التفاسير

< >
عرض

فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
٧٣
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا }: لأنه معطوف على ادارأتم فيها، وقوله: { { والله مخرج ما كنتم تكتمون } معترض أو حال مقدرة، أى ادارأتم فيها، والله مقدر لإخراجها بعد، ولا يتركها خفية القاتل، والهاء فى اضربوه عائدة إلى النفس فى قوله: { { وإذ قتلتم نفسا } والنفس مؤنث كما أنث فى قوله: وإنما ذكر هنا للتأويل بالشخص أو بالمقتول أو الإنسان أو للنظر إلى المعنى، لأن المقتول رجل، وقيل: النفس يذكر ويؤنث، والمراد بالبعض جزءُ غير معين، فبأى جزء ضربوه امتثلوا الأمر واختلفوا فى أى جزء ضربوه به، وقيل: أمروا بجزء معين، وعلى هذا القول فلم يعين فى الآية مثل أن يقال: فقلنا اضربوه بلسانها أو بكذا، لأن الكلام ليس مسوقاً فى طريق بيانه، بل فى طريق تهوين الأمر فى قدرته، بأن قال إن ضربه بجزء من البقرة مذبوحة كاف، وعدم التعيين لهم أدخل فى الإعجاز والجزء الذى ضربوه به، سواء عين لهم أو لم يعين هو لسانها، لأنه آلة الكلام والضرب، إنما ليتكلم الميت باسم قاتله وهو قول الضحاك، قال الحسن بن الفضل: هذا أولى الأقوال، لأن المراد من إحياء القتيل كلامه، قلت بل كلما بعد الجزء عن مناسبة الحياة كان أدخل فى الإعجاز، لأنه ولو كان المراد إظهار القاتل لكن قصد به الإعجاز أيضاً، ولا سيما قد استدل باحيائه على البعث فى الآية بعده، وقيل بلسانها وقلبها، لأن الكلام يكون فى القلب واللسان يعبر عنه، وقال عطاء بن أبى رباح: هو العصعص، قيل وهو أولى التأويلات بالصواب، لأن العصعص هو الأساس الذى ركب عليه الخلق، وأنه أول ما يخلق وآخر ما يبلى، وقال مجاهد: ذنبها. وقال عكرمة والكلبى: فخذها الأيمن. وقال السدى: البضعة التى بين كتفيها، وقيل: الأذن، وقال ابن عباس: بالعظم الذى يلى الغضروف وهو أصل الأذن وهو مقتل. والصحيح أنهُ غير معين إذ لا دليل على تعينه فى الآية والحديث، وفى الكلام حذف، والتقدير فقلنا اضربوه ببعضها ليحيا ويخبركم بقاتله فضربوه به فقام حيا بإذن الله تعالى، وأوداجه تشخب دماً، وقال قتلنى فلان ثم سقط ميتاً، فجرم الميراث وقتل به وقيل: قال قتلنى فلان وفلان لابنى عمه، فسقط ميتاً ثم قتلا وحرما الميراث كذا قيل، ومقتضى شخب أوداجه دماً أنه قتل بالذبح والمتبادر من الآية أنهم ضربوه فى جسده، وعن ابن عباس: ضربوه قبره وذكر عنه أن أمر القتيل وقع قبل جواز البحر، وأنهم قاموا فى طلب البقرة أربعين سنة، روى أنه كان فى بنى إسرائيل شيخ موسر فقتله بنو أخيه ليرثوه وطرحوه على باب المدينة، ثم جاءوا يطالبون بدمه، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها فيحيا فيخبر بقاتله، وكان الشيخ صالح منهم عجلة، فأتى بها موضعاً يجتمع فيه الماء وينبت فيه الشجر، وقال: اللهم إنى أستودعتكها لابنى حتى يكبر، فشبت وكانت وحيدة بالصفات التى ذكر الله عز وجل فساوموها اليتيم وأمه، حتى اشتروها بملء جلدها ذهباً، وكانت البقرة بثلاثة دنانير فى ذلك الوقت، ولما تبين قاتلهُ حرم الميراث كما قال صلى الله عليهِ وسلم: "ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة" ، يعنى أن حرمان القاتل من الميراث مستمر من زمان هذا القاتل الذى فى قصة هذه البقرة. قيل كان فى بنى إسرائيل رجل غنى له ابن عم فقير لا وارث له سواه، فلما طالت عليه حياته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى، وألقاه على بابها، ثم أصبح يطلب ثأره وجاء بناس إلى موسى يدعى عليهم القتل فجحدوا، واشتبه أمر القتل على موسى عليهِ السلام: فسألوا موسى أن يدعوا الله ليبين لهم ما أشكل عليهم، فسأل موسى ربه فى ذلك فأمره بذبح بقرة، وأمره أن يضربه ببعضها، قال عطاء والسدى: كان فى بنى إسرائيل رجل كثير المال اسمه عاميل، ولهُ ابن عم مسكين لا وارث لهُ غيره، فلما طالت عليه حياته قتله ليرثه، وقال بعضهم: كانت تحت عاميل بنت عم لهُ تضرب مثلا فى بنى إسرائيل بالحسن والجمال، فقتلهُ ابن عمها لينكحها، فلما قتلهُ حملهُ من قرية إلى قرية أخرى فألقاه هنالك.
