التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
٦
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ إِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا }: هذا شروع فى ذكر ضد المتقين الذين تأثروا بهداية القرآن والكفرة لا يتأثرون بها، ولم تعطف قصتهم على قصة المتقين، لأن قصة المتقين إنما سقاها الله - جل وعلا - لذكر الكتاب وبيان شأنه، لأنه حق وهدى لهم وتفخيم شأنه فى الانتفاع به. وقصة الكفرة ساقها الله - عز وجل - لشرح تمردهم وانهماكهم فى الضلال. وأما وصفهم بأن وجود الكتاب وعدمه سواء عليهم، فليس كون الكتاب كذلك غرضاً مسوقاً له الكلام، بل تفخيم شأنه، وفائدة أن تأكيد نسبة الخبر إلى المبتدأ سواء كانت إيجابية أو سلبية، سواء كانت فى جواب منكر، أو ظان أو شاك أو خالى الذهن أو موقن، بحسب غرض المتكلم فى إخباره من مبالغة أو عدمها. هذا ما ظهر لى لاما اشتهر فى كتب المعانى من أن الإتيان بها فى أخبارك من أن أيقن لا يجوز أو يخل بالبلاغة، والتعريف الحاصل فى الموصول للعهد الذكرى والحضورى أو الذهنى، والمراد ناس بأعيانهم كأبى لهب وأبى جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود، فإنه قد وقع لهم ذكر فيما نزل من الآيات قبل هذه، وصح لهم حضور محسوس للجدال وغيره، وثبوت فى ذهنه - صلى الله عليه وسلم - مهما بطريق إرشادهم وقلقاً بما قالوا. وعن ابن عباس: نزلت فى حيى بن أخطب وكعب ابن الأشرف ونظائرهما من اليهود. وقيل فى مشركى العرب كأبى جهل. وإما للجنس متناولا من أصر على الكفر كما قال سواء إلى... إلخ. ومن لم يصر وهو من استثناه بقوله: إلا الذين تابوا ونحوه، من آيات استثناء والتائبين ولا تتناول من سيأتى بعده - صلى الله عليه وسلم - ومن تقدمه. وقيل تتناول من يأتى، لأن إنذار القرآن بعده إنذار منه. وقيل تتناول من سبق أيضاً، على معنى أنك لو أنذرتهم لم يتأثروا به. والكفر لغة ستر النعمة. وأصله الكفرة (بفتح) وهو الستر. ومنه قيل للزارع كافر، لأنه يستر البذر، وكذا الليل لأنه ساتر بظلمته، وكذا البحر لأنه يستر ما فيه وما وقع فيه، وللطلع لأنه يستر الثمار. فهو فى أصل اللغة مطلق الستر. ثم اختص فى عرف أُهلها بستر النعمة وهو عدم شكرها. وأما فى الشرع فله معنى عام وهو ستر النعمة، الذى هو عدم شكرها، فإن فعل كبيرة كالنفاق أو الشرك خرج عن شكر النعمة. فإن شكرها هو عدم فعل ذلك والتحرز عنه، ومعنيان خاصان أحدهما يسمى نفاقاً عندنا، وهو فعل الكبيرة التى دون الشرك، والآخر كفر شرك سواء أظهر أو لم يظهر. وهما فعل كبيرة الشرك، وهما المراد فى الآية. ويخص أصحابنا ما لم يظهر منه باسم آخر هو لفظ النفاق أيضاً، وحد كفر الشرك بنوعيه بأنه إنكار ما علم بالضرورة مجىء الرسل به وخرج بلفظ الإنكار الفعل فإنه ليس شركاً فليس كهيئة المشرك، وإنما حرم لأنه يوهم أنه مشرك فيحكم من لم يعلمه مسلماً أنه مشرك، ويظن من علمه بالتوحيد لأنه مرتد، ولا من التحرز عن هيئتهم من تمام بغضهم، فلو لبس الإنسان الزنار لدل على أنه نصرانى، أو مرتد إلى النصرانية ومن صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجترىء