التفاسير

< >
عرض

يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
٩
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا }: الخدع بإسكان الدال مع كسر الخاء قبلها أو فتح الخاء أن توهم غيرك خلاف ما نخفيه من المكروه الذى تريد إيقاعه فيه إخفاء تنزله به عما هو بصدده من الاستعداد والمدافعة لو علم، وقد يطلق على فعل المكروه من حيث لا يشعر المفعول فيه ولو بلا إيهام، لأن أصله الإخفاء، ومن المخدع للخزانة بضم الميم وكسرها، وهو بيت فى بيت، ويحتمل أن يكون سمى بذلك باعتبار أن بانيه كأنه جعله خادعاً لمن رام تناول ما فيه، وقد بينته فى كتاب الصلاة فى شرح النيل، ومنه الأخدعان لعرقين خفيفين فى العنق، فاستعمل المخدع والأخدع فى مطلق الإخفاء، ومن استعماله بمعنى إيهام خلاف ما يخفى من المكروه للتنزيل على الاستعداد قوله: خدع الضب، وخدع كفرح، ويقال أيضاً: خدع الضب إذا استتر فى بيته، ثم أوهم السائل إقباله إلى الباب الذى رصده فيه، ثم خرج من باب آخر، والوصف خادع كضارب، وخدع كفرح، ويقال أيضاً بمعنى مطلق الاستتار، وأما المخادعة والخداع اللذان اشتق من أحدهما يخادع الذى فى الآية، فبمعنى أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه من المكروه على الحد السابق، ويوهمك غيرك خلاف ما يخفيه من المكروه كذلك، لأن المفاعلة والفعال بين متعدد، وذلك لا يجوز فى حق الله تعالى لا يخفى عليه شئ فلا يصح لهؤلاء أن يدعو إخفاء شئ عليه، ولأنهم لم يقصدوا إضراره خفية ولا جهراً إذ لا يلحقه ضر ولا نفع، وهو الغنى على الإطلاق، ولأنه تعالى لا يوهم غيره تنزيلا له، لأنه إنما يفعل لذلك من عجز عن المقابلة بما يكره، فتحمل الآية على أنه لعلهم اعتقدوا تجويز أن يكون الله مخدوعاً مصاباً بمكروه من وجه خفى عنه، وأن يدلس عباده ويخدعهم، لأن إيمانهم به تعالى نفاق، فليسوا عارفين بصفاته، ولا بأنه لا يخفى عنه شئ، ولا بأنه غنى عن فعل القبيح.
وإما على الاستعارة التمثيلية التبعية إذ شبه متعدداً بمتعدد لجامع منتزع من متعدد شبه إظهارهم الإيمان، وإخفاء الكفر وإجراء الله عز وجل حكم المؤمنين عليهم عالماً بكفرهم، مستدرجاً لهم، وامتثاله مع المؤمنين صلى الله عليه وسلم. أمر الله سبحانه وتعالى فى إخفاء حالهم، وإجراء حكم الإسلام. عليهم جزاء على صنعهم بالمخادعة التى تقع بين اثنين من كل واحد للآخر، فسمى ذلك باسم المخادعة والخداع، فاشتق منه يخادع، ووجه الشبه الجامع وجود أمور مخفاة وأمور مظهرة تخالفهما، كذا ظهر لى، وإما على تقدير مضاف أى يخادعون رسول الله والذين آمنوا، فعلى الوجهين الأولين يكون رسول الله داخلا فى لفظ المؤمنين على هذا الوجه الثالث لا يدخل فيه لأنه مقدر كما ترى، وإما على أن معاملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم، معاملة الله سبحانه وتعالى، لأنه خليفة الله سبحانه وتعالى، والمجازى فى الهيئة التركيبية، وهو مجاز بالحذف، وكان بعد الحذف فى النسبة الإيقاعية إيقاع نسبة المخادعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما حذف المضاف كان ظاهر الكلام إيقاعها عليه تعالى عن ذلك وعن كل نقص، وهذا الوجه قول الحسن بن أبى الحسن، يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأضاف الأمر إلى الله تجوزا لتعلق رسوله به، ويدل لهذا الوجه قوله جل وعلا:
{ من يطع الرسول فقد أطاع الله } وقوله تبارك وتعالى: { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } كما قال: قاتل بنو فلان السلطان، والمراد أنهم قاتلوا من قام مقامه فى حضور القتال وتدبيره وجنوده، وإما على أن ذكر الله لقوة الاختصاص والمكانة، وللتمهيد به لذكر ما يختص به، وهم المؤمنون.
