التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلَّذِينَ ٱعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي ٱلسَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ
٦٥
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ }: والله لقد علمتم يا معشر اليهود.
{ الَّذِينَ اعْتَدَوْا }: جاوزوا الحد الذى قد حدّه الله ـ عز وجل ـ لهم.
{ مِنْكُمْ فى السَّبْتِ }: أى فى أمر تعظيم اليوم الذى بعد الجمعة، والسبت التعظيم، يقال: سبتت اليهود إذا عظمت اليوم الذى بعد الجمعة، ومعنى اعتدائهم فى تعظيمه تركهم تعظيمه إذا اصطادوا فيه، وسمى اليوم الذى بعد الجمعة باسم تعظيمه، وأصل السبت القطع، يقال سبت رأسه أى حلقه، والنعال السبتية هى المزالة الشعر، وجعل النوم سباتاً أى قطعاً للاشتغال، فيستريح النائم. فالراحة من لوازم السبوت لا معنى للسبوت خلافاً لبعض، وسمى ذلك اليوم باسم القطع وهو السبت، لأنهم أمروا فيه بقطع أشغال الدنيا، أو لأنه لم يقع الخلق فيه، بل انقطع عنه بتمامه يوم الجمعة، ولا مانع من أن يراد بالسبت نفس اليوم. واعتداؤهم فيه هو اصطيادهم فيه.
روى أن الله عز وجل أمر موسى عليه السلام بيوم الجمعة وعرفه فضله، كما أمر به سائر الأنبياء عليهم السلام، فذكر موسى ذلك لبنى إسرائيل عن الله سبحانهُ وأمرهم بالتشرع فيه فأبوا وتعدوه إلى يوم السبت، فأوحى الله إلى موسى أن دعهم وما اختاروا من ذلك، وامتحنهم بأن أمرهم بترك العمل وحرم عليهم صيد الحيتان، وشدد عليهم المحنة بأن كانت الحيتان تأتى يوم السبت حتى تخرج إلى الأفنية، قاله الحسن بن أبى الحسن، ولا بعد فيه لأن من الحوت ما يحيا فى البر أو أراد أنها تذهب وتنتشر حيث انتشر الماء، ولو انتشر إلى أفنيتهم أو أقدرها الله على ذلك امتحاناً لهم، وقيل حتى تخرج خراطيمها من الماء لأن ألهمها الله تبارك وتعالى أنهم امتحنهم بها، أو ألهمها الله أنها مأمونة لا تصاد يوم السبت، كما ألهم الله سبحانه وتعالى الأمن حمام مكة، وكما ألهم الأمن هذه الطيور الذاهبة إلى الحمرة التى ألفتنا فى بيوتنا المسماة بلغتنا: بُعد بضم الموحدة والعين المهمة، وإسكان الدال المهملة، أو تخرج كذلك لأمر يعلمه الله، وإذا ذهب السبت ذهبت الحيتان، ولزمن قعر البحر ولا يرى إلا القليل، حتى يكون يوم السبت: قال الكبى: كانوا فى زمان داود بأرض يقال لها أيلة، بمكان من البحر تجتمع فيه الحيتان فى شهر من السنة كهيئة العيد، تأتيهم منها حتى لا يرى الماء، وتأتيهم فى غير ذلك الشهر كل يوم سبت، كما تاتيهم فى ذلك الشهر، فبقوا على ذلك زماناً، وأنا أظن أن الحوت يقل فيما يليهم من البحر ولو فى قعره فى غير السبت، أو تتصعب عن الاصطياد من قعر البحر ولو كثرت امتحاناً، واشتهوا الحوت فعمل رجل يوم السبت فربط حوتاً وضرب له وتداً بالساحل، ولما ذهب السبت جاء فأخذه، فسمع قوم بفعله فصنعوا مثل ما صنع، وقيل بل حفر رجل فى غير السبت حفيراً يخرج إليه البحر، فإذا كان يوم السبت ظهر الحوت ودخلهُ، فإذا جزر البحر وبقى الحوت أو يبقى الماء فيه مع الحوت، فإذا ذهب السبت أخذه، ففعل قوم مثل ما فعل وكثر ذلك، ثم صادف ليلة السبت ويوم السبت علانية، وباعوه فى الأسواق فكان هذا من أعظم الاعتداء وكانت فرقة من بنى إسرائيل نهت عن ذلك فنجت من العقوبة، وفرقة لم تنه وقيل نجت وقيل هلكت وذلك فى قرية بالشام وتسمى أيلة، وذلك فى زمان داود عليه السلام.
