التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٩٣
-البقرة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَإِذ أخَذْنا ميثاقَكُم }.. إلخ: إنما ذكر مع أنه قد تقدم من مثله إذاً عليهم، أى واذكروا إذ أخذنا ميثاقكم على العمل بالتوراة، ورفعنا عليكم الطور فعصيتم فعصيناكم، ومخالفتكم للتوراة كفر بها فلم يصح إيمانكم، فإنما كرر ذكر أخذ الميثاق ورفع الطور ليرد عليهم بالنقض على ادعائهم الإيمان بالتوراة لا للتأكيد، نعم يصح أن يقال كرر ذلك الرد وللتأكيد معاً. وليزيد عليه، قالوا سمعنا وعصينا وفى قوله: { ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم } إلى قوله: { وعصينا } إشارة إلى أن حالهم مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كحالهم مع موسى ـ عليه السلام ـ وهى المخالفة.
{ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ }: الجبل تخويفاً لكم حين أبيتم من قبولها، الواو عاطفاً لاحقاً على سابق، إذا قلنا أخذ الميثاق إنزال التوراة وخطابهم بما فيها، أو قلنا إنه قبولهم لها، وقولهم ائتنا بالكتاب الذى وعدتنا نعمل به، وسابقاً على لاحق إذا قلنا أخذ الميثاق هو إذعانهم إليها بعد رفع الطور، أو الواو للحال المحكية إذا قلنا هذا، أو للحال المقدرة إذا قلنا أخذ الميثاق هو ما تقدم قبل هذا، وكذا الكلام فيما سبق، وإذا قلنا بالحالية فقيل تقدر قد وقيل لا. قال ابن هشام: زعم البصريون أن الفعل الماضى الواقع حالا لابد معه من قد ظاهره نحو:
{ وما لكم ألا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم } ، أو مضمرة نحو: { { أنؤمن لك واتبعك الأرذلون } ، أو { جاءوكم حصرت صدورهم } وخالفهم الكوفيون واشترطوا ذلك فى الماضى الواقع خبراً لكان كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لبعض أصحابه: "أليس قد صليت معنا" وقول الشاعر:

كنا حسبنا كل بيضاء شحمة

وخالفهم البصريون، وأجاز بعضهم أن زيداً لقام على إضمار قد.. انتهى.
{ خُذُوا }: أى قائلين حذف، أو فقلنا خذوا كما مر، وقدر بعضهم وقلنا بالواو والوجه الأول أولى، ويليه تقدير قلنا بلا واو ولا فاء على الاستئناف النحوى والبيانى، كأنه قيل مما إذا كان بعد رفع الطور، فقال قلنا: خذوا.
{ مَا آتَيْنَاكُم }: من التوراة أو الشرع أو ما أمرناكم به.
{ بقوَّة }: بعزم وجد ونشاط.
{ وَاسْمَعُوا }: أى اسمعوه سماع طاعة، وقبول بحيث تعملون به، ولكون السماع الذى أمروا به سماع طاعة وقبول طابق قوله جوابهم المذكور فى قوله عز وعلا:
{ قَالُوا سَمِعْنا }: أى سمعناه أو سمعنا قولك يا ربنا أو يا موسى، فإن ذلك على يده بآذاننا فقط لا سماع طاعة وقبول.
{ وَعصَيْنا }: أمرك فلا نعمل بما أمرتنا به، وذلك صريح بألسنتهم، وقيل لم يقولوه بألسنتهم، ولكن بلسان حالهم فإنهم لما سمعوه بآذانهم ولم يعملوا به صاروا كأنهم نطقوا بذلك.
{ وَأُشْرِبُوا }: أى أشربهم الله بمعنى الخذلان لا الخير أو الشيطان بمعنى الوسوسة والإغراء أى صيرهم شاربين.
{ فى قُلُوبِهِمُ العِجْلَ }: أى حب العجل حتى عبدوه، فحذف المضاف. أو حب عبادة العجل فحذف مضافان، والعجل مفعول ثان لأشربوا، والأول الواو لأنه نائب الفاعل تعدى لاثنين بالهمزة، وحب العجل ليس مشروباً ولكن شبه دخوله قلوبهم ورسوخه بدخول الصبغ الثوب، ودخول الشراب داخل البدن وامتزاجه به، وبين ذلك بقوله: { فى قلوبهم } فإن محل المحبة القلب، فهو بيان لمحل الإشراب، كما أن قوله { فى بطونهم } بيان لمحل آكل النار فى قوله:
{ { يأكلون فى بطونهم ناراً } ، وقيل المعنى أشربوا فى قلوبهم ماء العجل، لأن موسى أمر أن يبرد العجل بالمبرد ويذر فى النار، وأمرهم أن يشربوا منه فمن بقى فى قلبه شئ من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه، أو نبت الذهب فى شاربه، قال الحسن: ليس كلهم تاب
{ بِكُفْرِهِم }: بسبب كفرهم أو مع كفرهم، وكفرهم هو ما سبق من شرك أو كبيرة على اتخاذ العجل، جر إليهم اتخاذه فإن المعصية تجر الأخرى، ومن أصر عوقب بوقوعه فى ذنب آخر كما مر، ويجوز أن يكون كفرهم هو اعتقادهم أن الذى يكون إلهاً جسم، وأنه يحل فى الأماكن ولم يروا جسما حل فى موضع أعجب منهُ فاتخذوه إلهاً.