على لبسهم ظاهراً والزنار (بضم الزاء) خيط غليظ فيه ألوان يشد فى الوسط فوق الثياب. وإنما أخرجت بالإنكار مع أنه جنس، لأن الجنس فى الحدود، كما يدل على الإدخال يدخل على الإخراج، ودخل فى الإنكار الإنكار بالقلب أو باللسان أو بهما، وإذا أنكر باللسان فقط حكم بشركه، لأنما فى قلبه غير. وفى كونه مشركاً بذلك عند الله قولان. والصحيح نفى شركه، وكذا فى الحكم إذا علم أنه أشرك بلسانه فقط. وخرج بالضرورة إنكار ما ليس علمه ضروريا، فإنه ليس شركاً، وفيه خلاف تقدم فى الكلام على الإيمان، فمن أنكر ما أجمعوا عليه إجماعاً لفظيا مشرك، لأن معرفته ضرورية، ومن أنكر ما أجمعوا عليه إجماعاً ليس لفظيا فهو غير مشرك، لأن معرفته غير ضرورية، وفيه خلاف، وإذا أخبره من يصدقه بما ليس ضروريا، مما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مما أجمعوا عليه فأنكره، أشرك ودخل بالضرورة المجسمة فهم مشركون، فإن نفى الجسم عن الله سبحانه من حيز الضروريات لكثرة أدلته، ولثبوت كل نقص وكل شبه بإثبات الجسمية لله، تعالى عنها وعن كل نقص، فبالجسمية يثبت الحلول والتحييز والجهات وخلو الأماكن عنه، والجهل بالبعد وعدم المشاهدة، والتركيب والحدوث العجز، وغير ذلك - تعالى الله - وكذلك العرض. وأشرك الطاعن فى براءة عائشة - رضي الله عنها - لثبوتها بالقرآن لأنها ولو كانت بدلالة لفظية، والأدلة اللفظية لا توجب العلم، فلا تكون ضرورية، لكنها قد توجبه بالقرآن وهى موجودة فى براءة عائشة. والله أعلم. واحتجت المعتزلة على حدوث القرآن بما جاء فيه من لفظ المضى مثل: { إن الذين كفروا } و { إنا نحن نزلنا الذكر } و { إنا أرسلنا نوحا } لاستدعاء ما جاء بلفظ الماضى سابقة المخبر عنه (بالكسر) وهو القرآن، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بغيره، وأجاب الشافعية وغيرهم: بأن ما جاء بلفظ الماضى يقتضيه تعلق الحكم بالمخبر عنه، وحدوث ما يقتضيه التعلق، لا يستلزم حدوث المخبر عنه فلا يستلزم حدوث كلام الله تعالى. كما أن علمه تعالى قديم. ومقتضى تعلقه بغيره حادث وحاصل الجواب أنه لا يلزم من حدوث مقتضى التعلق، وهو الكلام اللفظى، حدوث الكلام النفسى. والجواب فى نفسه صحيح لإثبات الكلام النفسى فلا نسلمه فانتفى قدم القرآن، وثبت حدوثه، وذلك أنه لا يمكن لعاقل أن يقول:
إن ما نلفظ به قديم لحدوث التلفظ وفنائه، ولا أن نقول إن النقوش فى اللوح المحفوظ وألواحنا ونحو ذلك قديم لحدوثه وفنائه. وكل من اللفظ والنقش محدود متحيز مركب، فالقديم لا يكون كذلك. فلم يبق إلا أن يقول مرادنا بقدم القرآن أنه كلام نفسى لله تعالى، وهذا الكلام النفسى يستلزم الحلول والظرفية وتحيز الظرف وإثبات ذلك فى حقه تعالى محال، لأنه صفة محلوق حادث، وإن قالوا إن الكلام النفسى وصف قديم ناقص كلامهم، لأنما هو صفة مخلوق لا يكون قديماً، وإن قالوا بقدمه لزم تعدد القديم، وإنما القديم علمه تعالى، وهو هو لا غيره، بمعنى أنه ليس صفة حالية فيه ولا بعضه بل انكشاف الكائنات كلها له. وإنما القديم علمه تعالى بما سيكون كله مما فى القرآن وغيره، وإنه سنخلق القرأن ونقوشه تلفظ الخلق به.
{ سَواءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }: سواء خبر لإن، وأنذر وتنذر فى تأويل مصدر مرفوع على الفاعلية بسواء، لأن سواء مصدر بمعنى اسم الفاعل، أى مستو عليهم إنذارك وعدمه. أو خبر لهذا المصدر، والجملة خبر لإن. أى إنذارك وعدمه سواء، وذكروا أن الفعل فى باب التسوية يؤول بالمصدر بدون وجود حرف مصدر. وقيل إن الهمزة بعد سواء حرف مصدر. وقيل إن الفعل إذا أريد به مطلق الحدوث المدلول عليه ضما على الاتساع، عومل معاملة المصدر، لأن المقصود حينئذ بالذات هو مطلق الحدث المذكور، الذى هو معنى المصدر، فيصح الإسناد إليه بلا تأويل بمصدر، ويصح الإضافة كذلك، فمن الإسناد إليه أن يجعل مبتدأ مثل أن يجعل أنذر مبتدأ، لتضمينه معنى إنذار. فتقدر الضمة فى آخره. ومثل أن نجعل تسمع، مبتدأ لتضمينه معنى السماع فى قولهم: تسمع بالمعيدى خير من أن تراه. فالرفع الذى فيه رفع المبتدأ أو من الإسناد إليه أن يجعل فاعلا. نحو أعجبنى تقوم فتقوم فاعل لتضمينه معنى قيام ومن الإضافة قوله تعالى:
{ يوم ينفع الصادقين صدقهم } ونحوه مما المضاف ظرف، كما يصح الإسناد إليه إذا يريد لفظه، نحو: ضرب فعل ماض. ونحو قوله تعالى: { وإذا قيل لهم آمنوا } أى لفظ آمنوا. والمشهور فى باب التسوية وغيرها أن المبتدأ هو المصدر المقدر، وأن الحرف المصدرى مقدر، فى نحو: تسمع بالمعيدى، ولا مانع من تقديره عندى فى باب التسوية، حذف وعوضت عنه فيه الهمزة وإن المضاف إليه أو المحكى هو الجملة لا الفعل وحده. وإن قلت إذا كان الفعل المطلق الحدث هنا كالمصدر فلم لم يؤت بالمصدر دونه؟ قلت: لأن الفعل ولو قصد به مطلق الحدث لكنه مشعر بالتجدد، فقصدت الإشارة إليه بالفعل، ولو عبر بالمصدر لم يدل عليه. والفعل ولو قصد به مطلق الحدث لا يدل على الثبات الصريح الخالص، بل مع تجدد ملوح إليه، وهو أصله. وإنما صح جعل ما بعد الهمزة مبتدأ لخبر قبله أو فاعلا لما قبله، لأنها خارجة عن الاستفهام إلى التسوية فلا يصدر لها. وصرح السعد بأن مجموع همزة التسوية والفعل فاعل لسواء أو مبتدأ له، وإنما دخلت همزة التسوية وأم بعد سواء لتقرير الاستواء وتأكيده، وخرجتا عن الاستفهام إلى مجرد الاستواء. والفرق بين الاستواءين لأن الاستواء الذى تفيده الهمزة وأم: هو تردد المستفهم فإن من يستقهم عن شىء يستوى عنده ثبوته وعدمه فى أصل عدم الجزم بأحدهما. ولو كان قد يرجح أحدهما، مع أن لفظ الاستفهام لا يفيد الترجيح. والاستواء الذى تفيده لفظة سواء هو الاستواء فى الغرض المسوق له الكلام، فالهمزة وأم على صورة الاستفهام خارجتان عنه. كما أن باب الاختصاص على صورة النداء. والله أعلم.
والإنذار: التخويف بإخبار فهو إعلام مع تخويف. والمراد فى الآية التخويف من عقاب الله - عز وجل - على كفرهم، وإنما اقتصر على ذكر الإنذار ثبوتاً وعدماً. ولم يقل ءأنذرتهم أم بشرتهم، لأن الاقتصار عليه أوقع فى القلب، وأشد تأثيراً فى النفس من حيث إن دفع الضرر من جلبه النفع، فإذا لم يؤثر فيهم الإنذار فمن باب أولى ألا يؤثر فيهم التبشير، والأصل ءأنذرتهم بهمزتين مفتوحتين، أبدلت الثانية ألفاً وهو قراءة نافع من طريق ورش عنه. وهو عربى فصيح وبه أخذ أهل مصر عن ورش وأبى يعقوب الأزرق وبه أخذت فى جميع نظائره فى القرآن ءأنتم أعلم، ءأقررتم، ءأسلمتم ءأنت قلت، ءألد، ءأرباب، ءأسجد، ءأنت فعلت، ءأنتم أضللتم، ءأشكر، ءأتخذ، ءأعجمى، ءأنتم تخلقونه، أءنتم تزرعونه، ءأنتم أنزلتموه، ءأنتم أنشأتم، ءأشفقتم، ءأمنتم من فى السماء، ءأنتم أشد خلقاً؟ وروى البغداديون والشاميون عن عبد الصمد عن ورش أنه يسهل الثانية بين ألف وهمزة، لا همزة مخصوصة ولا ألفاً محضة. والأشهر عنه الإبدال. وعليه أكبر الروايات عنه.