قال عكرمة: كان لبنى إسرائيل مسجد لهُ اثنا عشر باباً، لكل سبط منهم باب، فوجد قتيل على باب سبط وجر إلى باب سبط آخر، فاختلف السبطان فيهِ، وقال ابن سيرين: قتلهُ القاتل ووضعه على باب سبط منهم، ثم أصبح يطلب ثأره ودمه ويدعيه عليهم، وقيل ألقاه بين القريتين فاختم فيه أهلها فجاءوا أولياء المقتول إلى موسى ـ عليه السلام ـ وأتوا بأناس وادعوا عليهم القتل وسألوه القصاص، فسألهم موسى وجحدوا، ولم تكن بينة، واشتبه أمر القتيل على الناس، فوقع بينهم خلاف يدعو إلى القتال وذلك قبل نزول المقاسمة فى التوراة، فسألوا موسى عليهِ السلام أن يدعو الله تعالى ليبين لهم أمر ذلك، فسأل موسى ربه تبارك وتعالى، فأمرهم بذبح البقرة على ما تقدم فى تفسير الآية.
قال السدى وغيره: كان رجل من بنى إسرائيل بارا بأبيه، وبلغ من بر أبيه أن رجلا أتاه بلؤلؤة فابتاعها منه بخمسين ألفاً وكان فيها فضل وربح، فقال البائع أعطنى ثمن اللؤلؤة، فقال إن أبى نائم ومفتاح الصندوق تحت رأسه فأمهلنى حتى يستيقظ وأعطيك الثمن، فقال: أيقظ أباك وأعطنى الثمن، فقال: ما كنت لأفعل ولكن أزيدك على الثمن عشرة ألاف وأمهلنى حتى ينتبه فقال الرجل: أنا أعطيتك عشرة آلاف إن أنت أيقظت أباك وعجلت النقد، فقال: أنا أزيدك عشرين ألفاً إن أنت انتظرت انتباهه، فقال: قبلت، ففعل ولم يوقظ أباه، ولما استيقظ أبوه أخبره، فدعا لهُ وجازاه خيراً، وقال: أحسنت يا بنى، وهذه البقرة لك بما صنعت لى، وكانت بقرة من بقية بقر، وكانت لهُ، قال ـ صلى الله عليهِ وسلم ـ فى هذه القصة:
"انظروا ما صنع البر" ؟ وقال ابن عباس، ووهب بن منبه: كان فى بنى إسرائيل رجل صالح له ابن صغير، وكانت لهُ عِجْلة فأتى بها إلى موضع الماء والشجر، وقال: اللهم إنى استودعتك هذه العجلة لابنى حتى يكبر، فمات الرجل فشبت العجلة حتى صارت عواناً، وكانت تهرب ممن يرومها، وكان الابن باراً بوالدته، فلما كبر كان يقسم الليل ثلاثة: يصلى ثلثاً، ويجلس عند رأس أمه ثلثاً، وينام ثلثاً، فإذا أصبح انطلق يحتطب على ظهره، فيأت السوق فيبيعه بما شاء الله فيتصدق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطى أمه ثلثه، فقالت لهُ أمه يوماً: يا بنى إن أباك ورثك عجلة وذهب بها إلى موضع كذا، واستودعها الله فانطلق إليها، وادع الله أن يردها إليك وإن علامتها إذا نظرت إليها أن يتخيل إليك أن بها شعاع الشمس يخرج من جلدها، وكانت تسمى المذهبة لحسن لونها وصفائها وصفرة لونها، فأتى الموضع فرآها ترعى فصاح عليها فقال: أعزم عليك بالله، ورُوِى بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فأقبلت تمشى حتى وقعت بين يديه فقبض على عنقها وقادها، فتكلمت البقرة بإذن الله تعالى، وقالت: أيها البار بوالدته اركبنى فإن ذلك أهون عليك، قال الفتى: إن أمى لم تأمرنى بذلك، ولكن قالت لى خذ بعنقها، فقالت البقرة: وإله موسى وإله بنى إسرائيل لو ركبتنى ما كنت تقدر على أبداً، فانطلق فإنك لو أشرت إلى الجبل أن ينقلع من أصله فينطلق معك لفعل ببرِّك بوالدتك. فانطلق الفتى بها فاستقبله عدو الله إبليس فى صورة راع، فقال: أيها الفتى إنى راع من رعاة البقر اشتقت إلى أهلى فأخذت ثوراً من ثيرانى وحملت عليهِ زادى حتى إذا بلغت شطر الطريق ذهبت لأقضى حاجتى، فتعدى وصعد إلى الجبل وما قدرت عليهِ، وإنى لأخشى على نفسى الهلكة فإن رأيت أن تحملنى على بقرتك وتنجينى من الموت، وأعطيك أجرتها بقرتين مثل بقرتك، فلم يفعل الفتى وقال: اذهب وتوكل، فلو علم منك الصدق لبلغتك بلا زاد ولا راحلة، فقال إبليس لعنة الله، إن شئت بعنيها وإن شئت فاحملنى وأعطيك عشرة مثلها، فقال الفتى: إن أمى لم تأمرنى بهذا. فبينما الفتى كذلك إذ طار طائر من بين يديه، ونفرت البقرة هاربة من الفتى، وغاب الراعى فدعاها الفتى باسم إله إبراهيم فرجعت البقرة إليه، وقالت: أيها الفتى البار بوالدته ألم تر إلى الطائر الذى طار؟ قال: نعم. قالت: إنه إبليس لعنه الله اختلسنى، فلما دعوت بإله إبراهيم جاء ملك فانتزعنى منه وردنى إليك لبرك بأمك وطاعتك لها، فجاء بها الفتى إلى أمهِ، فقالت له أمه: إنك فقير لا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل، فانطلق وبع هذه البقرة وخذ ثمنها، فقال: بكم أبيعها؟ فقلت: ثلاثة دنانير، ولا تبعها بغير رضائى ومشورتى، وكان ثمن البقرة فى ذلك الزمان ثلاثة دنانير، فانطلق بها الفتى إلى السوق، فبعث الله تعالى ملكاً ليرى خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بره بأمه، فقال له: بع هذه البقرة لى فباعها بثلاثة دنانير على رضا أمه. فقال لهُ الملك: أعطيك ستة ولا تشاور أمك. فقال الفتى: لو أعطيتنى وزنها ذهباً لم أبع إلا برضى أمى، فردها إلى أمه وأخبرها، فقالت له أمه: ارجع وبعها بستة دنانير على رضائى، فانطلق الفتى بالبقرة إلى السوق فأتى الملك إليه، فقال: أشاورت والدتك؟ فقال الفتى: نعم أمرتنى ألا أنقصها من ستة الدنانير، وعلى أن أستأذنها، فقال الملك: إنى أعطيك اثنى عشر ديناراً على ألا تستأذنها، فأبى الفتى ورجع إلى أمه فأخبرها بذلك. فقالت: إن ذلك الرجل الذى يأتيك هو ملك من الملائكة يأتيك فى صورة آدمى ليختبرك فإذا أتاك فقل أتأمرنى أن أبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل الفتى فقال لهُ الملك: اذهب إلى أمك وقل لها امسكى هذه البقرة فإن موسى بن عمران يشتريها لقتيل بنى اسرائيل، فلا تبيعوها إلا على ملء جلدها دنانير، فأمسكوا البقرة وقدر الله سبحانه على بنى إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها مكافأة له على بره بوالدته فضلا منه ورحمة، وذلك قوله تعالى: { { قالوا ادع لنا ربك... } الآيات فاشتروها بملء جلدها ذهبا. وقال السدى: اشتروها بوزنها عشر مرات فذبحوها وضربوه ببعضها، وحيِىَ بإذن الله تعالى، فأوحى الله تعالى إلى الأرض المقدسة فينظر كل قتيل يجدوته بين قريتين أو محلتين فيأخذ أقرب قريتين إليه وليلزمهم الدية، وإن علموا قاتله سلموه، وإن لم يعلموه يحضروا الخمسين رجلا من شيوخهم وصلحائهم، ثم يأخذوا بقرة حولية فيذبحوها ويضعوا أيديهم عليها، ويحلفوا بالله العظيم رب السماوات إله بنى إسرائيل ويعقوب إنا ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، وإذا حلفوا برئوا من ديته، وإن لم يحلفوا أدوا ديته إلى أوليائه، فلم يزل موسى يقضى بالقسامة إلى أن مات عليه السلام، وكذلك بنو إسرائيل حتى جاء الله بالإسلام، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسامة، ويأتى بيانه إن شاء الله، وقيل: قتله ابن أخيه، وقيل: ورثه غير معينين وتنازعوا فى أمر قاتله حتى حملوا السلاح كل يقول لآخرين أنتم القاتلون أهل القريتين والسبطان، فقال أهل النهى منهم أنقتتل ورسول الله معنا، فذهبوا إلى موسى فقصوا له القصة وسألوه البيان، فأوحى الله تعالى إليه أن يذبحوا بقرة فيضرب القتيل ببعضها فيحيا فيخبر بقاتله. وروى أنه لما ذهب الفتى إلى البقرة بأمر أمه فرأته فجاءت إليه حتى أخذ بقرنها، وكانت مستوحشة، فلقيه بنو إسرائيل ووجدوا بقرته على الصفة التى أمروا بها فساوموه فاشتط عليهم، فأتوا به موسى عليه السلام وقالوا له: إن هذا اشتط علينا، فقال لهم: ارضوه فى ملكه فاشتروها منه بوزنها مرة، قاله عبيدة السلمانى، وقيل بوزنها مرتين، وتقدم قول بعشر مرات، وأما حكم المقاسمة فى هذه الشريعة فمذكور فى الديوان، والنيل واللفظ له هكذا باب شرط القسامة أن توجد فى قتيل حر علامة قتل، ولا يعلم قاتله ولا يدعى على معين، ولا يوجد بمسجد تصلى فيه جماعة، ولا قتل من زحام، ولا يكون فى البلد قوم بينه وبينهم عداوة.
