التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ ٱلأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ ٱلَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِٱلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ٱهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ وَٱلْمَسْكَنَةُ وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
٦١
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ }: على نوع واحد من الطعام ولو تكرر فإن من دوام على أطعمة متعددة يملها فهم قد داوموا على المن والسلوى وملوهما، فالمداومة على المن مداومة على طعام واحد، والمداومة على السلوى مداومة على طعام واحد، مع أنهم يجمعون كل يوم بينهما. هكذا ظهر لى فى تفسير الآية، وطعام نكرة فى سياق النفى تعم فعمت طعامين، ويقرب مما ذكرته قول صاحب الكشاف: أنهُ أراد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدل، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عديدة يداول عليها كل يوم لا يبدلها، قيل لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً يراد بالواحد نفى التبدل والاختلاف، قال: ويجوز أن يريدوا: أنهما ضرب واحد يعنى المن والسلوى لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والترفه.
{ فَادْعُ لَنا رَبَّك يُخرِجْ لنَا }: طعاماً.
{ مِمّا تُنْبِتُ الأَرْضُ }: متعلق بمحذوف نعت لمفعول يخرج المقدر، أى يخرج لنا طعاماً ثابتاً مما تنبت الأرض.
{ مِنْ بَقْلِهَا }: بيان لما متعلق بمحذوف حال منها فمن الأولى للتبعيض والثانية للبيان، وأسند الإنبات إلى الأرض مجازاً عقليا من الإسناد إلى الظرف القابل لفعل الفاعل الحقيقى، وهو الله ـ عز وجل ـ فإن الإنبات فعل الله يوقعه فى الأرض، أو من الإسناد إلى الآلة، فإن النبات يكون بالأرض، وجزم يخرج فى جواب ادع، لأن الإخراج مسبب عن الدعاء، فلو قرن بالفاء لنصب، ويجوز أن يكون من بقلها بدل بعض من قوله مما، والبقل ما أنبتت الأرض من الخضر، والمراد طائبة التى تؤكل كالذى يقال له بالبربرية ستميت والدلاع والكراث، وهو ما نسميه تفارة والكرفس واللفت والجزر.
{ وَقِثَّآئِهَا }: هو الذى إذا طاب وأدرك كان بطيخاً وقرئ بضم القاف وهو فيه.
{ وَفُومِهَا }: ثومها وهو شبيه بالبصل أنتن منه وأصغر، فإنهُ يسمى الثوم ويسمى الفوم، قال الضحاك: الفوم الثوم، وقرأ عبدالله بن مسعود: وثومها وكذا فى مصحفه، وكذا روى عن ابن عباس أن الفوم هو الثوم ويناسبه ذكر البصل والعدس بعده، ولا مانع من أن يقال الفاء بدل من الثاء كقولهم فى ثم فم وفى جدث جدف. وفى رواية عن ابن عباس الفوم الخبز، وعنه الحنطة وهو المنسوب لجمهور المفسرين. قال قتادة: الفوم الحبوب التى يمكن أن تخبز وإن قلت كيف صح لمن قال إنهُ الخبز أن يقولوا يخرج لنا من الأرض خبزاً قلت المراد يخرج لنا حبوباً تكون خبزاً بعد علاجها، كما أنهُ لا يخرج الحبوب ولا القثاء ولا العدس ولا البصل من الأرض مرة، بل بتدريج حتى تكون كما اقتضت حكمته، ولو شاء لفعل، ويقال: فوَّموا أى أكلوا الفوم الذى هو الخبز أو عملوا الخبز. وفوِّموا أى كلوه أو اعملوه.
{ وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا }: كانوا قوماً فلاحين أهل زراعات فمالوا إلى ما اعتادوه من الأشياء المتفاوتة واشتهوه كالبقول والحبوب، وذكروا عيشاً كان لهم بمصر وملوا ما كانوا فيهِ من النعمة وتعرضوا لزوالها. ويحتمل أن يكون طلبهم للبقل والقثاء والفوم والعدس كناية عن طلب الخروج من التيه إلى القرى، لأن ذلك فيها موجود فغرضهم القرى لا هذه الأطعمة والوجه الأول أصح، لأن هو الظاهر المتبادر من الآية طلبوا هذه الأطعمة لأنها تقوى شهوة الطعام، ولأنهم قد اعتادوها وملو ما هم فيه من الطعام الواحد، وكأنهم قالوا ذلك على تمام أربعين سنة أو على قرب تمامها بدليل جواب موسى لهم اهبطوا مصراً إذ أجابهم بالخروج.
