التفاسير

< >
عرض

فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ
٥٩
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا }: منهم أنفسهم بالمعصية فيما أمروا ولبسوا كلهم ظالمين.
{ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِى قِيلَ لَهُمْ }: فنطقوا بألفاظ تقارب ألفاظ ما أمروا به معنى ولفظاً، أو معنى فقط استهزاء إذ كان المعنى مخالفاً، وفعلوا فعلا يشبه ما أمروا به وليس به استهزاء، روى البخارى ومسلم عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قيل لبنى إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على استاههم، يعنى مقاعدهم، وقالوا: حبة فى شعيرة يعنى حبة بر مع حبة شعير، كمن يطلب البر والشعير، وإنما قالوا ذلك استهزاء، وفى رواية لهما حبة فى شعرة يعنون فى شعيرة أو يعنون حبة بر مربوطة فى الشعرة التي تنبت على الحيوان، وروى الحاكم حنطة فى شعيرة، قال الكلبى: لما فصلت بنو إسرائيل من أرض التيه ودخلوا وكانوا بجبال أريحاء من الأردن قيل لهم ادخلوا القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا، فكانت بنو إسرائيل قد خطئوا خطيئة فأحب الله أن يستنقذهم منها إن تابوا، فقيل لهم: إذا انتهيتم إلى باب القرية فاسجدوا وقولوا حطة تحط عنكم خطاياكم، وسنزيد المحسنين الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطيئة إحساناً إلى إحسانهم، فأما المحسنون ففعلوا ما أمروا به، وأما الذين ظلموا فبدلوا قولا غير الذى قيل لهم فقالوا: (حطا سمقاتا بالسريانية) أى حنطة حمراء استهزاء وتبديلا، من كان محساً زيد فى إحسانهِ ومن كان خاطئاً غفرت له خطيئته، وقيل: لم يقولوا ذلك استهزاء بل رغبوا فى طلب ما يشتهون من أغراض الدنيا، وذكر بعضهم ازدحموا على أوراكهم خلافاً لأمر الله سبحانه، وعن الحسن: رفع لهم باب فأمروا أن يسجدوا لله ويضعوا جباههم ويقولوا حطة، فدخلوا وقد حرفوا وجوههم ولم يسجدوا على الجبهة، وقيل: طوطى لهم الباب ليخفضوا رءوسهم فلم يخفضوها ودخلوا متزحفين على أوراكهم، وقيل: قالوا بالنبطية (حطا سمقاتا) أى حنطة حمراء. وروى فى الحديث أنهم قالوا حبة شعيرة، ويروى عن ابن مسعود أنهم أمروا بالجود وأن يقولوا حطة فدخلوا يزحفون على استاههم ويقولون حنطة حبة حمراء فى شعيرة، وروى أنهم دخلوا من قبل أدبارهم القهقراء، وقيل قالوا حنطة حمراء فى شفرة، وقيل شعيرة. وحكى الطبرى أنهم قالوا: (هطى سمقاتا ازبه) أى حنطة حمراء. وعن مجاهد: طوطى لهم الباب ليسجدوا فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم وقالوا حنطة، وقيل قالوا: (هطانا سمقاتا) أى حنطة حمراء، وقيل أيضاً عن مجاهد: رفع لهم جبل ليسجدوا عند دخول الباب لما أبوا فسجدوا بشق وجهوههم ناظرين إليه بالعين الأخرى، فترى صلاة اليهود إلى اليوم كذلك.
{ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا }: بترك السجود عند الدخول، وترك قول الحطة وهم هؤلاء الذين بدلوا قولا غير الذى قيل لهم، ومقتضى الظاهر أن (فأنزلنا عليهم) ولكن وضع الظاهر موضع المضمر ليصفهم مرة ثانية وصف الظلم مبالغة فى تقبيح شأنهم، وليشعر بأن إنزال الرجز عليهم إنما هو لظلمهم إشعاراً زيد على الإشعار الذى أشعرته الفاء السببية، وذلك لأن تعليق الحكم بالموصول يؤذن بعلية صلته، لأن الجملة صلته بمنزلة الوصف، وتعليق الحكم بالوصف يؤذن بعليته، وقد صرح بأن ذلك الظلم هو السبب بقوله: { بما كانوا يفسقون } فإن هذا الفسق هو ذلك الظلم أو وضع الظاهر موضع المضمر ليكون أدل على أجسامهم التى عرضوها للهلاك بترك ما أمروا به أو لذلك كله، وعبر فى الأعراف بالضمير إذ قال: { فأرسلنا عليهم }. { رِجْزاً }: عذاباً بلغ فى شدته أنهُ يستقذر كما تستقذر الأخباث، وقرئ بضم الراء وهو لغة فيه.
{ مِنَ السَّمَاءِ }: متعلق بأنزلنا على أن العذاب غير الطاعون، وأما على أنهُ الطاعون فمتعلق بمحذوف نعت لزجر أى مقدراً من السماء، وقد يعلق بأنزلنا بأن يكون أنزل أسبابه من السماء، ولو كان بأيدى الجن، قال ابن زيد: الرجز الطاعون أذهب الله به من الذين ظلموا سبعين ألفاً فى ساعة. وعن ابن عباس أمات الله عز وجل به منهم فى ساعة واحدة نيفاً وعشرين ألفاً، وفسر النيف بأربعة آلاف فى رواية، هكذا مات به فى ساعة أربعة وعشرين ألفاً. قال الربيع عن أبى عبيدة قال سعد بن أبى وقاص لأسامة بن زيد: ما سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول فى الطاعون. قال سمعته يقول:
"الطاعون رجز أرسل على طائفة من بنى إسرائيل وعلى من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً" وروى الربيع عن أبى عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس قال عبد الرحمن ابن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم بالطاعون فى أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه" . وذكرت أحاديث من ذلك فى تحفة الحب فى أصل الطب.
{ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }: ما مصدرية أى بسبب كونهم يفسقون أى يخرجون عن الطاعة.