والتسهيل أقيس فى العربية، لأنه ينبىء ما يدل عليه من بعض النطق بالهمزة، وسهلت الثانية لأن الثقل حصل بها. وإن قلت: كيف صح إبدال الثانية ألفاً مع أن المتحرك لا تبدل؟.. قلت: لا نسلم أنها لا تبدل، بل يجب إبدالها. وقد قرأ بعضهم الثانية فى: { يا سماء أقلعى } واوا مفتوحة وفى: يشاء إلى ياء مكسورة، وقاس ذلك قياساً مطرداً ولا سيما إن كان بعدها ساكن، نحو: من السماءان وعلى البقاءان، فإن ورشا يقرؤها ياء ساكنة سكوناً ميتا، فإن الفصل بين الساكنين بالإشباع الزائد على مقدرا الألف جائز، ولا سيما عند الهمزتين، فإنه يجوز عندهما التقاء الساكنين، وفيما إذا وقف مطلقاً. وقيل لا يجوز إلا وقفاً وفيما إذا كان الثانى ساكناً مدغماً والأول حرف مدو أجاز الكوفيون التقاء الساكنين مطلقاً وبطل ادعاء أن القراءة بالإبدال فى الآية لحن لما سردته لك، ولا يكفر مدعى ذلك. ولو كان الطعن فى القراءات السبع كفراً لأنه إنما يكون كفراً فيما ليس من قبيل الأداء لأنه المتواتر، أما ما كان منه كالمد وتخفيف الهمزة، بالتسهيل أو الإبدال وتحقيقها فلا، بل قيل إن نسبة قراءة من السبع إلى اللحن الذى يغير المعنى لا يكون كفراً، وقرىء بحذف همزة التسوية، وقرأ بعض من يسكن ميم الجمع، ولو قيل همزة القطع تنقل فتحة الهمزة إليها، ولو كان يفهم من قوة الكلام أنها فى عدم الإيمان وحذفها وهى قراءة حمزة فى الوقف، وقال الطبرانى إنها شاذة، فيجمع بأنها شاذة فى الوصل، قال أبو عمر الدانى: إذا اتفقت الهمزتان فى كلمة بالفتح نحو ءأنذرتهم فنافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام يسهلون الثانية منهما، وورش يبدلها ألفاً، والقياس أن يكون بين بين. وابن كثير لا يدخل قبلها ألفاً. وقالون وهشام وأبو عمرو يدخلونها. والباقون يحققون الهمزتين وإذا اختلفتا بالفتح والكسر نحو قوله عز وجل أإذا كنا، وأإله مع الله، فنافع وابن كثير وأبو عمرو ويسهلون الثانية، وقالون وأبو عمرو يدخلان بينهما ألفاً، والباقون يخففونهما. وهشام من قراءتى على أبى الفتح يدخل بينهما ألفاً، ومن قراءتى على أبى الحسن يدخلها فى الأعراف أإنكم، أإن لنا لأجراً. وفى مريم أإذا، وفى الشعراء أإن لنا لأجرا، وفى الصافات أإنك لمن المصدقين، وأإفكا، وفى فصلت أإنكم لتكفرون. ويسهل الثانية هنا خاصة وإذا اختلفتا (بالفتح والضم) وذلك فى قل أؤنبئكم، أؤنزل عليه الذكر، أؤلقى، فنافع وابن كثير وأبو عمرو، يسهلون الثانية وقالون يدخلها بينهما ألفاً، والباقون يحققون الهمزتين وهشام من قراءتى على أبى الحسن يحققهما من غير ألف بينهما فى آل عمران، ويسهل الثانية ويدخل قبلهما ألفاً فى الباقين كقالون ومن قراءتى على أبى الفتح يحققهما هشام، ويدخل بينهما ألفاً وإذا اتفقتا بالكسر فى كلمتين نحو: هؤلاء إن كنتم، فورش وقنبل يجعلان الثانية كالباء الساكنة. وقال ابن خاقان عن ورش فى هؤلاء إن كنتم وعلى البقاء إن أراد أن جعل فيهما فقط. الثانية ياء مكسورة وذلك مشهور عنه فى القراءة لا فى الكتابة، يعنى لأنه لا نجعل حركة لها فالضبط فى الآيتين، وقالون والبزى يجعلان الأولى كالباء المكسورة، وأبو عمرو يسقطها والباقون يحققونهما، وإذا اتفقتا بالفتح نحو
{ { جاء أجلهم } فورش وقنبل يجعلان الثانية كالمدة. وقالون وأبو عمرو والبزى يسقطون الأولى، والباقون يحققونهما، وإذا اتفقتا بالضم، وذلك فى موضع واحد فى الأحقاف فى قوله عز وجل: { أولياء أولئك } فورش وقنبل يجعلان الثانية كالواو الساكنة، وقالون والبزى يجعلان الأولى كالواو المضمومة، وأبو عمرو يسقطها، والباقون يحققونهما، وإذا اختلفتا نحو السفهاء إلا، ومن الماء أو مما، وشهداء إذ حضر، ومن يشاء إلى صراط مستقيم، وجاء أمة، فنافع وابن كثير وأبو عمرو يسهلون الثانية والباقون يحققونها. والتسهيل جعلها بين الهمزة والحرف الذى منه حركتها إلا إن فتحت بعد ضمة أو كسرة فتبدل مع الضمة واواً مفتوحة ومع الكسرة باء مفتوحة، وإلا إن كسرت بعد ضمة فإنها تبدل واوا مكسورة، أو تجعل بين الهمزة او الياء وتكسر، والأول مذهب القراء وهو أثر والثانى مذهب النحويين وهو أقيس. والله أعلم.