{ قَالَ }: قال موسى أو الله.
{ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِى هُوَ أَدْنَى }: لذته قليلة من نسبة إلى غيره، والهمزة للتوبيخ وإنكار كون استبدالهم صواباً والسين والتاء للطلب، وأدنى اسم تفضيل من دنا يدنوا، بمعنى قرب قرباً حسيا فى المكان، استعير لما قرب قرباً معنويا وهو ما لذته قليلة بالنسبة، كما استعير البعد فى الشرف المعنوى فيقال ذلك مشاراً به للقريب حسا الشريف، وفلان بعيد الهمة بعيد المحل، وأصل ذلك أن الشئ الردئ لا يصان ولا يمنع من تناول الأيدى، ويلقى حيث أمكن، والشريف يصان ويجعل حيث لا ينال هذا ما ظهر لى وهو ـ إن شاء الله ـ أحسن من أن يقال مأخوذ من الدون مقلوب أدون بمعنى أحط. ومن قول الأخفش: أصلهُ أدناء بالهمزة بعد النون خففت بقلبها ألفاً من الأناءة بمعنى الخسة. ويقوى قول الأخفش قراءة زهير القرقبى: أدنأ بالهمزة بعد النون لكن الأصل عدم ادعاء القلب.
{ بِالَّذِى هُوَ خَيْرٌ }: أفضل فى اللذة والنفع وعدم التعب والعلاج، والأدنى هو البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل، والخير المن والسلوى. أى أتأخذون الأدنى بدل الأشرف؟ وخير اسم تفضيل وأدنى بمعنى دنى وخير بمعنى فاضل، فهما خارجان عن معنى التفضيل طلبوا ذلك فأبوا أن يرجعوا عنه، فدعا موسى الله، فقال الله تعالى:
{ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ }: فيهِ.
{ مَا سَأَلْتُمْ }: مما تنبت الأرض، أو قال موسى ذلك بأمر الله وافق سؤالهم ذلك، أو أن الخروج من التيه ودعاء موسى لا ينافى ذلك، لأنه لا مانع من أن يدعو فى ما قد ضمنه الله لهُ وحان أجله، بل الدعاء فيه أفضل، لأنه تذكر للنعمة وشكر لها، وكذا سؤالهم لا يمنع منه أنهم قد علموا بأن الأجل قد حان، ومن لم يعلم وسأل ذلك فلا إشكال عليه، ومعنى اهبطوا انزلوا، يقال هبط الوادى إذا نزل به، وهبط منه إذا خرج، فمصراً مفعولاً به أو منصوباً على التشبيه بالمفعول به، أو منصوب على نزع الخافض أى إلى مصر أو فى مصر أى انحدروا إليه من التيه، قيل بلاد التيه ما بين المقدس إلى قنسرين اثنى عشر فرسخاً طولا وثمانية عرضاً وقرئ بضم باء اهبطوا، والمراد بقوله مصراً مصر من الأمصار، أىّ مصر أرادوا. قال مجاهد وغيره أراد مصراً من الأمصار غير معين، ويدل له ما فى القرآن من أمرهم بدخول القرية وبما تظاهرت به الرواية أنهم سكنوا الشام بعد التيه، ويدل له التنوين أيضاً فإنه أليق بعموم المصر، وهو قراءة الجمهور وهو البلد العظيم. وأصله الحد بين الشيئين، وقال الحسن والكلبى: هو مصر هذه أعنى مصر النيل أعنى التى مرساها من البحر المالح الإسكندرية ومن النيل بلاق، وتسلمى الآن القاهرة وهى مصر يوسف وفرعون، وهى التى خرجوا منها أى ارجعوا إلى البلد الذى كان فيه عذابكم واستعبادكم وأسركم، فإن لكم فيه ما سألتم.
