التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ
١٠٢
وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
١٠٣
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }: قال ابن مسعود وابن عباس { حَقَّ تُقَاتِه } هو أن يطاع لا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر. ورواه بعض مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد قدر الاستطاعة، فهو مفسر بقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقوله { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إلاَّ وسْعَهَا } وذلك فى كميات الطاعات، وكيفيتها، وحالها. وقيل: الآية فى تنزيه الطاعة عن الالتفات إليها وتوقع المجازاة عليها، وقال مجاهد: حق تقاته أن لا تأخذه فى الله لومة لائم، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه، وقيل: لا يتقى الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه، ونسب هذا القول إلى ابن عباس، والنسيان والغلط خارجان عن الاستطاعة، وقد يعنف عليهما إذ كان سببهما اشتغال القلب بالفرض، وترك المعصية جداً، وقال ابن عباس فى رواية أخرى عنه، وسعيد بن جبير، وقتادة وابن زيد، والسدى: الآية على عموم لفظها، من لزوم غاية التقوى، حتى لا يقع الإخلال فى شىء من الأشياء، ثم نسخ بقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } وقوله { { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } والصحيح القول بأن الآيتين تفسير لها، وأنهما المراد فيها لا ناسختان لها، وهذا مذهبنا، ويدل له ما رواه معاذ من أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تدرى ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن يدخلهم الجنة إذا عبدوه ولم يشركوا به أحداً" وأما ما روى من أنه لما نزل قولهُ تعالى { اتقوا الله حق تقاته } شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله من يقوى على ذلك؟ ثم نزلت تخفيفا بقوله تعالى: { { فاتقوا اللهَ ما اسْتَطعْتُم } } { { ولاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلا وسعها } فمعناه أنهم ظنوا أن الآية على ظاهرها من أنها أمر بما لا يستطاع من حق الله، فنزل ما بين لهم فيه أن المراد بحق التقاة هو ما استطاعوه، وأصل التقاة: وقيه قلبت الواو تاء، أو الياء ألفاً لتحركها بعد فتح، وهو مصدر، وفى صار اسم مصدر لاتقى، وكان بين الأوس والخزرج عداوة فى الجاهلية وقتال ولما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أصلح بينهم فافتخر منهم بعد ذلك رجلان: ثعلبة بن غنم من الأوس، وسعد بن زرارة من الخزرج، فقال ثعلبة: منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنا حنظلة غسيل الملائكة، ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمى الدبر - أى حماه الذباب اللاسع عن أن يمسه مشرك بعدما قتله المشركون - وكان قد عاهد ألا يمس مشركاً، ومنا سعد بن معاذ الذى اهتز عرش الرحمن لموته، ورضى الله بحكمه فى بنى قريظة بقتل مقاتلهم، وسبى غيرهم. وقال سعد بن زرارة: منا أربعة كلهم جمعوا القرآن كله، أبىّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم، فجرى الحديث بينهما حتى غضبا وأنشدا الأشعار وتفاخرا وجاء الأوس والخزرج ومعم السلاح، فأتاهم النبى صلى الله عليه وسلم، فأصلح بينهم، فنزل قوله تعالى { يا أيُّهَا الَّذِيِن آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقّ تُقَاتِهِ }.
{ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } إلى قوله تعالى { لعلكم تهتدون } نزل ذلك كله فى شأن افتخار ثعلبة وسعد، ومعنى { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُون } لا تكونوا حال الموت إلا مسلمين، ليس المراد حصر الإسلام بحال الموت ولفظ الآية: نَهْيهم عن أن يصدر موتهم بحال غير الإسلام مع أن الموت ليس بأيديهم، والمراد: الأمر بالسبب أى دوموا على الإسلام، حتى إذا جاءكم الموت ألفاكم مسلمين، فالنهى راجع إلى القيد، أى لا تكونوا غير مسلمين، فإذا متم كنتم موتىعلى غير الإسلام، والمراد بالإسلام: التوحيد والعمل الصالح، واجتناب الكبائر، وقيل: مسلمون، مفوضون إلى الله أموركم محسنون الظن به عز وجل.