{ قُلْ }: يا محمد لهم.
{ بِئسَما يَأمُرُكُم بِهِ إِيمانُكُمْ }: بالتوراة.
{ إِنْ كُنتُمْ مُؤمِنِينَ }: بها كما زعمتم، أى إن لم يكن إيمانكم بها الذى تزعمون إلا هذا الذى يأمركم بعبادة العجل، فليس إيماناً هو، لأن الإيمان والتوراة لا يأمران بعبادته، ولو كان إيمان فى القلب لحجر بهم عن عبادة العجل والقبائح، وذلك فى أسلافهم، أى وكذلك أنتم لم تؤمنوا بالتوراة، لأنكم كذبتم بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والإيمان بها لا يأمر بتكذيبه، وذلك أيضاً رد عليهم فى قولهم:
{ نؤمن بما أنزل علينا } فإن المؤمن الحق لا يقترف إلا ما يقتضيه إيمانه. وقوله: { إن كنتم مؤمنين } تشكيك فى إيمانهم وقدح فى ادعائهم إياه، ولما كان الإيمان بشئ سبب اقتراف ما يناسب ذلك الشئ وملزوماً له، أسند الأمر فى قوله: { يأمركم } إلى: { إيمانهم } من الإسناد إلى السبب والملزوم، وفى هذا الإسناد تهكم، لأن الإيمان بالتوراة مثلا لو صح، إنما يأمر ويدعو إلى عبادة ما هو غاية فى العلم والحكمة، وهو الله مولانا جل وعلا وتبارك وتعالى، فالإخبار بأن لهم إيماناً، أى أمرا بعبادة العجل الذى هو غاية فى الجهل وعدم الفطنة، ويضرب به المثل فى ذلك غاية التهكم والاستهزاء، وتقدم أن الإسناد فى ذلك إلى السبب الملزوم، ويحتمل أن يشبه الإيمان المنسوب إليهم بإنسان، تشبيهاً غير صريح رمزاً إليه بلازم الإنسان وهو الأمر، وفى تشبيه الإيمان إليهم تهكم أيضاً، دلالة على أن مثل اعتقادهم ونطقهم لا يليق أن يسمى إيماناً إلا بالإضافة إليهم، فإضافته إليهم مثل إضافة الرسول إلى المخاطبين فى قول فرعون: { إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون } فى مجرد التحقير والتهكم، وإسناد الأمر إلى إيمانهم كإسناده إلى الصلاة فى قول قوم شعيب: { أصلاتك تأمرك.. } الآية. وقوله: { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية } إذ حاصل المعنى أن إيمانكم ما تحصل إلا على عبادة العجل والأشياء التى تنافى الإيمان الحقيق، وما فاعل بئس نكرة موصوفة أو موصولة، والمخصوص بالذم محذوف تقديره عبادة العجل، أو ما يعلمها من سائر قبائحهم، أى بئس ما يأمركم به إيمانكم قتل الأنبياء، واتخاذ العجل، وقولكم عصينا وغير ذلك، وهذا أولى من الاقتصاد على هذه الثلاثة، أو فاعل بئس مستتر، وما تمييز مفسر له، والمخصوص محذوف وهى نكرة موصوفة بالجملة بعدها، أو تامة بمعنى شئ حقير، والجملة بعدها صفة أو صلة لمخصوص محذوف، أى بئس ما ما يأمركم بإعادة ما بمعنى لبئس شيئاً حقيراً شئ يأمركم به إيمانكم، أو بئس شيئاً الذى يأمركم به إيمانكم، أو ما معرفة تامة فاعل، والجملة صلة أو صفة لمخصوص محذوف كذلك، ونقل ابن مالك فى شرح التسهيل عن الفراء والكسائى أن ما موصولة فاعل، واستغنى بها وبصلتها عن المخصوص، وقال الفراء إنها موصولة مخصوص، والفاعل مستتر والتمييز ما أخرى محذوفة بمعنى نعم شيئاً الذى صنعته، وقيل ما كافة لبئس عن طلب الفاعل، فتصير بئس تدخل على الجملة الفعلية.
وقالوا: من أراد أن يحير عدوه أو يعمى قلبه ويتعذر عنه محفوظه كتب هذه الآيات: { وإذ أخذنا ميثاقكم } إلى قوله: { مؤمنين } يوم سبت على قطعة خلق يطعمها له على الريق. وليتق الله الشديد العقاب فلا يفعل ذلك إلا لمن حل فيه بالشرع.