قال الكلبى: فكرهوا وهذا يدل أنهم سألوا ذلك قبل أوان قرب الخروج فلم يخرجوا حتى تمت أربعون سنة، وعبارة الشيخ هود. وقال بعضهم: كأن خروجهم إلى مصر هذه بأمر الله.. انتهت. وإن قلت كيف صح أن يقال هو مصر هذه مع أنه منون؟ قلت: لما سكن وسطه جاز صرفه لخفته بالسكون فخرج عن ثقل الفعل فصرف، ولو وجدت فيه علتا المنع من الصرف وهما التأنيث والعلمية، ووجه تأنيثه أنه علم على البلدة العظيمة أو القرية العظيمة أو البقعة أو الأصل الصرف، فرجع إليه بأدنى سبب وهو الخفة فخفته بالسكون عادلت إحدى العلتين الموجبتين لثقله المانع من تنوينه، فكأنه قد زالت إحداهما فقبل الصرف والعلم المؤنث الثلاثى الساكن الوسط المجرد من التاء مشهور بجواز الصرف وعدمه، كهند، بل أوجب بعضهم صرفه إذا كان علماً على بلدة، لأن اسم البلد لا يطلق على غيره فى الغالب، فلم يكثر استعماله فلم يحتج إلى تخفيف بمنع الصرف، ويجوز أن يقال صرف لكونه بمعنى البلد أو مصر مخصوص من الأمصار، فلم يوجد التأنيث فبقيت علة واحدة، وقرأ عبد الله بن مسعود والأعمش مصر بغير تنوين، وكذا فى مصحف ابن مسعود وهو ما يدل على أن المراد مصر فرعون المخصوص، واستدل له أيضاً بما فى القرآن من أن الله تعالى أورث بنى إسرائيل ديار آل فرعون. وقال الطبرى: الأظهر أنهم لم يرجعوا إليها مذ خرجوا منها، وجمهور القراء يقرءون بتنوين مصر، وجمهور النحاة على اختيار منع الصرف فى الثلاثى العلم المؤنث الساكن الوسط، وقيل المراد مصراييم بألف وياءين بعده وهو عجمى، فعرب بحذف الألف واليائين، فإنما صرف لكونه بعد الحذف ثلاثياً ساكن الوسط، فلم تؤثر فيه العجمة وكونه علماً على المصر المخصوص المذكور.
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ }: أى جعلت لازمة لهم لا تفارقهم كما يضرب الطين بالحائط فيلزمه ويلتزق به، وكلزوم الدرهم المضروب لسكته، أو أحيطت بهم كإحاطة القبة بمن ضربت عليه، فيجوز أن تكون الذلة مشبهة فى إحاطتها بهم بالقبة من بناء أو جلد أو نحوهما تشبيهاً مكنياً عنه دل عليه لازم المشبه به وهو الضرب عليهم، أو شبهها بالطين فى الالتزاق كذلك، وعلى الوجهين ضربت استعارة تبعية تحقيقية تصريحية استعيرت لإثبات الذلة عليهم.
{ الذُّلَّةُ }: الذل والهوان، وقيل الجزية وهو تفسير بالمسبب واللازم، ويبحث بأنه لا جزية عليهم يومئذ، ويجاب بأنهم استوجبوها على أنفسهم بمعاصيهم من يومئذ، وقد أخذها عنهم من كان قبل هذه الأمة ولا بعد فى ذلك كما ضربت عليهم المسكنة من يومئذ، ولكما ازدادوا معصية ازدادوا ذلا.
