التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ فِرْعَوْنُ يٰأَيُّهَا ٱلْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يٰهَامَانُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّيۤ أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ
٣٨
-القصص

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَقَالَ فِرْعَوْنَ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي } لم يجد شبهه يلبس بها الأمر على الناس فتعمد صريح الكذب والعناد الواضح فنفى عن نفسه العلم بوجود اله غيره لهم ومراده اشعارهم بأنه لا اله سواه وقد علم انه لا اله إلا الله وقيل الكلام على ظاهره من انه لا يعلم بوجود اله سواه ولم يكن عالما بوجود سواه ولا عالما بعدم وجود سواه فأمره ببناء الصرح للاطلاع لاله موسى اما مخرفة ومجرد عناد ولعدم جزمه بعدم اله سواه.
{ فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ } اطبخ لي الآجر قيل انه اول من اتخذ الآجر وبنى به.
{ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً } قصرا عاليا واضحا وقيل منارة.
{ لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } ان كان له إله كأنه توهم انه ان كان له إله فهو جسم في السماء يمكن الترقي اليه أو أراد ان يبني له رصدا فيرى بالكواكب ما يدل على بعث الرسل وتبدل الدولة.
{ وَإِنِّي لأَظُنُّهُ } أي موسى.
{ مِنَ الكَاذِبِينَ } في قوله ان للأرض والسماء وما فيهما إلها غيري وهذا دليل على ان قوله { إِلَى إِلَهِ مُوسَى } انما هو على طريق الظن لا على طريق الجزم بأن لموسى الها وانما قال { أوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ } ولم يقول اطبخ لي الآجر واتخذه لانه اول من عمر الآجر فهو يعلّمه لصنعه ولأن هذه العبارة أحسن طباقا لفصاحة القرآن وعلو طبقته وأشبه بكلام الجبابرة ولذلك نادى هامان في وسط الكلام لا في أوله ولما سافر عمر رضي الله عنه الى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال: ما علمت أن أحدا بنى بالآجر غير فرعون، قال في عرائس القرآن قالت العلماء أن الله تعالى قد أملى لفرعون في كل باب من أبواب التملك والتسلط والثروة والتنعم والترفه وادعاء الربوبية مع ما أنعم الله عليه من العمر الطويل والقوة والمنعة والسعة والجنود والشوكة وقوة بنيته وربما مكث اربعين يوما بلياليها لا يخرج للفضاء إلا مرة واحدة وهو مع ذلك يأكل ويشرب ولا يبزق ولا يتمخط ولا يتوجع ولا يسعل ولا يتوجع بطنه ولا ترمد عيناه ولا تصيبه آفة في نفسه ولا كراهية قال سعيد بن جبير ملك فرعون اربعمائة سنة لا يرى مكروها ولو كان له في تلك المدة وجع يوم أو حمة ليلة لما ادعى الربوبية وأقدم على خطب عظيم وخطر جسيم لم يسمه سوء ولا مكروه ولا يتلقاه الا محبوب وكان له قصر من قصوره مشرف على المدينة ينيف على الف عتبة سخر الله له دابة من دوابه يركبها فيصعد ذلك القصر عليها ويهبط عليها مع أنعم الله عليه به استدراجا ولما عاين من أمر موسى ما عاين لم يزده ذلك إلا عتوا وعلم من قومه الخوف وخاف أن يأمنوا لموسى ويخالفوه فأمر هامان ببناء الصرح وجمع له العمال والفعلة فلم يترك أحدا ممن يقدر عليه من يعمل البنيان إلا جمعه للبناء فاجتمع له خمسون الف بناء سوى الاتباع والاجراء فمن يعمل الآجر والجص وينجر الخشب والأبواب ويضرب المسامير سهل الله له استدراجا وتم كما يريده سبع سنين وارتفع ارتفاعا لم يبلغه بنيان أحد منذ خلق الله السماوات والأرض فشق ذلك على موسى فأوحى الله تعالى اليه: أن دعه وما يريد فاني مستدرجه ومبطل عمله في ساعة واحدة وكان ذلك الصرح اذا طلع الشمس ضرب ظله نحو المغرب واذا دنى غروبها ضربه نحو المشرق بحيث لا يعلم أحد منتهاه إلا الله سبحانه فبعث الله سبحانه جبريل فضربه بجناحه فقذف به على عسكر فرعون فقتل الف الف رجل ولم يبق احد ممن عمل فيه الا أصابه موت وتيبست أيدي النجارين والحدادين والبنائين واحترق عاملوا الآجر والجص ومات القهارمة والعمال ايضا وذلك كله ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس ولما رأى فرعون ذلك علم أن حيلته لم تغن وأمر أصحابه فنصبوا الحرب لموسى وقالوا انك ساحر وعبد من عبيد فرعون كفرت نعمته وأبقت منه ونسيت منته حين القتك امك في اليمّ لعلمها بما تصير اليه من سوء الحال فاستنقذك منه فآواك وجئته عدوا محاربا فلا ننتهي عنك حتى نردك الى عبادته وخدمته ونذيقك الذل والهوان بترك طاعته. وروي انه لما تم بناءه صعد فرعون الى أعلاه وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت اليه وهي ملطخة دما فقال قد قتلت إله موسى فان صحة هذه الرواية فاما ان يخلق الله دما في النشابة أو صادفت طائرا او حوتا من بحر بين السماء والأرض وذلك استدراج وتهكم به بالفعل كما ورد التهكم على الكفار في القرآن بالقول في مواضع وبناه حتى لا يقدر الباني ان يقف اعلاه على رأسه وروي ان فرعون نفسه هو الرامي بنشابة وردت ملطخة بدم فقال ما قال فعند ذلك بعث الله عز وجل جبريل فقطعه ضربا بجناحه ثلاث قطع وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت الف الف رجل وقطعة في البحر وقطعة في المغرب وهلكت عماله كلهم وروي انه لما وقعت قطعة في البحر أصبح من قرب من البحر من الأقوام على غير لغتهم والصحيح عندي ان ذلك من فرعون لعنه الله مجرد عناد وانه عالم بأنه لا اله الا الله وقد روي انه كان يعرف اسم الله الأعظم واذا اقحطوا خر ودعى به وقال لله: إئتني في الدنيا وعاقبني في الآخرة فتأتي السحابة فوقه ويقول أنا الهكم جئتكم بالمطر وقد قال موسى له لقد علمت ما انزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر للناس فالظن يقين قال على جهة العمد تكذيبا لموسى وقد علم صدقه أي لا علمه من الكاذبين وسواء تيقن انه لا اله سواه او ظن او علم بوجود اله الذي لا اله الا هو فالجهل الذي به مفرط حيث حسب انه في مكان كما هو في مكان ويطلع اليه كما يطلع اليه في عليته وانه ملك السماء كما انه ملك الأرض وما اجهله واجهل قومه اذا راموا نيل السماء بصرح يبنونه أكان الله بتلك الصفة عنده أم لبس على قومه وبعد فلا يخفى أن فرعون عالم أن هامان لا يقدر على بنيان الصرح وحده بل عالم بأنه لا يبني فيه شيئا بل يأمر من يبني فاسناد البناء اليه على طريق النسبة غير الخارجية تجوز حيث كان هامان هو السبب لأنه يأمر بالبناء ويجمع البنائين وما يحتاج اليه البناء.