كما يقال أعجبنى زيد وعلمه، فالأصل أعجبنى علم زيد، ويخادعون المؤمنين، ولما كان للمؤمنين عند الله منزلة عظيمة ذكر الله قبل ذكرهم، ومن ذلك النوع المفعول الأول من باب علم، والمفعول الثانى من باب اعلم، فان المقصود بالذات فى قولك علمت زيداً فاضلا أنما هو معرفتك بفضل زيد لا معرفة زيد فى ذاته، والمقصود بالذات فى قولك أعلمت عمراً زيداً فاضلا إطلاعك عمراً على فضل زيد لا على ذاته، وإن قلت: فهل يجوز أن يراد بلفظ الجلالة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. مجازاً؟.. قلت: لا يجوز للإجماع على أن قولك الله لا يطيلق على غيره سبحانه وتعالى حقيقة ولا مجازاً، وإما على أن المفاعلة ليست على بابها، بل لموافقة المجرد، وكأنه قيل: يخدعون الله والذين آمنوا، بإسكان الخاء، وفتح الياء قبله، لكن هذا الوجه إنما يكفى فى دفع أنه سبحانه وتعالى يعجز عن الإضرار جهراً - تعالى عن ذلك - فيبقى البحث كيف يخدعونه، وإنما يخدعون من تخفى عليه الأشياء. فيجاب بأحد الأوجه السابقة عن هذا البحث، ويدل على أن المفاعلة ليست على بابها قراءة أبى حيوة: يخدعون، بفتح الياء وإسكان الخاء، ويدعل أيضاً على أنها ليست على بابها أن قوله عز وجل: { يخادعون } بيان لقوله:
{ يقول آمنا بالله } أو استئناف بذكر ما هو الغرض فى الخدع، وإيضاح الدلالة أنهم إنما يقولون: { آمنا بالله وباليوم الآخر } للمؤمنين، كأنه قيل: { ومن الناس من يقول } للمؤمنين لا لله، وهذا لا يناسبه أن قال يخادعون الله على حقيقة المفاعلة، اللهم إلا بأحد الاحتمالات السابقة، والمراد بالدلالة المذكورة المناسبة، ووجه الاستئناف أن ذلك بمنزلة أن يقال: ما العلة فى ادعائهم الإيمان كاذبين؟ فيجاب بأن العلة فى ذلك إرادتهم الخدع، وإن قلت إذا كان المراد غير المفاعلة فلم جاء اللفظ بصيغتها؟.. قلت: للتأكيد، لأن صيغة المفاعلة وصفة الاجتهاد كل من المتقابلين أن يغلب الآخر ويقوى فعله على فعل الآخر، وحينئذ يقوى داعى الاجتهاد ليكون غالباً، والفعل الذى هو بهذه المنزلة يكون أبلغ وأحكم من الفعل الذى يفعله الفاعل وحده بلا مبالغة لغيره، فاستعملت صيغته فى التأكيد والقوة، ولو خرجت عن حقيقة المفاعلة وعرضهم فى الخدع أن ينجو مما يلحق الكفار من قتل، وسبى وغنم واستعباد وجزية وذل، وأن يكرمهم المؤمنون بما يكرم به بعض المؤمنين بعضاً، ويحسن إليهم ويعطونهم من المغانم، وأن يطلعوا على أسرار المؤمنين بمخالطتهم، وينقلونها إلى أحبائهم الكفرة الذين بينهم وبينهم مواصلة بما أحب كل من الآخر، ولم يميزهم الله والنبى للمؤمنين لمصلحة كسر شوكتهم، وإقامة الفتنة، ودفع أن يقول قائل: إن محمداً وأصحابه يجفون من ألفى إليهم السلم وغير ذلك، كذا ظهر لى وإبليس أشد فساداً وقد أبقاه الله جل وعلا للملائكة.
{ وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ }: المراد بأنفسهم ذواتهم لا النفس الأمارة بالسوء، كأنه قيل وما يخادعون إلا إياهم، فالمفاعلة ليست على بابها، بل هى بمعنى الفعل كأنه قيل: وما يخدعون إلا أنفسهم، بفتح الياء وإسكان الخاء، كما قال الكسائى وحمزة وابن عامر وعاصم، ولكن أتى بصفة المفاعلة فى القراءة الأولى، وهى قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو لتأكيد المعنى، وأن دائرة ذلك الخداع العظيم راجعة إليهم وضررها محيط بهم، بأن يفضحهم الله سبحانه لنبيه، ويعاقبهم فى الدنيا والآخرة، ولا يصل الله سبحانه ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا المؤمنين، ويدل على التأكيد قراءة يخدعون، بضم الياء وفتح الخاء وكسر الدال مشددة، وإسقاط الألف بينهما، فإن التشديد فيها للمبالغة، ولا مفاعلة فيها، ويدل عليه أيضاً قراءتهم يخدعون، بفتح الياء والخاء وكسر الدال مشددة، وإسقاط الألف، بوزن يفتعلون، ومن معانى الافتعال التأكيد، وأصلها يختدعون، بإسكان الخاء، ونقلت إليها حركة التاء، وأبدلت التاء دالا وأدغمت الدال فى الدال، وإن قلت كيف يخدع الإنسان نفسه والخدع إنما يتصور فى من لم يعلم؟ وهم يعلمون فى زعمهم أن ما يفعلونه لا يضرهم؟ قلت: شبه فعلهم الشىء الموقع لهم فى المهالك، وهم لا يعلمون أنه يوقعهم فيها بفعل الإنسان شيئاً يضر الآخر، بحيث لا يعلم به الآخر، ويدل أيضاً على عدم حقيقة المفاعلة قراءة: وما يخدعون، بالبناء للمفعول، وإسكان الخاء، وأما قراءة: يخادعون بالبناء للمفعول، وإثبات الألف، فتأول على غير المفاعلة كما أولت قراءة نافع ومن معه، ووجه نصب { أَنْفُسَهُمْ } على القراءتين الأخيرتين ذواتى البناء للمفعول، أنه على تقدير فى، أو عن، أى: إلا عن أنفسهم، أو لا فى أنفسهم، ويجوز على القراءة كلها أن يراد بالأنفس: آراؤهم أو قلوبهم أو أرواحهم، فإن النفس يطلق على ذات الشىء كما مر، وعلى القلب لأنه محمل الرافع أو متعلقها، ولأن الذات إنما تعتبر به، وهو ملكها، تصلح به وتفسد به كما فى الحديث، وتعتبر به وباللسان فى عرف، كما قيل فى أن المرء بأصغريه، وطلق على الروح أيضاً، لأن الذات تنمو وينتفع بها إذا كانت الروح فيها، إذ لا نفع بميتة وعلو الدم، لأن قوام الذات بالدم، ألا ترى إذا نزف دمه من جرح مثلا مات، وعلى الماء شدة الحاجة إليه، قال الله سبحانه وتعالى:
{ وجعلنا من الماء كل شىء حى } وعلى الرأى لأنه ينبعث من الذات، يقال فلان يؤامر نفسه بالتثنية إذا تردد بين رأيين، سموهما نفسين لصدورهما عن النفس، أو لشبههما بذاتين مشيرتين عليه فى أمر، ويقال أيضاً يؤامر نفسه بالإفراد، أى رأيه سموه نفساً للعلتين، وإطلاق النفس على الرأى للشبه المذكور وهو العلة الثانية استعارة تحقيقية، وللصدور المذكور وهو العلة الأولى تسمية للمسبب باسم السبب، والنفس حقيقة فى الذات مجاز فيما عداها، لأن الذات تكون بالروح وبالقلب وبالدم وبالماء، ويجوز إبقاء المفاعلة فى الآية على بابها مجازاً، ويكون النفس على هذا الوجه، هى الأمارة بالسوء، وذلك أن يشبههم فى مطاوعتهم إياها بمن يقر إنساناً، ولو كانوا لا يعلمون أن ذلك وبال عليهم، وتشبه هى فى تحديثهم بالأمانى الفارغة، ومخالفة من لا تخفى عليه خافية، بمن يقر إنساناً كذلك.
{ وَمَا يَشْعُرُونَ }: أن مضرة الخداع راجعة إليهم لتمادى غفلتهم والشعور الإحساس، ونفيه أبلغ من نفى العلم، ولذلك قال: { وَمَا يَشْعُرُونَ }، ولم يقل: وما يعلمون، فإنه يلوح بالمضرة اللاحقة لهم بالخداع، كالشىء الذى يحس، وأنهم كمن جعل الله فى حواسه آفة، فلم يظهر له الشىء الذى يحسه، ومشاعر الإنسان حواسه، وأصل ذلك كله الشعر، بكسر الشين وفتحها وإسكان العين، وهو الفهم، ومنه الشعار للعلامة يعرف بها الإنسان فى الحرب أو فى غيرها، وقالت طائفة: المعنى: وما يشعرون أن الله يكشف لك سرهم ومخادعتهم فى قولهم آمنا.