وجملة { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة مفسرة لإجمال ما قبلها، فإن تسوية الإنذار وعدمه مجملة لا نص فيها على ما وقع فيه التسوية، فأزال الإجمال بقوله { لاَ يُؤْمِنُونَ } أى استوى إنذارك وعدمه، فى عدم وجود الإيمان، فكما لا يؤمنون إن لم تنذرهم لا يؤمنون إن أنذرتهم. فالجملة لا محل لها، ويجوز أن تكون حالا من هاء عليهم، مؤكدة لما يفهم من قوة الكلام إن التسوية فى عدم الإيمان، واستبعد أبو حيان كونها حالا. ولعله استبعده على أنها حال منتقلة، ويجوز أن تكون الجملة بدلا من قوله: { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ }، على أن سواء خبر مقدم، وهو من بدل الاشتمال، فإن عدم الإيمان من متعلقات تلك التسوية، لا هى ولا بعضهما، ويجوز أن يكون { سَوَآءٌ عَلَيْهُمْ أَءَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } معترضا، فجملة لا يؤمنون خبر إن، وذلك إذا اعترض بما هو علة الحكم، فإن علة عدم إيمانهم مساواة الإنذار وعدمه يجوز أن يكون { سَوَآءٌ عَلَيْهُمْ أَءَنذَرْتَهُم } خبراً لأن، وجملة لا يؤمنون خبر ثان، ويجوز كون { لاَ يُؤْمِنُونَ } مستأنفا كأنه قيل: هم لا يؤمنون. قال ابن هشام: هذا أولى بدليل الآية الأخرى { سَوَآءٌ عَلَيْهُمْ أَءَنذَرْتَهُم أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ } ليس فيها أن، والاعتراض أن يؤتى بجملة فصاعدا بين فردين أو جملتين، أو جملة وفرد متصلين إعراباً ومعنى، أو معنى فقط لنكتة سوى دفع الإيهام، ويجوز أن يكون لدفعه عن بعض وبه أقول، وأجاز بعضهم الاعتراض آخر الكلام وهو خارج عن اعتراض الاصطلاح والمعترضة مؤكدة وغير مؤكدة، والتأكيد بها تارة يكون كسائر التأكيد بالجمل، بأن تتضمن ما صرح به الكلام السابق أو الذى اكتنفها أو وما لوح إليه، وتارة يكون بمعنى المبالغة بذكر الجملة، وبمعنى الاهتمام بشأنها التى أتى بها قبل تمام ما قصد من الكلام، وهى كالمؤكدة، إلا أنها أحسن موقعاً وألطف مسلكاً، ودالة على زيادة الاهتمام. والله أعلم.