قال ابن عباس رضى الله عنهما:
"قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُون }، فقال: لو أن قطرة من الزقوم قطرت فى دار الدنيا، لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟" رواه أبو عيسى الترمذى، وقال حسن صحيح، وأخرجه ابن ماجه، ومعنى: { اعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً } تثبتوا بقلوبكم واستعمال جوارحكم فى دين الإسلام، أو فى القرآن، فحبل الله دينه أو قرآنه. قال صلى الله عليه وسلم: "القرآن حبل الله المتين" . ولذلك قال الشاطبى: وبعد فَحَبْلُ الله فِينَا كِتَابُهُ، شبه الدين أو القرآن بالحبل لجامع النجاة بهما من الردى، فاستعار لهُ لفظ الحبل، و{ واعتصموا } ترشيح أو شبه الدوام على الدين، أو العمل بالقرآن، بالتمسك بالحبل، فاسم الدوام أو العمل بالاعتصام، فاشتق اعتصم، واستعاره فيكون حبل ترشيحاً، و{ جميعاً } حال من الواو، فى اعتصموا، أى مجتمعين. قال أبو سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حبل الله القرآن المتين، لا تنقضى عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد من قال به صدق، ومن عمل به أشد، ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم" وكذا قال: على حبل الله القرآن وكذلك روى عن قتادة، وقال ابن زيد: هو الإسلام، وقال ابن مسعود: حبل الله الجماعة، قال أنس بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم: "إن بنى إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتى ستفترق على اثنين وسبعين فرقة، كلها فى النار إلا واحدة فقيل: يا رسول الله وما هذه الواحدة؟ فقبض يديه، وقال الجماعة، وقرأ { واعتصموا بحبل الله جميعاً }" . قال ابن مسعود: هى الجماعة وعليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذى أمره به، وإنما تكرهون فى الجماعة، والطاعة خير مما تحبون فى الفرقة، وفى رواية عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن هذا القرآن هو حبل الله المتين، وهو النور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به" .
{ ولاتَفَرَّقُوا }: عن الحق، بعد أن جمعكم الإسلام عليه، كما تفرق أهل الكتاب، باختلافهم، أو كما تفرقتم فى الجاهلية، يعادى بعضكم بعضاً أو لا تفعلوا أو تذكروا ما يكون به التفرق، وتزول له الألفة، أو لا تكونوا فرقاً بالباطل، بل فرقة واحدة على الحق. قال أبو هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تناصحوا من ولى الله أمركم، ويسخط لكم قيل، وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال" . والآية ناهية عن التفرق بالفتن، والتفرق بالعقائد فى أم الديانة، وأما التفرق فى مسائل الفروع، فذلك فى قوله صلى الله عليه وسلم: "خلاف أمتى رحمة ولكن ينبغى للمقلدين ألا يتفرقوا على أقوال المجتهدين خوف الفتنة، بل يختار لهم قول" وقد اختلف الصحابة فى الفروع أشد اختلاف، وهم يد واحدة على الكفار.
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }: معشر الأوس والخزرج وهو الإيمان الجامع لكم، المزيل للغل، المنجى من مضار الدنيا والآخرة، واذكروا إنعام الله عليكم به، فنعمة بمعنى المصدر، أو بمعنى المنعم به، وعلى كل حال تعلق به، إذ من قوله تعالى:
{ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً }: لأن فى لفظه دلالة على معنى الحديث، ولو كان بمعنى المنعم به، ويجوز تعليقه بمحذوف حال من نعمة، بمعنى المنعم به، ولا يعلق باذكروا، لأن زمان الأمر بالذكر متأخر عن زمان كونهم أعداءً، والمعنى: اذكروا الآن ما أنعم الله به عليكم فيما مضى من الزمان، زمان الجاهلية، كونكم متعادين بعضكم لبعض.
{ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ }: بالإسلام.