ومن غيره فإذا كملت الشروط لزم تلك البلد أو المحلة أو قريبا منها أن يحلفوا خمسين يميناً ما قتلناه ولا علمنا قاتله، وليس على أعمى وصبى ومجنون وامرأة أن لم تكن بالمحل وحدها قسامة، وإن وجد به أحد ولو امرأة تكررت عليها الأيمان حتى تتم خمسين ثم يدفع الدية، وتؤدى على امرأة عاقلتها إن كانت لها، وإلا فمن مالها وكذا إن لم يكن إلا مشرك تكررت عليه وتديها عاقلته، وعلى مولى العبد أن انفرد كذلك ومن لا عشيرة له لزمته فى ماله والحى كالدار والبيت فإن وجد فى كدار ربها خصت القسامة به، وكذا أهل الخطة لا تجاوزهم لغيرهم من ساكن أو مسافر أو مشرك ما دام أحد من أهلها، فإن لم يكن لزمت هؤلاء الأصناف ممن كان منهم بها وعلى عواقلهم الدية،
وإن وجد بمحل تجب فيه، ولو أب وابنه وزوج وزوجته لزمتهم، وعلى عواقلهم الدية، فمن أبى أن يحلف حبس حتى يحلف أو يقر، وتحب فى الظهور لا فى جارحة غير رأس دون بدن، وإن وجد الرأس وحده أو القتيل مقسوما أنصافا على الطول فهل تجب فيه أو لا؟ قولان. وإن قسم بعرض لزمت فيما يلى الرأس، وإن وجد بين قريتين أو سكتين قيس ما بينهما ولزمت أهل القريبة إليه، وإن استوتا فالكل، ويقاس من موضع رجليه إن وجدتا وإلا فمن بينهما، وقيل من موضع كل لناحية أخرى، وقيل لنا حيتها وإن وجد بوسط منزل أو طرفه لزمت أهله، وكذا شارعهم وأهل الزنقة خاصة.
وإن وجد فيها وإن بمسجد رجل أو واديه خص بها، وهل لزمت بوادى عامة أهلها أولا؟ قولان. وكذا بالسوق ولزمت بوجوده فى الأميال أو داخلها لا خارجها وأقرب الحيين إليه، وإن وجد بينهما وهما معاً إن استويا إليه، وإن برحلة مسافرين أو حى فعليهم، ولزمت سائق دابة وجد عليها أو قائدها أو راكبها، وكلهم إن اجتمعوا وكانوا من أهلها وتدعيه عواقلهم، وإن لم يستووا إليه فعلى من كانت بيده يصرفها حيث شاء، وإن لم يوجد معها أحد فعلى أهل موضع وجدت فيه لا على صاحبها، وإن على شجرة أو حائط أو جبل أو سارية فسواء. والخيار فيها للولى، فمن اختاره للحلف حلف، ومن يراه يرى وإن استمسك بواحد فهو إبراء لغيره، وصح إبراء القتيل، وإن ادعى مستمسك به أنه جرحه فإبراء لغيره. ولا يقتل مدعى عليه إلا بإقراره أو بيان عليه، وهل يقبل من أهل خطة وجد فيها على غيرهم أولا؟ قولان. ولا يقبل من وراثه وهو إبراء للغير، ولزمت حاملا له على ظهره وتتكرر عليه الأيمان، وتديه عاقتله كعواقل أهل الخطة إن كانوا من قبائل شتى ولزمت فى سقط به أثر جرح إن كملت خلقته، وإن وجد قتيل بين قوم ولم يعرف لهُ وارث أخذ منهم ديته الإمام، وتصح فى مشرك لا فى عبد لأنه مال، وإن وجد بقرية أصلها لذوى الشرك، والإسلام، وهل لزمت الكل أو تختص بذوى الإسلام خلاف.
