التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ
٨٧
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَلَقدْ آتَيْنَا مُوسى الْكِتابَ }: التوراة نزلت عليه بمرة، واللام فى قوله (لقد) لام ابتداء عند بعض، ولام جواب قسم محذوف عند بعض، ورجحه كثير ومعناه التوكيد على القولين، قال السهولى: موسى مفعول ثانى والكتاب مفعول أول، ووجهه عندى أن همزة آتينا للتعدية، صيرت الفاعل مفعولا وهى مزيدة على أتى الثلاثى للتعدية والمفعول الذى أصله فاعل هو الذى يسمى مفعولا أولا، والمعنى ولقد جعلنا الكتاب آتياً موسى بالغاً إليه، وقال غيره: موسى مفعول أول والكتاب مفعول ثان، ووجهه عندى أنه ضمن آتينا معنى أعطينا، فكان موسى آخذاً فهو الفاعل فى المعنى فهو المفعول الأول.
{ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ }: تشديد قفينا للتأكيد والياء للتعدية قائمة مقام الهمزة التى للتعدية، ويجوز كون التشديد للتعدية لا للتأكيد، والرسل مفعول به والياء زائدة فيه، والمعنى اتبعنا الرسل بعضها بعضاً أى صيرنا بعضها يتبع بعضاً. قفى زيد عمراً أى جعله قافياً إياه، أى تابعاً له وذلك من القفا ويقال أيضاً: قفيت فلاناً فلاناً إذا جئت به من جهة قفاه، وقفوته بالتخفيف تبعته، وقفوته ببكر أى تبعته به، ويقال ذنبته بالتشديد أى صيرته ذنباً، والمعنى اتبعنا الرسل الكثيرة بعد موسى بعضاً خلف بعض، وهم: يوشع وإسمؤيل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم، كما ذكره الزمخشرى، وكلهم يحكمون بالتوراة حتى بعث الله عيسى بن مريم وأنزل عليه الإنجيل وخالف بعض الإنجيل بعض التوراة، فقال بعضهم: الإنجيل هو المراد بالآيات البينات فى قوله عز وجل:
{ وآتَيْنَا عيسَى بنَ مَرْيَم الْبَيِّنَاتِ }: أى الآيات الواضحات الدالة على الأحكام الشرعية، وهى الآيات التى تتلى فى الإنجيل، وقال الكلبى: البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، والإخبار بالغيب بإذن الله، وقيل: الحجج التى يحتج بها فى كلامه، ويجوز أن يراد ذلك كله، وعيسى بالسريانية وهى العبرية يشوع بالشين المعجمة، ويقال أيضاً بالمهملة ومريم علم لأمه رضى الله عنها، وأصل هذا اللفظ بالعبرية صفة بمعنى الخادم، سميت به وتلقيت عليه الاسمية، وقيل المريم فى لسان العرب موجود بمعنى المرأة التى تحدث الرجال وتميل إليهم، كالزئر بكسر الزاء بعده همزة وهو الرجل الذى يحب محادثة النساء ومجالستهن، قال رؤبة يمدح السفاح أو المنصور:

قلت لزير لم تصله مريم قليل أهوى الصبى تندسى

وهذه فى لغة العرب، وليست هذه الصفة فى مريم إلا أن أحبت محادثة الأنبياء والعلماء، ووزن مريم بالمعنى العربى، مفعل فميم زائدة والياء أصل من رامه يرميه إذا فارقه أو لازمه يستعمل بالمعنيين، وليس وزنه فعيل بأصالة الميم وزيادة الياءَ لأن هذا غير موجود فى الأبنية، بل الموجودة فعيل بضم الفاءِ كعليب وفعيل بكسرها كعثير.
{ وَأَيَّدْنَاهُ }: قويناه والأيد القوة، وقرئ: أيدناه بهمزة فألف وفتح الياء خفيفة، والمعنى واحد كما قال أجده بتشديد الجيم بمعنى قواه واجد بتخفيفها بعد ألف وهمزة، والمعنى واحد، ويقال الحمد لله الذى أجدنى بعد ضعف، أى قوانى وأوجدنى بعد فقر، أى أغنانى.
{ بِرُوحِ القُدُس }: أى بجبريل الطهارة، فروح بمعنى جبريل علم عليه، فيكون من إضافة العلم لعلة المدح كما أضيف للبيان فى قوله:

على زيدنا يوم الوغى رأس زيدكم

ونقول فى المدح زيد العلم وزيد العقل وزيد الفوز، والقدس الطهارة من الذنوب، وجبريل طاهر منها، فأضيف للقدس لأجل ذلك أو لكرامته على الله سبحانه، وسمى روحاً للطافته كروح الحيوان، لأنه روحانى خلق من النور، وقيل سمى روحاً لمكانه من الوحى الذى هو للقلب كالروح للجسد، ويحتمل أن يكون روح هو جبريل والقدس من الطهارة كذلك، لكن بمعنى القدس من إضافة الموصوف للصفة، وفيه تكلف ويحتمل أن يكون الروح جبريل، والقدس الله، كما يقال عبدالله، وما ذكرته من كون روح هو جبريل هو قول السدى والضحاك والربيع وقتادة وهو الأصح لتعاقب روح القدس، وجبريل فى قوله، صلى الله عليه وسلم: "اهج قريشاً وروح القدس معك" مع قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرة أخرى: "اهج قريشاً وجبريل معك" فإن المتبادر أنهما فى الحديثين واحد، وإن قلت: كيف قلت روح علم جبريل وقد قرن بأل فى قوله تعالى: { { تنزل الملائكة والروح } ؟ قلت: أل فيه للمنح، وقيل الروح عيسى عليه السلام أضيف للقدس، والقدس بمعنى الطهارة مجرد إضافة المدح بالمعنى المصدرى، أو إضافة موصوف لصفته، بمعنى القدس أى المطهر، ووجه نسبته للطهر أنه سالم من مس الشيطان حين ولد، أو أنه كريم على الله تعالى، ولذلك أضاف الروح إلى نفسه فى قوله: وروح الله كلمته، أو أنه لم يكن فى صلب الرجال ولا أرحام الحوائض، كذا قيل، ويبحث فيه بأنه قد ضمه ظهر آدم، وقد ذكر الواحدى وغيره أن الله سبحانه وتعالى أخرج الناس من ظهر آدم، وأخذ عليهم الميثاق { { أَلسْتُ بربِّكم قالوا بلى } ثم ردهم إلا روح عيسى لم يردها بل حفظها، إلى أن قدر أن تحمل مريم، فأرسل جبريل بروح عيسى فنفخ فحملت.
وقد يجاب بأن المراد لم يكن فى أصلاب جماعة الرجال العامة، أما رجل واحد نبى أو رسول فلا ضير به، ولو تصور تضمن أنبياء كثيرة له لم يضر ذلك. ويبحث أيضاً بأن مريم لما رأت جبريل بصورة شاب يتبادر أنه نزل منه الماء إلى رحمها وهى قد كانت فى أصلاب الرجال، فقد كان فيها بكون أمه فيها إلا أن يجاب بأنه لم ينزل لها ماء، ويبحث أيضاً بأن المشهور أنها تحيض، ويجاب بأنه قول، وعدم حيضها قول، فلا يرد قول بمجرد قول. ويبحث أيضاً بأنه كان فى أرحام الحوائض بكون أمه فى أرحام الحوائض، إلا أن يقال بأنه لم ينزل لها ماء كما مر، وبيان تأييد الله جل وعلا، عيسى عليه السلام بجبريل، أن جبريل أمره الله ألا يفارقه وأن يسدده، فكان كذلك فلم يفارقه حتى صعد هو به إلى السماء. وقال ابن زيد: روح القدس هو الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحاً، وقال ابن عباس: هو اسم الله الأعظم الذى كان يحيى به الموتى بإذن الله عز وجل، وإضافة الإنجيل أو الاسم الأعظم للقدس تشريف، والقدس الطهارة من النقائص أو اسم الله أو الإضافة من إضافة الموصوف للصفة، كما مر من القولين الأخيرين أيضاً. قال أبو عمرو الدانى: قرأ ابن كثير القدس مخففاً حيث وقع، يعنى مسكن الدال والباقون مثقلا يعنى مشدد الدال. قال الكلبى: ولما سمعت اليهود بذكر عيسى وبيانه فى هذه الآية قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا مثل ما جاء به موسى جئنا به، ولا مثل ما عمل عيسى كما تزعم عملت، ولا كما نقص علينا من أخبار الأنبياء فعلت فائتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقاً، وفى رواية إسقاط ذكر موسى، فنزل قوله تعالى:
{ أَفَكُلَّمَا جاءَكُم رسولٌ بما لا تَهْوَى أنفُسُكُم اسْتَكْبرتُم ففريقاً كذّبْتُم وفريقاً تَقْتُلُونَ }: ولما تلا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك سكتوا وعرفوا أنه الوحى من الله عز وجل، عيرهم بما فعلوا. والهمزة للاستفهام التوبيخى وفيها تعجب من شأنهم، وهى فى المعنى داخلة على قوله استكبرتم، فهو محط الاستفهام، لكن فصل بينهما بقوله: { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم } والفاء للاستئناف مقدمة على الهمزة فى الأصل، ولكن أخرت لتمام صدارة الهمزة، وكذا تقول: إن جعلت الفاء عاطفة على محذوف معطوف على محذوف، أى ولقد آتينا أنبياءكم ما آتيناهم ففعلتم ما فعلتم، أفكلما.. إلخ بعطف الاستفهام على الأخبار، وكذا يجوز العطف على ولقد آتينا موسى الكتاب، وليس كما قيل إن الهمزة فى مكانها إذا جعلت الفاء للاستئناف، فإن حكم فاء الاستئناف فى ذلك حكم فاء العطف، ولو لم يذكروه، بل أصل فاء الاستئناف العطف وكذا واو الاستئناف، ولذا لا يؤتى بهما للاستئناف فى أول كلام لم يسبقه شئ مذكور ولا مقدر، وكل ظرف زمان متعلق باستكبرتم، وذلك أنه أضيف للمصدر النائب عن اسم الزمان وهو المجئ، فإن ما مصدرية، وجاء فى تأويل مصدر مضاف إليه، وتهوى بفتح الواو بمعنى تحب وماضيه هوى بكسرها وأكثر ما يستعمل شرعاً فيما ليس بحق وأما لغة فيستعمل فى الحق والباطل والمباح وهو حق، وفى كل شئ، وأما السقوط فيقول فيه هوى بفتحها يهوى بكسرها، أى بما لا تحبه أنفسكم من الحق ومعنى استكبرتم تعظمتم وترفعتم عن الإيمان بالحق، واتباع الرسول الذى جاءكم فى أى حين جاءكم، والفريق الذين كذبوا كموسى وعيسى ومحمد وغيرهم، وما جاء رسول إلا كذبوا به كما هو نص الآية، والفاء فى قوله: (ففريقاً) للاستئناف استؤنف بها كذبتم، وتقتلون، وفيما بعدها من الجملتين تفصيل لما تضمنه الاستكبار، وعاطفة على استكبرتم وهى للتفصيل أيضاً أو عاطفة سببية، بمعنى أن ما بعدها من التكذيب والقتل مسبب عن الاستكبار المذكور قبلها، والمعطوف هو جملة كذبتم وتقتلون، والفريق الذى يقتلون كزكريا ويحيى وعدد كثير، روى أنهم قتلوا ثلثمائة نبى فى يوم واحد، ثم قامت سوق بقلهم آخر النهار، وفى رواية يقتلون ثلثمائة نبى فى اليوم الواحد، ثم تقول سوق البقل آخره، وهذه الرواية تدل على تعدد قتل هذا العدد فى أيام. وروى أنهم قتلوا فى يوم واحد سبعين نبيا، وقامت سوق بقلهم آخر النهار، ويمكن الجمع عندى بأن السبعين أنبياء رسل وثلثمائة أنبياء غير رسل أو أنبياء فيهم رسل، وتقتلون مضارع بمعنى الماضى، أو شبه القتل الماضى المنقطع الذى لا يرى بالقتل الحاضر المشاهد لتحقق وقوعه كتحقق المشاهد، فعبر عنه بالمضارع الدال على الحال، أو شبه هذا الزمان الذى نزلت فيه الآية بذلك الزمان الذى وقع فيه القتل، كأنه زمان حاضر يشاهد ما وقع فيه من القتل، فإن الحاضر أوقع فى النفس، فمعاينة القتل أشد على النفس وهو فى نفسه أفظع، وأما حكايته فدون ذلك ولو اطمأن القلب، وفى ذلك مراعاة الفواصل، فإنها النون آخرها قبله واو أو ياء، ولو قال قلتم لم يكن ذلك، ويجوز كونه للحال الحاضرة باعتبار أنهم إلى زمان النزول على ذلك الطغيان، فكم تشاوروا فى قتل محمد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكم عدد تصدى لقتله، وقد سحروه، حتى نزلت المعوذتان عصمة له، حتى سمته يهودية فى ذراع شاة حين فتح خيبر، فمات رجل أجل منها، وكانت سبب موت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مكثت فيه مضرة أكله منها سنين، يتوجع بها تارة وتسكن أخرى حتى مات بها، فجمع الله تعالى له النبوة والشهادة، قال صلى الله عليه وسلم:
"ما زالت أكلة خيبر تعاودنى فهذا أوان قطعت أبهرى"

ثم سمّت له اليهودية الشا ة وكم سام الشقوة الأشقياء

وذلك كله لحبّهم الدنيا، فلا ترى أحب للدنيا من اليهود فيما يظهر لى مالها وجاهها، كانوا كلما جاءهم رسول بما لا يحبون مما خالف شهواتهم كذبوه وقتلوه إن تهيأ لهم قتله، وإلا كذبوه، وقد قصدوا عيسى بالقتل فنجاه الله إليه بعد ما عملوا فى قتله، وعالجوا حتى قتلوا أخاهم ـ قبحهم الله ـ وقيل قتلوا مؤمناً ألقى عليه الشبه إكراماً له.