واستدل بعضهم بالآية على جواز التكليف بما لا يطاق، فإن إيمانهم محال إذ قضى الله أنهم لا يؤمنون، كما أخبرنا بقوله لا يؤمنون، ومع ذلك أمرهم فى آيات كثيرة بالإيمان تصريحاً وتضميناً، ويستحيل إيمانهم من جهة أخرى أيضاً وهى استحالة الكذب على الله تعالى، فإنهم لو آمنوا انقلب خبره كذبا، وتدل الآية أيضاً، عند هؤلاء، على التكليف بما لا يطاق من جهة أخرى: وهى الجمع بين الضدين، لأن الإيمان يشمل إيمانهم لأنهم لا يؤمنون. قلت: التكليف بالإيمان ليس تكليفاً بالمحال، وإلا لزم اتصافه بالظلم إذا عذبهم على عدم الإيمان مع أنه محال، بل إيمانهم من الجائزات التى لا تكون، لأنه تعالى جعل فيهم ما يتوصلون فيه إلى الإيمان، وجعل لهم أدلة فقصروا وأتاهم العقاب من حيث التقصير، وإنما يكون تكليفاً بالمحال لو لم يجعل لهم عقولا ولم يجعل لهم أدلة، كما لو كلف الأصم السمع والأخرس الكلام، فهم قادرون على الإيمان بما ركب فيهم من عقل وما جعل لهم من الأدلة. و إخباره تعالى: بأنهم لا يؤمنون لا ينافى القدرة على الإيمان، وإيمانهم لم يمتنع بالذات بل لغيره، وهو عدم تعلق علم لله تعالى به، وسمع الأصم وكلام الأخرس وإيمان ما لم يركب فيه تمييز يصل به إلى الإيمان، ونحو ذلك ممتنعات بالذات والتكليف بالممتنع لغير ذاته جائز واقع قطعاً. ومنه تكليفهم بالإيمان. والممتنع إنما هو التكليف بالممتنع بالذات، وهو عندى غير جائز عقلا وغير واقع: إذ لا فائدة فيه، فلا يكون من الحكمة. وقال القاضى جائز عقلا بناء منه على أنه لا يشترط فى الأمر والنهى حكمه وغرض ولا نعلم هذا بل نقول لا بد من الحكمة لأنه تعالى حكيم منزه عن العبث، فمنها ما يظهر لنا ومنها ما يخفى. وقال إنه غير واقع كما قلت. وعدم دليل وقوعه أنا لم نطلع عليه فى القرآن والسنة ولم يرو لنا عن كتاب من كتب الله عز وجل قبل القرآن وإنما قلت بامتناعه عقلا لأنه يؤدى إلى وصف الله بالنقص، وهو العبث أو الظلم وهو العقاب على ما لا طاقة عليه، والعابث لا يكون إلهاً، وكذا الظالم لأن ذلك عجز عن الحكمة والعدل، فبثبوتهما تنتفى الألوهية، وانتفاؤهما محال، لأن الكائنات لم تتكون بذاتها، لأن المعدوم لا يوجد نفسه ولا يحادث مثلها، لأنه يؤدى إلى التسلسل، هذا ما ظهر لى. وإنما أمرهم وأنذرهم، مع علمه بأنهم لا يأتمرون ليلزمهم الحجة. ويقطع عذرهم وليجوز الرسول ثواب التبليغ، والأمر والنهى، وليجوز من يأمر وينهى ثواب الأمر والنهى، ولتكون الآية إخباراً بالغيب على ما هو به على طريق المعجزة إن أريد بالذين كفروا اشخاص معينة. واستفدت من كلام القاضى أن التكليف بالمحال يجوز، سواء كان محالا للذات أم لغيره، لأنه إذا أثبت جواز الممتنع لذاته عقلا، فأولى أن يثبت جواز ما امتنع لغيره، وضابط المحال بالذات أنه الممتنع عقلا، وعادة كالجمع بين السواد والبياض والمحال لغيره ممكن فى نفسه لكن لا تتعلق به قدرة المخلوق، كحمل الجبل والطيران من الإنسان وهذا إما ممتنع عادة كالمثالين. والمشى من المقعد بمرض أو غيره، أم ممتنع عقلا لإعادة كذا قال المحلى ومثله بإيمان من علم أنه لا يؤمن. قال زكرياء الأنصارى لأن العقل يحيل إيمانه لاستلزامه انقلاب العلم القديم جهلا، قال ولو سأل عنه أهل العلم لم يحيلوا إيمانه، كذا جرى عليه كثير. والذى عليه الغزالى وغيره من المحققين أن ذلك ليس محالا عقلا أيضاً بل ممكن مقطوع بعدم وقوعه، ولا يخرج القطع به بذلك عن كونه ممكنا بحسب ذاته. قال السعد التفتازانى: كل ممكن عادة ممكن عقلا ولا ينعكس. انتهى. وتمثيل المحلى مشكل، وكذا تجويزه أن يكون الشىء محالا عقلا جائز عادة. وقد يجاب بأن