فصل
يؤدى على مكاتب وساع ببعض قيمته ما بقى من ديتهما، ولزمت من كان بسفينة وجد بها، وإن وجد جريح فى قبيلة ولم يدر ما به ولم يزل ملازم فراش حتى مات لزمتهم قسامته وديته وفى اثنين وجد بينهما قتيل لابعد لقاء عسكر عدوه، وإن مات أهل قرية وجد بها وبقى فيها نساء وأطفال ومجانين وغياب، فهم لزمتهم قسامته أولا فيه دون تردد، وإن أعطى أهل خطة دية قتيل فأتى مقر بقتله أو مبين عليه لزمه القود أو الدية وأخذها ردها لمعطيها فالقسامة على أهل الديوان والقتال والفئتان إن وجد فيهم يده على رءوسهم من أموالهم، وقيل لا يحكم على واحد منهم بشئ حتى يتبين قاتله فيقتل به أو يديه إن كان لا يقتل به، وقيل إنما يديه منهم الذين لم تقبل منهم، وقيل: عكسه والحر والعبد والذكر والأنثى، والموحد وغيره والطفل والبالغ، سواء كان كالليل والنهار فى مقاتلتهما، وقيل إن كانت ليلا ولو تعدد القتيل أو قتل من كل والفيئة من ثلاثة فأكثر وجوز وإن من ناحية اثنان، وحكم بذلك إن أبطلتا أو جهل حالهما فيدوه معاً، وإن كانت إحداهما محقة لزمت المبطلة، وإن كان القتيل من محقة لزم المبطلة ديته، وقيل: يوقف حتى يتبين قاتله بإقرار أو بيان كانتا مشتركتين أو بعضهما، ويوقف أمرهم إن كانتا أطفالا أو مجانين حتى يتبين وترد الدية إن بان قاتله بعد أخذها وأما القتل وإتمام العدة بالأطفال والمجانين ففيه تردد. انتهى كلام الديوان بلفظ النيل.
وقالت الشافعية: إذ وجد قتيل فى موضع لا يعرف قاتله فإن كان ثم لوث على إنسان ادعى به، واللوث على الظن صدق المدعى بأن اجتمع جماعة فى بيت أو صحراء، ثم تفرقوا على قتيل فيغلب على الظن أن القاتل فيهم إن وجد قتيل فى محلة أو قرية، وكلهم أعداء القتيل لا يخالطهم غيرهم فيغلب على الظن أنهم قتلوه، فإن ادعى الولى على بعضهم حلف خمسين يميناً على من يدعى عليه، وإن كان الأولياء جماعة توزع الإيمان عليهم، فإذا حلفوا أخذوا الديه من عاقلة المدعى عليه ولا قود عليه فى قول الأكثرين، وذهب عمر بن عبدالعزيز إلى وجود القود به. قال مالك وأحمد: فإن لم يكن ثم لوث فالقول قول لما هى عليه، لأن الأصل براءة ذمته من القتل، وهل يحلف يميناً واحدة كما فى سائر الدعاوى، والثانى يحلف خمسين يميناً تغليظاً لأمر القتل، وعند أبى حنيفة ألا حكم للوث ولا يبدأ بيمين المدعى، بل إذا وجد قتيل فى محلة يختار الإمام خمسين رجلا من صلحاء أهلها فيحلفهم أنهم ما قتلوه ولا يعرفون له قاتلا، فإن حلفوا وإلا أخذوا الدية من سكانها، والدليل على أن البداءة بيمين المدعى عند وجود اللوث، ما روى عن سهل بن أبى حثمة قال:
"انطلق عبدالله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خبير وهى يومئذ صلح فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط فى دمه قتيلا، فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبدالرحمن بن سهل وحويصة ابن مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عبدالرحمن يتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر كبر وهو أحدث القوم سنا، فسكت فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم، أو قال صاحبكم؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر. قال: فيحلف خمسون من اليهود. قال: كيف نأخذ بأيمان قوم كفار. فعلقه النبى صلى الله عليه وسلم من عنده" ، وفى رواية يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته، وذكر نحوه، وزاد فى رواية: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه ففداه بمائة من إبل الصدقة. أخرجاه فى الصحيحين، وجه الدليل من هذا الحديث. أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدأ بأيمان المدعين ليقوى جانبهم باللوث، لأن اليمين أبداً تكون لمن يقوى جانبه، وعند عدم اللوث يكون من جانب المدعى عليه من حيث إن الأصل براءة ذمته، فكان القول قوله مع يمينه. والله أعلم. ذكره صاحب لباب التأويل والدميرى من الشافعية.