{ فَأَصْبَحْتُم }: أى صرتم.
{ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً }: متحابين فى الله، وكان الأوس والخزرج، رجلين أخوين لأب وأم، وسميت ذريتهما باسميهما، ووقع بين أولادهما العداوة، وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة، حتى أطفأها الله بالإسلام وألف بينهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك قال محمد بن اسحاق وغيره ولم يكن الأنصار إسما لهم إلا فى الإسلام، سماهم الله به، وأمهم قيلة، وهى أم الرجلين، والأوس العطية أو العوض فى الأصل، والخزرج الريح الباردة، وقيل: الجنوب خاصة فى الأصل، وقيل: من الخزرج بمعنى الوسط،
"وكان صلى الله عليه وسلم كلما اجتمع الناس فى موسم، أتاهم فدعاهم إلى الله عز وجل، ولا يسمع بقادم له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله عز وجل، وعرض عليه ما عنده فقدم سويد بن صامت حاجاً أو معتمراً فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاه إلى الله عز وجل، وإلى الإسلام، فقال له سويد: فلعل الذى معك مثل الذى معى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذى معك؟ قال: مجلة لقمان يعنى حكمة لقمان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها على فعرضها عليهِ فقال لهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الكلام حسن والذى معى أفضل من هذا، قرآن أنزله الله علىَّ هدى ونوراً فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه. وقال: إن هذا لقول حسن، ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه، فلم يلبث أن قتلته الخزرج" ، فكان قومه يقولون بعد ذلك: قد قتل وهو مسلم. وقال السهيلى: المجلة الصحيفة. قال ابن اسحاق: فلما فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده، "خرج صلى الله عليه وسلم فى الموسم الذى لقى فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب، كما يصنع فى كل موسم، فبينما هو عند العقبة، لقى رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. فقال: مِنْ موالى يهود؟ قالوا: نعم. قال: أفتجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى. فجلسوا معه فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن" وكان مما صنع الله بهم الإسلام أن يهودا كانوا معهم فى بلادهم، وكانوا أهل كتاب وعلم، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان فإذا أصابوا من اليهود قالت اليهود: إن نبيا مبعوثا الآن قد ظل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر، ودعاهم إلى الله سبحانه، قال بعضهم لبعض: يا قوم تعلمون والله أنه النبى الذى توعدكم به اليهود، فلا يسبقنكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم وصدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا: إنا قد تركنا قوماً بينهم من العداوة والشر مما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فستقدم عليهم، فندعوهم إلى أمرك وتعرض عليهم الذى أجبناك فيه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أغر منك، ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلدهم قد آمنوا وصدقوا. قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر لى ستة نفر، فمن بنى النجار أسعد بن زرارة، وأبو إمامة وعوف بن الحارث، وهو ابن عفراء، وبنوا النجار هم من الخزرج، وكان من بنى زريق رافع بن مالك ومن بنى سلمة قطبة بن عامر بن نابى، وجابر بن عبد الله بن زياد، رضى الله عنهم، ولما قدموا المدينة، ذكروا لقومهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام، حتى فشا فيهم، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فيهم الستة غير جابر، فلقوه بالعقبة، وهى العقبة الثانية، وتلك هى العقبة الأولى، فبايعوه بيعة النساء، قبل أن تفرض الحرب، قال ابن إسحاق عن الزهرى عن ابن إدريس الخولانى: أن عبادة بن الصامت -رحمه الله - قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة الأولى، ألا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق ولا نزنى، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتى ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه فى معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً، فأخذتم بحده فى الدنيا فهو كفارة لكم، وإن ستر عليكم فى الدنيا إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله سبحانه وتعالى، إن شاء عذب، وإن شاء غفر، بأن يوفقكم للتوبة النصوح، ولما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم مصعب بن عمير، وأمره ان يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقهم فى الدين، فكان يسمى فى المدينة المقرىء.