{ وَالْمَسْكَنَةُ }: كونهم مساكين قليلى المال أو عادميه تحقيقاً أو تنزيلا لأنفسهم منزلة من لا مال له، ولا كثر ما لهم، يظهرون ذلك لئلا يزاد عليهم فى الجزية أو المسكنة أثر قلة المال أو عدمه من السكون يظهرون ذلك، ولو كان لهم مال عظيم وغالب أمرهم إظهار ذلك ولو لم يكن بهم. وأما الذل فهم أذلاء كلهم تحقيقاً فيما يظهر. وقال القاضى: غالب أمرهم أيضاً الذل تحقيقاً أو تكلفاً كالمسكنة، ولا مانع من أن يراد بالذلة ذل القلب فقط، وبالمسكنة سكون الجوارح والألسنة الناشئ عن الذل لا سكون قلة الماء أو عدمه، وإنما ضربت عليهم الذلة والمسكنة جزاء على كفرانهم النعمة، ولا ترى أحداً من أهل المال أذل ولا أحرص على المال من اليهود، وكان الكسائى يقف على الذلة والمسكنة ونحو ذلك مما خفتم بهاء التأنيث وما شابهها فى اللفظ بإمالة الفتحة قبلها نحو الكسرة، إلا إن سبقها حرف من حروف قض خص ضغط خاجعاً الحاقة وقبضة والصاخة وخصاصة وموعظة والبالغة وبسطة والنطيحة والصلاة والزكاة والحياة والنجاة، أو سبقها راء مفتوح ما قبلها كبررة وعمارة وعورة، وفصل الساكن كلا فصل، أو مضموم كالعمرة والسورة، أو همزة مفتوح ما قبلها كامرأة وبراءة والنشأة أو هاء ولم يقع منها إلا لفظ سفاهة أو كاف مضموم ما قبلها نحو التهلكة والشوكة، فإن ابن مجاهد وأصحابه يخلصون الفتح فى ذلك وهم يقرون بقراءة الكسائى والنص عن الكسائى فى استثناء ذلك معدوم، قال أبو عمرو الدانى: وبإطلاق الكسائى فى ذلك قرأت على أبى الفتح عن قراءَته، وكذلك حدثنا محمد بن على قال حدثنا ابن الأنبارى، قال حدثنا إدريس عن خلف عن الكسائى إلا ما كان قبل الهاء فيه ألف فلا تجوز الإمالة فيه، ووقف الباقون بالفتح.
{ وَبَاءُو }: رجعوا.
{ بِغَضَبٍ مِنَ الله }: أو صاروا أحقاء به، فإن أصل باء بكذا ساواه يقال: باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به إذا كان كفواً له ومساوياً ولا يستعمل باء وحده بل موصولا بشر. وقال الطبرى: بل بشر أو بخير، وغضب الله إرادته الانتقام ممن عصاه ولم تكتب الألف بعد واو (باءو).
قال فى مورد الظماء:

وزيد بعد واو جمع كاعدلوا واسعوا ووا وكاشفوا ومن ساوا
لكن من باء وتبوء ووا ووا إسقاطها وبعد واو من سعوا
فى سباء ومثلها إن فاواء عتو عتوا وكذاك جاءوا
وبعد واو الفرد أيضاً ثبتت وبعد أن يعفو مع ذو حذفت

{ ذلك }: المذكور من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب وإنما يشار لغير المفرد بإشارة المفرد بالتأويل بالمذكور ونحوه اختصاراً، وكذا فى الضمير قال رؤبة:

فيها خطوط من سواد وبلق كأنهُ فى الجلد توليع البهق

والأصل أن يقول كأنها أى الخطوط أو كأنهما أى السواد والبلق، ومعنى التوليع اختلاف الألوان، ومعنى البهق بياض وسواد فى الجلد، وذلك لأن تثنية الضمير والإشارة والموصول وجمعهن وتأنيثهن ليست على الحقيقة، قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة إن أردت الخطوط فقل كأنها وإن أردت السواد والبلق فقل كأنهما، فقال أردت كأنه ذلك ويلك.
{ بِأَنَّهُم }: بسبب أنهم.
{ كَانُوا يَكْفُرون بآيَاتِ الله }: المعجزات التى أنزلها على موسى كفلق البحر، وإظلال الغمام، وإنزال المن والسلوى، وانفجار العيون من الحجر فبعضهم لم يؤمن بها وبعضهم لم يشكرها، وكل من ذلك كفر الأول شرك والثانى فسق ونفاق، ويحتمل أن يكون المراد بآيات الله التوراة وذلك كله كلام شأن إسلام اليهود الذين فى زمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهم أصحاب التيه ومن يليهم شنع بهم على الذين فى زمانه، لأنهم على طريقهم فى الكفر ولا يشكل على هذا وصفهم بقتل الأنبياء، فإنهم قتلوا الأنبياء قبل موسى كما قتلوهم بعده، وهو سبب تسليط فرعون عليهم، ويجوز أن يكون المراد بآيات الله التوراة والزبور والإنجيل، على أن المراد بالهاء فى قوله: { وضربت عليهم } اليهود السالفة الفاعلة لذلك مطلقاً ولا يجوز أن يكون المراد اليهود السالفة والذين في زمانه صلى الله عليه وسلم، وأن يكون المراد بآيات الله القرآن، ونعت محمد صلى الله عليه وسلم فى التوراة وآية الرجم والتوراة والإنجيل، لأن من فى زمانه لم يقتلوا الأنبياء، اللهم إلا أن يقال وصفهم بقتل الأنبياء، لأنهم على طريقة سلفهم القاتلين لهم فى الكفر والعناد، كما امتن عليهم بما أنعم على أسلافهم.