وقالت المالكية: يقسم الولاة خمسين يميناً إذا وجبت القسامة، ويستحقون الدم ولا يحلف فى العمل أقل من رجلين بشرط أن يكون من العصَبة سواء، ورثوا أم لا، فإن لم تكن عصبة من النسبة فالمولى الأعلون لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأخى المقتول بخير وبنى عمه:
"أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟" فجمعهم فى الأيمان فلم يفرد الأخ بها دون بنى عمه، ولما كان لا يقتل بأقل من شهادة رجلين لم يستحق دمه بأقل من قسامة رجلين؟ قال أشهب: وقد جعل الله لكل شهادة رجل من الزنى يميناً من الزوج فى لعانه، قال ابن الماجشون: ألا ترى أن النساء لا يقسمن لما كان لا يشهدن فيه، ولا يقتل بالقسامة أكثر من رجل واحد، لأنهُ لا يعلم أقتله الكل أو البعض، والمتحقق منهم واحد والمزيد عليه مشكوك فيه، وتحت القسامة بقول الميت عند دمى فلان بشرط أن يكون بالغاً حرا مسلماً فلا يقبل قول الصبى، ولو كان مراهقاً على المشهور، ولا فرق فى المدعى عليه بين أن يكون حرا أو عبداً صغيراً أو كبيراً ذكراً أو أنثى، عدلا أو مسخوطاً، مسلماً أو ذمياً. قال فى المدونة: ولو كان المدعى عليه القتل أروع أهل زمانه، وقال ابن عبد الحكم: لا يقبل قول. المسخوط على العدل لبعد دعواه، والأول هو المشهور، وظاهر صاحب الرسالة فى قوله: دمى عند فلان أنهُ يقبل، ولو لم يكن فيه جرح وهو ظاهر المدونة، ورواه ابن وهب عن مالك، وبه قال أصبغ، وعن ابن القاسم أنهُ لا يقبل قوله إلا مع الجرح المتبطن، ويقول بن القاسم: العمل عند المالكية، قال فى المقتصر وهو المشهور، وتجب القسامة أيضاً بشهادة العدل بمعاينة القتل، فيقسم الولاة مع شهادته، ويستحقون الدم ولا يقسمون مع شهادة غير العدل على المشهور، لأن شهادة غير العدل ساقطة شرعاً، وعن مالك أن شهادته لوث وبأن يرى العدل القتيل يتشحط فى دمه والمتهم بالقتل بالقرب منه وعليه آثار القتل من التلطخ والمدية بيده، هذا هو المشهور، وحكى ابن سهل: أن العمل عندهم جار على أن هذا ليس لوثاً، وبأن يشهد المجروح أن فلاناً جرحه أو ضربهُ وشبه ذلك الجرح أو الضرب أو بأن يشهد اثنان أن فلاناً جرح فلاناً أو ضربه عمداً أو خطأ، ولو لم يعاين الجرح أو الضرب أو إقراره بذلك يوماً فأكثر، ولو أكل أو شرب فيقسم الولاة أنه من ذلك الجرح أو الضرب مات، وبأن يشهد واحد بالجرح أو الضرب، سواء قال عمداً أو خطأ، قال فى المدونة: وإن شهد شاهد أن ضربه وعاش الرجل وتكلم، وأكل وشرب ولم يسألوه أين دمك حتى مات ففيه القسامة، ولذلك تثبت القسامة إذا شهد شاهد باقرار المقتول أن فلاناً قتله عمداً، فلو قال خطأ لم تثبت، لأن قول المقتول فى الخطأ جار مجرى الشهادة على العاقلة بمال الشاهد، لا ينقل عنه إلا اثنان، والفرق بين العمد والخطأ لأن العمد لوث محض، والدماء يعمل فيها باللوث، بخلاف الخطأ فإنه مال، والأموال لا يعمل فيها باللوث، ولا بد من ثبوت الموت فى جميع أمثلة اللوث لاحتمال أن يكون حيا ولا قسامة فى حى، وإذا اختلف شاهدا القتل بأن قال أحدهما: قتل بخنجر: وقال الآخر: بل بسيف. بطل الحق لتعارضهما، ولا يبقى إلا مجرد الدعوى، فليس للأولياء أن يقسموا مع شهادة أحدهما نص عليهِ في المدونة، وإذ نكل مدعى القتل على أحد عمداً أو بعضهم سقط الدم وردت الإيمان على المدعى، فيحلف خمسين يميناً وحده وليس له الاستعانة فيها بأحد من ولاته، هذا هو المشهور، ومذهب المدونة، وقول مطرف، وقال، ابن القاسم: له ذلك، وفى مقتضى الكلام، وإن ادعى القتل على جماعة فكل مدعو أو بعضهم سقط الدم أيضاً فترد الأيمان على المدعى عليه، فيحلف كل واحد منهم خمسين يميناً لأنه يدفع عن نفسه القتل، فكل واحد غريم ولا يضرنا أنه لا يقتل بالقسامة إلا واحد، فإن نكل أحد ممن توجه عليه اليمين حبس أبداً حتى يحلف أو يموت، فإن نكل مدعوا الحطأ ردت الأيمان على عدة العاقلة، فإن حلفوا برءوا وإن نكلوا غرموا، وإن نكل البعض وحلف البعض، فمن حلف لم يلزمه غرم، ومن نكل غرم حصته فقط، والقاتل كرجل من العاقلة، هذا قول ابن القاسم. قال ابن رشد: وهو أبين الأقوال، ولابن