بتلك الصفات من حيث إنهم متصفون بها. كأنه قيل: المؤمنون بالغيب.. إلخ، أهل لزيادة الهدى الكائن لهم من ربهم، أو أهل لأن يهتدوا بالقرآن ويتأثروا به، أى من علم الله أنهم سيتقون ويؤمنون بالغيب.. إلخ أهل لأن يهتدوا به ويتأثروا به. ويجوز أن يكون الذين الأول مبتدأ والثانى معطوفاً عليه. وأولئك على هدى من ربهم خبراً، والثانى مبتدأ خبره أولئك على هدى من ربهم. فيكون الذين وما بعده مسأنفاً أيضاً استئافاً نحويا وبيانيا أيضا، كأنه قيل لم خص المتقون بكون القرآن زيادة هدى لهم أو بتأثره فيهم من أول؟ فأجيب بأنه كان زيادة لهم لإيمانهم بالغيب إلخ أو بأنه تأثروا به واهتدوا لعلم الله أنهم سيتقون ويؤمنون بالغيب... الخ. قبل أن يصدر منهم الاتقاء والإيمان.. إلخ، ولك فى أوجه الاستئناف كلها استئناف الذين أو استئناف أولئك على هدى من ربهم، أن تجعل جواباً لسؤال على هذه الكيفية أى لم خص المتقون المؤمنون بالغيب.. إلخ بذكر كون القرآن مرشداً لهم؟ مع أنه مرشد لكل مسلم وكل كافر، غير أن المسلم قد ارتشد، والكافر عصى وأعرض. فأجيب بأنه خص ذكر المتقين المؤمنين بالغيب، لأنهم المطاوعون لإرشاده المقتفون له. وإن قلت: فهل ذلك التوفيق تخصيص لهم بلا موجب؟ قلت: بل بموجب وهو تسببهم واكتسابهم. وإن قلت تسببهم واكتسابهم أيضاً مخلوقان لله. فذلك تخصيص بلا موجب؟ قلت: نعم مخلوقان لله تبارك وتعالى مجملين، وقد علم الله تعالى بلا أول أنهم سيتصفان بهما فافهم. فإنه جل وعلا خلق جزاء من استفراغ الكفر وإدامة النظر فيما نصب من الأدلة والمواظبة على محاسبة النفس فى العمل، وعلم أنه يكون فيهم. والاستعلاء فى هدى من الاستيلاء المجازى. وإيضاحه أنه شبه تلبس المتقين المؤمنين إلخ بالهدى وتشبهم به، بمن تلبس بدابة أو سفينة وكان عليها، ووجه الشبه التمكن والاستعلاء والنجاة من مكروه، فاستعار لذلك التلبس والتشبث الحرف الموضوع للتلبس والتشبث على نحو الدابة من المحسوسات، وهو لفظ على، فذلك إبراز للمعانى فى صورة الذوات زيادة فى البيان، ونكر هدى للتعظيم، أى أولئك على هدى عظيم لا يحصى غايته ولا يعلم قدره إلا الله الرحمن الرحيم، الذى كان هو من فضله وتوفيقه. ففى الوصف وصف هدى بقوله: من ربهم، تأكيد لذلك التعظيم. وقرئ قوله من ربهم بثلاث قراءات: الفك وإدغام النون فى الراء إدغاماً صريحاً بإبدالها راء صريحة وإدغامها فيها، والثالثة الإبدال غير الصريحة والإدغام مع إبقاء بعض النون فى الخيشوم. والجمهور على الثانية وبهذا نأخذ وهو قراءة نافع والكسائى وحمزة. وأما أبو عمرو، فعنه الثانية والثالثة، ورويت الثالثة والثانية عن ابن كثير وورش وكذا ما أشبه ذلك.
{ وَأُولَئكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ }: وإشارة البعد هنا وفى الذى تقدم إنما هى لما مر فى قوله ذلك الكتاب. وإن قلت لِمَ لم يكف لفظ أولئك الأول فيقال هنا: وهم المفحلون؟ قلت: لأن تكريره يفيد أنه كما ثبت لهم التخصيص بالهدى ثبت لهم بالفلاح. وأكد واحد من التخصيصيين فى تميزهم به من غيرهم بالمنزلة التى لو انفردت كفت مميزة وإن كلا من التخصيص يترتب على تلك الصفات كأنه قيل المتصفون بالاتقاء والإيمان إلخ مختصون بالإفلاح لتلك الصفات. ولو قال: وهم المفلحون لم يفد كل ذلك بل بعضه، وقرنت الجملة الثانية بالواو والعاطفة لمغايرة الإفلاح للهدى، فإن الإفلاح الفوز بالمطلوب من رضى الله - جل وعلا - ونعيم الجنة والنجاة من النار وهو فى الآخرة ومقصود على حدة والهدى الدلالة والتوفيق وهما فى الدنيا مقصودان على حدة بخلاف قوله تبارك وتعالى:
{ أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون } فإن وصفهم بكونهم كالأنعام ووصفهم بالغفلة واحد فى الحقيقة. وأما الثانى أن لا مقرر للأول إذ لا معنى للتشبيه بالأنعام إلا المبالغة فى الغفلة، وكونهم كالأنعام وغفلتهم كلاهما فى الدنيا. فلذلك الاتحاد فى المعنى والزمان لم يكن بالعطف لاقتضائه التغاير.. والله أعلم. والتحقيق عندى أن أولئك هم المفلحون يفيد الحصر وتأكيد نسبة الإفلاح إلى أولئك. وإيضاح كون المفلحون خبراً لا نعتاً والترغيب فى اقتفاء أثرهم وإظهار قدرهم، سواء جعلنا قولهم هم ضمير فصل أو مبتدأ. وإذا عقلت هذا الحصر ظهر لك أن أصحاب الكبائر يخلدون فى النار، فإن المعنى لا يفلح إلا المتصفون بتلك الصفات. فمن لم يتصف بها غير مفلح، ومن يدخل النار غير مفلح. ولو فرضنا خروجه منها لكان مفلحاً وغير مفلح، وهذا لا يصح. ولعل قومنا القائلين بالخروج يجعلون أل فى المفلحون للكمال، أى أولئك هم المتصفون بتلك الصفات هم أصحاب الفلاح الكامل وغيرهم ممن أقر وفسق مفلحون أيضاً. لكن فلاحهم غير كامل. أم يقولون نزل فلاحهم منزلة العدم، فحصل الفلاح فى المتصفين بتلك الصفات، وإنما لم نسلم لهم هذين التأويلين لو لم يكونا خلاف الظاهر بلا داع موجب، ولا يعارضوننا بوصف الفاسق كغيره بالاصطفاء فى قوله عز وجل: { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } فإنه مشروط بالموت على التوبة. وإن قلت: لو قيل أولئك المفلحون على الابتداء والخبر لأفاد الحصر أيضاً بدون ذكر قوله: هم. قلت: نعم لكن إذا ذكر قوله هم، كان هو المفيد للحصر بواسطة ما بعده، مع أنه قد يتوهم من عدم ذكره كون المفلحون نعتاً لأولئك فلا يظهر تمام الإسناد فضلا عن الحصر. وأل فى المفلحون للعهد الذهنى، أى أولئك هم الناس الذين بلغك أنهم مفلحون، أو للحقيقة حقيقة المفلحين، أو للعهد الذكرى إذا ذكر من يفلح فى غير هذه الآية فى السورة النازلة قبل هذه السورة، وإذا تتبعت الكلام وجدت كل كلمة أصلها الأول فاء. والثانى لام دالة على الشق بظهور أو تأويل. كفلق وفلذا وفلى، فكذلك المفلح قد انفتح له وجوه الظفر وانشقت له، وفلق شق، وفلذ قطع. وأفلاذ الكبد قطعها. وفلى رأس الكافر ضربه بالسيف، ويكون الفلاح أيضاً فى لغة العرب بمعنى البقاء. فيصح تفسير الآية به، أى أولئك هم الباقون فى النعيم الدائم، الخالدون فيه، الذين لا ينقطعون عنه أبدا. قال الشاعر:

لو أن حيا مدرك الفلاح أدركه ملاعب الرماح

أى مدرك البقاء، غير أنه يحتمل أن يريد بالفلاح الفوز بالمطلوب وهو البقاء، فلم يخرج عن تفسير الفلاح بالفوز بالمطلوب. فافهم.