روى أنه إذا جاءت ليلة السبت اجتمع من الحوت فوق الماء ما يغطى الماء ويبقى كذلك إلى غروب يوم السبت، فوسوس لهم الشيطان فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت ولم تنهوا عن أخذها فى غيره، فعمد رجال منهم فحفروا حياضاً كبارا حول البحر وشرعوا إليها الأنهار، فإذا كان عشية يوم الجمعة فتحوا تلك الحياض فيلقى الموج فيها الحوت من البحر، ولا تجد الخروج إذ لا يساوى ماؤها ماء البحر فيأخذوها يوم الأحد، وقيل يلقون حبائلهم يوم الجمعة ويخرجونها يوم الأحد، ففعلوا ذلك زماناً ولم تنزل بهم عقوبة، فتجرءوا على السبت، وقالوا ما نرى السبت إلا قد حل لنا، فأخذوا وملحوا وأكلوا وباعوا واستفادوا من ذلك أموالا، وذلك منهم شرك، لأنهم عدّوا ذلك حلالا، وقد حرمه الله، وكان أهل القرية ثلاثة أصناف صنف نهوا، وصنف اعتدوا، وصنف أمسكوا عن الاعتداء والنهى، وعدد جميعهم نحو سبعين ألفاً، والصنف الناهون اثنا عشر ألفاً.
وروى أنهم قالوا إن حرمة السبت ذهبت، وإنما عوقب بها آباؤنا فى زمان موسى، ثم استن الأبناء سنة الآباء، وكانوا يخافون العقوبة، ولو أنهم فعلوا لم يضرهم شئ، فأصروا على الاصطياد وداموا واستبشروا، إذ لم تنزل عقوبة فمشى إليهم الصالحون، وقد نهوهم أول ما علموا فقالوا: يا قوم إنكم قد انتهكتم حرمة سبتكم وعصيتم ربكم وخالفتم سنة نبيكم، فانتهوا عن هذا العمل الردئ من قبل أن ينزل بكم العذاب، فإنا قد علمنا أن الله منزل بكم عذابه عاجلا ونقمته، فلم يقبلوا نصحهم كما ذكر الله فى الأعراف، فقال الناهون: والله لا نساكنكم فى قرية، فجعلوا بينهم جداراً وبقوا كذلك سنين، ثم لعنهم داود ـ عليه السلام ـ وغضب الله عليهم لإصرارهم على المعصية، فخرج الناهون يوماً من بابهم ولم يخرج أحد من المعتدين ولم يفتحوا الباب، فلما أبطئوا تسوروا عليهم الجدار، فإذا هم قردة لهم أذناب يتعاوون، وقال قتادة: صار الشباب قردة والشيوخ خنازير، والخنازير مذكورة فى غير هذه الآية والقردة فى هذه الآية كما قال الله عز وجل:
{ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً }: جمع قرد بكسر، فإسكان، وقرئ كونوا قردة بفتح فكسر، ولفظ كونوا ليس أمراً حقيقاً لهم، لأنهم لا يقدرون أن يصيروا قردة ولا غيرها، وإنما هو أمر تحويل وتكوين، والمراد أنهم كانوا قردة بسرعة، وأنهم صاروا كذلك كما أرادهم، كقوله تعالى لشئ كن فيكون.