القاسم أيضاً أن الناكل يلزمه الجميع، وإذا وجد من عصبة المقتول خمسون رجلا فإن الأيمان توزع عليهم، فيحلف كل واحد منهم واحدة فذلك خمسون يميناً وهو أوضح، وإن كانوا أقل قسمت عليهم الأيمان إلى اثنين كما مر أنه لا يحلف فى العمد أقل من رجلين، فيحلف كل واحد منهما خمساً وعشرين يميناً، وإن طلب أحدهما أن يحلف أكثر من نصيبه لم يجز، وإن كانوا أكثر من اثنين قطاع منهم اثنان أن يحلفا جميع الأيمان اكتفى بهما بشرط ألا يكون ذلك نكولا ممن لم يحلف، ويستحق البقية حينئذ ما وجب بالقسامة على المشهور، ولا تحلف المرأة على العمد، وذكر ابن الحاجب أن القسامة أن يحلف الوارثون المكلفون فى الخطأ وكذا إن لم يكن إلا واحد، وسواء الذكر أو الأنثى خمسين يميناً متوالية على البت ولو كان أعمى أو غائباً، وتوزع الأيمان على الميراث وجبر فسر اليمين على ذى الأكثر من الكسر، وقيل على الجميع كما لو تساوى الكسر عليهم، قال بعض الشيوخ: إنما اشترط فى الأيمان توالى لأنه أرهب وأوقع فى النفس، وأما اشتراط كونه بتا فلأنه الذى ورد به النص فى قصة حويصة ومحيصة، وقول الأولياء كيف نحلف ولم نحضر، وأما العمى والغيبة فلا يمنعان من تحصيل أسباب العلم، وأما توزيع الأيمان على الميراث فظاهر لأنها سبب لحصوله، فإن انكسرت يمين فإما أن يساوى الكسر أو يختلف، فإن تساوى حلف كل واحد يميناً كأربع بنين فيحلف كل واحد ثلاث عشرة يميناً، وإن اختلف حلفها أكثرهم نصيباً من اليمين المنكسرة على المشهور، فإن كان ابن وبنت حلف الابن ثلاثاً وثلاثين، وحلفت البنت سبع عشرة لأنها قد خصها من اليمين المنكسرة ثلثها، وقيل يحلف كل واحد يميناً كما إذا تساوى الكسر عليهم، وقيل يحلفها صاحب الأكثر من الأيمان، لا من الكسر فيحلفها الابن فى المثال، فإذا حضر بعض ورثة دية الخطأ وأراد أن يحلف نصيبه من الأيمان ويأخذ نصيبه من الدية لم يكن لهُ، ولكن حتى يحلف جميع أيمان القسامة إذ لا يلزم العقيلة شئ من الدية إلا بعد ثبوت الدم، وهو لا يثبت إلا بعد حلف جميع أيمان القسامة، فإذا وجبت الدية بأيمان من حضر أولا فكل من حضر بعد ذلك حلف نصيبه من الأيمان، فيحلفون كلهم ولو كانوا عشرة آلاف رجل، والقاتل كرجل منهم، فمن حلف لم يلزمهُ شئ ون نكل لزمهُ ما يجب عليه خاصة، وهو أحد قولى أبى القاسم وابن رشد، وهو أبين الأقاويل وأصحها فى النظر، ويحلفون فى القسامة قياماً لأنه أردع للحالف وأهول فى حقه، لعلهُ يرجع للحق إن كان مبطلا، وإن لم يحلف قياماً كان ذلك نكولا منهم، ويجلب إلى مكة والمدينة وبيت المقدس من أهل أعمالها للقسامة ولا يجلب إلى غير فى غيره إلا من الأميال اليسيرة، لأن ذلك أيضاً أهول للحالف وأردع للكاذب، ولا قسامة فى جرح، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكم بالقسامة فى نفس، ولأن حرمة الجرح أخفض من حرمة النفس، ألا ترى أن لا كفارة فيه كما فى النفس، وكذلك لا قسامة فى عبد لأنه أخفض رتبة من الحر، وكذلك لا قسامة فى أهل الكتاب لنقصان حرمتهم بالكفر، وإن اقتتلت طائفتان من المسلمين، ثم انفصلوا عن قتلى ولم يعلم من قتلها من الطائفتين، فقيل لا قسامة ولا قود، سواء ادعى المقتول أن دمه عند أحد أم لا. هكذا قال مالك فى المدونة، فأبقاه بعض شيوخها على ظاهره، وقيده آخرون بما إذا لم يكن لوث، وإذا كان فى القسامة وهو تأويل ابن القاسم، وبه قال أصبع ومطرف وابن الماجشون وأشهب، قال بعض المتأخرين: ينبغى ألا يعدل عن هذا، وقال بعض معنى قوله فيها لا قسامة أنه لو قال: دمى عند فلان لم تكن قسامة، لأنه إذا قدم على قتله لا يستكثر عليه الكذب، وأما إذا قام له شاهد بمعاينة القتل فالقسامة، وقيد ابن رشد القاتل بأن يكون من غير الطائفتين، قال بعض: وهو تقييد لا بد منه، وهذا إذا كانتا باغيتين وإن تأولتا هدر دم المقتول، وإن تأولت واحدة هدر ما قتل من الباغية قاله ابن القاسم، ووجود القتيل بقرية قوم أو جدارهم ليست بلوث، وعلله مالك فى المجموعة بأنه لو أخذ بذلك لم يشأ رجل أن يلطخ قوماً بذلك إلا فعل، لأن الغالب أن من قتله لا يترك بموضع يتهم به. انتهى كلام المالكية.