{ وَيقْتُلون }: وقرأ على ويقتلون بتشديد التاء.
{ النَّبِيِّين }: بالهمز عند نافع، وقرأ الباقون بياء مشددة بلا همز، وبعدها ياء الجمع وترك قالون الجمع فى النبئ إن أراد النبى وبيوت النبى إلا أن فقط فى الأصل بلا تشديد وذلك على أصله فى الهمزتين المكسورتين بحذف أولاهما.
{ بِغَيْرِ الحقّ }: بغير حق من الله ولا عندهم إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم، ولو اعتقاداً فاسداً، وإنما قتلوهم ركوناً إلى الدنيا وحبا لها واتباعاً للهوى، إذ خالف الحق الذين يأتون به أهواهم وحسداً ولم يفعل نبى قط ما يبيح قتله، وإنما سلط الله عليهم الجبابرة بالقتل كرامة لهم وزيادة فى منازلهم فيجمعوا يبن النبوة والشهادة كما يقتل المؤمنون من هذه الأمة وغيرها فى الجهاد. روى أنهم قتلوا شعياء وزكريا ويحيى وغيرهم، ويروى أنهم قتلوا سبعين نبياً فى أول النهار وقاموا إلى سوق البقل فى آخره، ولا ينافى قتل الأنبياء إخبار الله تعالى بأنه ناصر لرسله لأن الرسول أخص من النبى، ولأن النصر بإظهار الحجج وإفحام الكفرة لا بالعصمة من القتل، بل قتلهم هو نفس النصر إذا فحموا كل الإفحام حتى إنهم لم يجدوا ما يستترون به إلا القتل، ولأن العبرة بالغالب وغالب الأنبياء والرسل غير مقتولين، ولأن المخبر بأنهم مقتولون غير الذين يقال إنهم لم يقتلوا ولا محل للمنافاة.
{ ذَلِكَ }: المذكور من الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء.
{ بما عَصَوْا }: الباء سببية وما مصدرية، أى بسبب عصيانهم.
{ وكَانُوا يَعْتَدُون }: وبسبب كونهم يعتدون أى يبالغون فى المعاصى، وذلك أن صغار الذنوب تجر كبارها، وكذلك كبارها تجر أكابرها، والذنب مطلقاً يجر مثله وما دونه وما فوقه، لأن الذنب يطفئ من نور العقل فبقدر ما يطفئ منه يتعامى صاحبه، فيقع فى الكبير والصغير كالأعمش يقع فى الحفرة والبئر، وذلك عكس الطاعات، وإنما فسرت الاعتداء بالمبالغة فى المعاصى، لأنه فى اللغة مجاوزة الحد والله ـ عز وجل ـ قد حذرنا عن الصغير والكبير والأكبر، فالصغير والكبير داخلان فى عصوا، والأكبر داخل فى يعتدون، وكانوا يعتدون معطوف على عصوا، ولك أن تقول الاعتداء هنا أيضاً مطلق مجاوزة الحد، فيكون الوقوع فى الصغيرة اعتداء، فتدخل المعاصى الصغار والكبار والأكابر فى قوله: { عصوا } فيبقى قوله: { وكانوا يعتدون } توكيداً لقوله: { عصوا } ويجوز كون الباء للمصاحبة، أى ذلك المذكور من الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء مع عصيانهم، وكونهم يعتدون، ويجوز على الوجهين فى الباء أن تكون إشارة إلى المذكور من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب، ويجوز على الوجهين فى الباء والإشارة أن يكون المراد بالاعتداء اعتداءهم فى السبت.