الاستحالة إنما هى باعتبار ملاحظة لزوم انقلاب العلم جهلا. وهذا الاعتبار عقلى لا مدخل للعادة فيه، لأنه إنما ينظر فيها لظاهر الحال، قال ابن القاسم وكنت أجيب به من تلقاء نفسى حتى رأيته له والحمد لله، ومعنى استحالة الشىء لذاته أن العقل إذا تصوره حكم بامتناع ثبوته، قال بعض: إن جواز التكليف بالمحال عقلى وإن معناه أن يأخذ فى الأسباب لا أن يقع بالفعل إن كان لذاته، والتكليف المحال راجع للمأمور كمسألة تكليف الغافل والساقط من جبل، وقضية تعبيرهم بالتكليف اختصاص الخلاف بالوجوب، ولا يبعد جريانه فى الندب أيضاً وهو يتصور ذلك فى الحركة والكراهة، بأن يطلب منه ترك ما يستحيل تركه طلباً جازماً أو غير جازم فيه نظر، ويمكن أن يتكلف تصويره بتحريم، نحو المكث تحت السماء. قاله الصبان ومنع أكثر المعتزلة وأبو حامد الإسفرانى والغزالى وابن دقيق العيد التكليف بالمحال. الذى ليس ممتنعا لتعلق العلم بعدم وقوعه. قاله فى جمع الجوامع. قال منع الموانع أى منعوا الممتنع لغير تعلق العلم، لأنه لظهور امتناعه للمكلفين لا فائدة فى طلبه منهم، فالذى لا يجوز التكليف به عندهم: المحال لذاته والمحال عادة الذى هو أحد قسمى المحال لغيره، واعترض بأن انتفاء الفائدة فى طلبه لا يمنع. لأن أفعال الله تعالى لا لعله ولا لغرض: وأجيب بأن المراد بالفائدة الحكمة، والمنفعة الراجعة إلى المخلوق، وبالنظر إلى قول الغزالى ومن معه، والعلة والباعث بالنظر إلى قول المعتزلة، لأنه بعد ما ينفى النافى العلة والغرض من أفعاله تعالى لا ينفى عنها الفوائد، بمعنى الحكم والمصالح الراجعة إلى الخلق، وأجيب عن قولهم لا فائدة. إلخ: بأن فائدة اختيارهم هل تأخذون فى المقدمات فيترتب عليها الثواب أو لا؟.. فالعقاب إما الممتنع لتعلق علم الله بعدم وقوعه، فالتكليف به جائز وواقع اتفاقاً، وما ذكر من الجواب بأن فائدته إخبارهم جواب بتسليم أنه لا بد من اشتمال فعله - تعالى - على فائدة، مع أنه لا يسأل عما يفعل. ولئن سلمنا لا نسلم أنه لا بد من ظهورها، إذ لا بد من الحكيم إطلاع من دونه على وجه الحكمة. كما قاله القفال فى محاسن الشريعة، واعترض بأن هذه الفائدة ينميها قول المستدل لظهور امتناعه للمكلفين. وقد يجاب بأن الأخذ فى الأسباب باعتبار أن المكلف يجوز خرق العادة، فيأخذ فى المقدمات، ويبحث فى هذا بأنه إنما يتم فى المستحيل عادة لا فى المستحيل لذاته. والأحسن أن يجاب بأن المراد بالأخذ فى الأسباب ما يشمل طيب النفس وإذعاتها للتكليف بذلك. ولا شك أنه يتصور تعلقهما بالممتنعات، قاله ابن القاسم. قال ابن الصبان: ولا يخفى ما فيه ومنع معتزلة بغداد والآمدى التكليف بالمحال لذاته دون المحال لغيره بقسميه، ومنع إمام الحرمين التكليف بما استحالته لغير تعلق العالم، فاستحالته عند مانعة من التكاليف به فإن طلب الشىء مع العلم باستحالته لا يتصور كونه طلباً حقيقة إذ طلب الشىء حقيقة فرع عن إمكان حصوله وإلا كان عبثاً، وليست استحالته مانعة من طلبه فى قول الأسفرانى والغزالى، وابن دقيق العيد السابق، وهو مخالف لقول إمام الحرمين فى المأخذ لا فى الحكم، فإن مأخذ الإمام الاستحالة، ومأخذهم عدم الفائدة فى الطلب، ولم يمنع إمام الحرمين ولا غيره ورود صيغة الطلب له لغير طلبه. قال فى جمع الجوامع ومنع الموانع والمعنى أنهم لم يمنعوا أن ترد لغير طلب المحال كقوله تعالى:
{ كونوا قردة خاسئين } }. قال ابن السبكى والمحلى والصبان: الحق وقوع التكليف بالممتنع بالغير، وهو الممتنع عادة فقط، وبالممتنع عقلا فقط، وهو الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه، أما وقوع التكليف بالممتنع بالغير، فأنه تعالى كلف الثقلين بالإيمان وقال: { وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين } فامتنع إيمان أكثرهم لعلمه تعالى بعدم وقوعه. وذلك من الممتنع لغيره. وأما عدم وقوع التكليف بالممتنع بالذات فاللاستقراء، إذ لم يوجد أن الله تعالى كلف أحداً أن يجمع بين الماء والنار مع بقائهما على حالهما أو نحو ذلك، وقيل يقع التكليف بما هو محال لذاته كما يقع المحال لغيره لأن من أنزل الله فيه أنه لا يؤمن بقوله مثلا: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوْآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } كأبى جهل وأبى لهب وغيرهما، مكلف فى جملة المكلفين بتصديق النبى - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به جميعاً عن الله. ومنه أنه لا يؤمن أى لا يصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى شىء مما جاء به عن الله، فيكون مكلفاً بتصديقه فى خبره عن الله، بأنه لا يصدقه فى شىء ما جاء به عن الله، وفى هذا التصديق تناقض حيث اشتمل على إثبات التصديق فى شىء ونفيه فى كل شىء، فهو من الممتنع لذاته، وقد تقدم هذا. وإيضاحه: أن من نزلت فيه هذه الآية المذكورة قد حكم عليه بأنه لا يصدق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى شىء مما جاء به، على السلب الكلى، لأن قوله لا يؤمنون أى لا يصدقون بشىء مما جئت به كما يفيد حذف المعمول فى قوة سالبة كلية قابلة لا تصديق لهم بشىء مما جئت به، وهم مكلفون من جملة المكلفين بتصديق النبى - صلى الله عليه وسلم - فى جمع ما جاء به الذى من جملة مدلوله هذه السالبة الكلية، وهو عدم تصديقهم فى شىء مما جاء به وتصديقهم هذا الذى متعلقه عدم التصديق بشىء مما جاء به، فرد من أفراد التصديق المنفى الواقع موضوعا للسالبة الكلية المتقدمة، فهو إيجاب جزئى فى قوة قولنا: هم يصدقونه فى أخباره بأنهم لا تصديق لهم بشىء مما جاء به. وقد علم أن الإيجاب الجزئى يناقض السلب الكلى، فيكونون قد كلفوا بهذا التصديق الذى متعلقه عدم التصديق الكلى، مع كون ما كلفوا به من هذا التصديق الجزئى منتفياً، لكونه فرداً من أفراد التصديق المنفى، الواقع موضوعاً للسالبة المتقدمة، فقد لزم من تكليفهم بهذا التصديق اجتماع النقيضين، وهو اللازم على التكليف بالمحال لذاته، فيكون التكليف به من التكليف بالمحال لذاته، ويجاب بأن من أنزل فيه أنه لا يؤمن لم يقصد إبلاغه ذلك أنه لا يؤمن فلا يكون مكلفاً بتصديقه فيه فلا يلزم التناقض، وإنما قصد إبلاغ أنه لا يؤمن لغير من أنزل فيه أنه لا يؤمن وإعلام النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه لييئس من إيمانه كما قيل لنوح عليه السلام: { إنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن } فتكليفه بإيمان من التكليف بالممتنع لغيره، وهو الذى امتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه. وقال الجمهور لا يقع التكليف بالممتنع لغيره ولا لذاته إلا فى الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه لقوله تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } والممتنع لتعلق العلم فى وسع المكلفين ظاهرا. واختاره ابن السبكى فى شرح المختصر، وصرح فى شرح المنهاج بأن مختار ابن السبكى مختص بالممتنع، لتعلق العلم بعدم وقوعه، وبأن المحال عادة كالمحال لذاته فى أنه جائز غير واقع. وصرح الغزالى بأن إيمان نحو أبى جهل لا يتصف بالاستحالة، بل ممكن مقطوع بعدم وقوعه، ولا يخرجه العلم بعد وقوعه عن كونه ممكناً فى حد ذاته، وهو ظاهر. والله أعلم.