ومن قرأ قوله تعالى: { فقلنا اضربوه ببعضها } على قضيب برقوق يوم الجمعة عند طلوع الشمس أربعين مرة، ثم ضرب به وجع كان من سائر الحيوان أو ورم سبع مرات، ويتفل على موضع الوجع أو الورم فى كل مرة، فإنه يبرأ بإذن الله تعالى.
{ كَذَلِكَ يُحْيِى اللهُ الْمَوْتَى }: أى يحيى الله الموتى يوم القيامة كما أحيا هذا القتيل، فهذا دليل على أنهم لما ضربوه حيى بإذن الله تعالى، فدل على اعذوف أى فقلنا اضربوه ببعضها فضربوه، فحيى بإذن الله أو فقام حيا كما مر، وهذا الخطاب لمن أنكر البعث فى زمان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، من العرب وغيرهم، ويجوز أن يكون خطاباً للذين حضروا حياة القتيل، على تقدير: وقلنا لهم كذلك يحيى الله الموتى. واقتصر الطبرى على الوجه الأول.
{ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ }: دلائله على كمال قدرته كما قال:
{ وهو على كل شئ قدير } }. والجملة مستأنفة أو معطوفة على { يحيى الله الموتى }.
{ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }: تتفكرون فتعلمون أن القادر على إحياء نفس قادر على أحياء النفوس كلها، أو لعلكم تدركون بعقولكم تلك، أو تعلمون على مقتضى العقل، أو تكمل عقولكم ولعل كما مر للتعليل أو للترجى فى جانب المخلوق، فإن قلت لو أمرهم الله بذبح البقرة، ولم يأمرهم بقتلها مطلقاً أو بالقطع منها، قلت: لأن ضرب القتيل ببعضها انتفاع به، والانتفاع بالميتة لا يجوز لما روى عنه صلى الله عليه وسلم:
"لا تستنفعوا من الميتة بشئ إلا بإهابها بعد الدبغ" . وفيه روايات مختلفة بعضها عن الربيع بن حبيب، والمعنى واحد ولتؤكل بعد الذبح، ولو قتلت لحرمت، ولأن فى القطع منها حية تعذيباً لها وتحريماً للمقطوع وتصييراً له ميتة، لأن ما قطع من حى وهو حى فهو ميتة. وإن قلت: فهلا أحياه الله بلا ضرب ببعض البقرة؟ قلت: قضى إحياءه بضربه بها لئلا يتوهم أحد أن موسى أحياه بضرب من السحر أو الحيلة فتقوى الحجة، ويعلموا أن ذلك من الله، وخص ذلك بالبقرة الموصوفة لتوجد عند اليتيم المذكور وحده فيربح فيها ذلك الربح العظيم، فلذلك لم يكن ببقرة مطلقاً ولا بجمل ونحوه من الحيوان، والتنبيه على بركة التوكل فإن أبا ذلك اليتيم استودع تلك البقرة فى الصحراء، وقال استودعتكها الله، وللتنبيه على الشفقة على الأولاد، والتنبيه على ما يحصل من الخير لمن بر أبويه، فإنها ليتيم بر أمه كما علمت، ولم يعقّ أباه، أو لرجل بر اباه وأمه كما علمت، ولتحمل المشقة فى تحصيل البقرة بصفاتها، ولتقرب بقربان من أعظم القرابين، وليتقربوا بقربان كما جرت العادة عندهم، وليكونوا قد أدوا واجباً عظيما، وللتنبيه على أن من حق الطالب أن يقدم قربة، وأن من حق المتقرب أن يتحرى الأحسن، ويغالى بثمنه كما روى أبو داود وغيره أن عمر رضى الله عنه ضحى بنجيبة اشتراها بثلاثمائة دينار، وهى الناقة الكريمة العظيمة، وللتنبيه على أن المؤثر فى الحقيقة هو الله تعالى، إذ لا تتصور حياة بين ميتين من غيره، قاله القاضى وزكريا. وأنا أنزه فصاحة القرآن وبلاغته وجرياته على أسلوب كلام العرب على كلام صوفى أثبته القاضى هنا، وهو أن فى ذلك تنبيهاً، على أن من أراد أن يعرف أعدا عدوه الساعى فى إماتته الموتى الحقيقى، فطريقه أن يذبح بقرة نفسه التى هى القوة الشهوية حين زال عنها شره الصبى، ولم يلحقها ضعف الكبر، وكانت معجبة رائقة المنظر غير مذللة فى طلب الدنيا، مسلمة عن دنسها لا سمة بها من مقابحها، بحيث يصل أثره أى أثر الذبح إلى نفسه فيحيا بها حياة طيبة، ويعرب عما به ينكشف الحال ويرتفع ما بين العقل والوهم من التدارى والنزاع، فإن هذا كله حق لكن لا تعرفه العرب من الكلام، فإن كلامهم لا يفيده فلم يرد القاضى أن العبارة تفيد ذلك، بل أشار إلى أن ذلك تلويح من الله تعالى إلى بنى إسرائيل فى زمان ذلك القتيل وينتبه له كل من أراد الله، وليس ذلك فى شئ من معانى الكلام.