قال أبو زكريارحمه الله فى كتاب النكاح: وأما قوله تعالى: { كونوا قردة خاسئين } فهو أمر يدل على إهانة المآمور وعجزه، وهو مخاطبة الفعال انتهى. وسمى ابن الحاجب هذا أمر تسخير قال: الأمر للوجوب: { أقم الصلاة } والندب: { فكاتبوهم } والإرشاد:
{ وأشهدوا إذا تبايعتم } والإباحة: { فاصطادوا } والتأديب: (كل مما يليك) والامتنان: { كلوا مما رزقكم الله } والإكرام نحو: { ادخلوها بسلام } والتهديد: { اعملوا ما شئتم } والتسخير: { كونوا قردة } والإهانة: { كونوا حجارة } والتسوية { فاصبروا أو لا تصبروا } والدعاء: { اغفر لنا } والتمنى: "ألا انجلى" وكمال القدرة: { كن فيكون } انتهى. وزاد بعضهم التعجيز. قال ابن الحاجب: إنهُ صيغة مجاز فيما عدا الوجوب والندب والإباحة والتهديد، ثم الجمهور على أنها حقيقة فى الوجوب انتهى. وذكر أبو زكريا: أن صيغة الأمر فى كتاب الله سبحانهُ وتعالى على وجوه منها إيجاب مثل: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وآمنوا بالله، واعبدوا لله، واتقوا الله. ومنها إباحة نحو: { { كلوا مما فى الأرض حلالا } }، { { وانكحوا ما طاب لكم من النساء } ومنها الإطلاق بعد حصر مثل: { { فانتشروا فى الأرض } ومنها الندب مثل: { { فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً } } { { وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفاً } ، ومنها تهديد مثل:{ اعملوا ما شئتم }، { { اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله } ومنها إهانة المأمور وعجزه، وهو مخاطبة الفعال نحو: { كونوا قردة خاسئين }.
وروي أن الله عز وجل مسخ المعتدين قردة فى الليل فأصبح الناجون إلى مساجدهم ومجتمعاتهم، فلم يروا منهم أحداً فقالوا إن لهم لشأنا، ففتحوا عليهم الأبواب لما كانت مغلقة بالليل، فوجدوهم قردة يعرفون الرجل والمرأة، ويروى أنهم قردة يتواثب بعضهم على بعض، ولم ينج منهم أحد حتى صغارهم ومجانينهم، وذلك عقوبة عمتهم فى الدنيا، وتبعث الصبيان والمجانين على غير سوء من ذلك، ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت أن الممسوخ لا ينسل ولا يأكل ولا يشرب ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام. قال القرطبى: اختلف العلماء فى الممسوخ على قولين: أحدهما أنه ينسل وبه قال الزجاج وجماعة. واختاره القاضى أبو بكر بن العربى لقوله صلى الله عليه وسلم:
"فقدت أمة من بنى إسرائيل لا يدرى ما فعلت، ولا أراها إلا الفار ولا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشرب، وإذا وضع لها ألبان الشاة شربت" أخرجه مسلم فى صحيحه، والقول الثانى: أن الممسوخ لا يأكل ولا يشرب ولا ينسل ولا يعيش أكثر من ثلاثة أيام، وفيه حديث عن النبى صلى الله عليه وسلم، واختاره ابن عباس وابن عطية، ويمكن الجمع بأن ذلك ظن لا مدخل له فى التبليغ، وأوحى إليه بعد ذلك أن الممسوخ لا ينسل، كما روى أنه لما نزل على مياه بدر أمرهم بإطراح تذكير النخل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أخبرتكم عن الله فهو كما أخبرتكم، وإذا أخبرتكم برأى فى أمور الدنيا فإنما أنا بشر مثلكم" وقال مجاهد: ما مسخت صورهم لكن مسخت قلوبهم فمثلوا بالقرد كما مثلوا بالحمار فى قوله تعالى: { { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } أى كونوا قردة، رواه الطبرى وقال: إنه مخالف لظاهر القرآن والأحاديث والآثار وإجماع المفسرين.
{ خَآسِئِينَ }: وقرئ خاسين بإبدال الهمزة ياء، وحذف الياء المبدلة عنها، والمعنى رد بين بعيدين عن الخير إذ طردوا عنه أو ذليلين، وقيل: الخاسئ الذى لا يتكلم، وعن الحسن: صاغرين وهو خبر ثان للكون، لأن الصحيح جواز تعدد الخبر بلا تبعية، وبه قال ابن مالك، ومن منع قدر كونا آخر أى كونوا خاسئين كما يقدر المبتدأ حيث كان الظاهر تعدد الخبر، أو أول الاسمين بواحد كما يؤول حلو حامض بمر، والتقدير كونوا جامعين بين صورة القرد والخسى.