قال ابن إسحاق:
"ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة، وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين، مع حجاج قومهم من المشركين حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أواسط أيام التشريق حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته والنصر لدينه، وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، قال كعب بن مالك: فلما فرغنا من الحج، وكانت الليلة التى واعدنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لها، بتنا مع قومنا فى رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين حتى اجتمعنا فى الشعب عند العقبة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا، ومعنا امرأتان، ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له، فلما جلس كان أول متكلم العباس ابن عبد المطلب، فقال: يا معشر الخزرج - قال وكانت العرب يسمون هذا الحى من الأنصار الخزرج، خزرجها أوسطها -: إن محمداً منى حيث علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو فى عز من قومه، ومنعة فى بلده، وأنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم له من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه، وخاذلوه بعد خروجه إليكم، فمن الآن فدعوه، فإنه فى عزة ومنعة من قومه وفى بلده، فقلنا: قد سمعنا ما قلت، فتلكم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا القرآن، ودعا إلى الله ورغب فى الإسلام ثم قال: أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم فوالذى بعثك بالحق لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الخلقة ورثناها كابراً عن كابر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيباً يكونون على قومهم، فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيباً تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، فمن الخزرج: أبو أمامة أسعد ابن زرارة، وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورافع بن مالك العجلانى، والبراء بن معرور، وعبد الله بن عمير بن حزام، وعبادة ابن الصامت، وسعد بن عبادة، والمنذر بن عمر، ومن الأوس: أسيد بن حضير، وسعيد بن خثيمه، ورفاعة بن عبد المنذر، وذكر بعض زيد بن ثعلبة" . قال ابن هشام صاحب السيرة: أهل العلم يعدون فيهم أبا الهيثم بن التيهان ولا يعدون رفاعة. قال عبد الله بن أبى بكر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للنقباء: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، كفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومى. قالوا: نعم. فلما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، صرخ الشيطان من رأس العقبة، بأنفذ صوت ما سمعته قط، يا أهل الجباجب - الجباجب المنازل - هل لكم فى محمد والصباة معه قد أجمعوا على حربكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أزيب العقبة - هذا أزيب يعنى شيطان العقبة، أى عدو الله - أما والله لأفزعن لك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ارفضوا إلى رحالكم فرجعنا إلى مضاجعنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش فى منازلنا، فقالوا: يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، فابعث من هناك من مشركى الأوس والخزرج يحلفون بالله ما كان من هذا شىء، وما علمناه وصدقوا أنهم لم يعلموا" . وروى أن أبا لجيش أنس بن رافع ومعه فتية من بنى عبد الأشهل فيهم إياس ابن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتاهم وجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هل لكم إلى خير مما جئتم إليه؟" قالوا: وما هو؟ قال: "أنا رسول الله، بعثنى الله إلى العباد أدعوهم ألا يشركوا به شيئاً وأنزل على الكتاب"، ثم ذكر الإسلام وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أى قومى.. والله هذا خير مما جئتم إليه. فأخذ أبة الجيش حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس فقال: دعنا منك فلعمرى لقد جئنا لغير هذا فصمت إياس وانصرفوا إلى المدينة، فكانت وقعة بغات بين الأوس والخزرج ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك وهذا ما مر فى سويد بن الصامت، وسويد هذا أخو بنى عمرو بن عوف، وكان شريفاً يسميه قومه الكامل، لجلده ونسبه، قال ابن اسحاق عمن سمى من شيوخه: أن أسعد بن زراة خرج بمصعب بن عمير، يريد به دار بنى عبد الأشهل ودار بن ظفر، وذلك فى المدينة، فدخل به حائطاً من حوائط بنى ظفر، فجلس به واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا، فلما سمع بذلك سعد بن معاذ وأسيد بن حضير، وهما يومئذ سيدا قومهما: بنى عبد الأشهل وكلاهما مشرك على دين قومه. قال سعد لأسيد: لا أبالك انطلق إلى هذين الرجلين الذين أتيا ديارنا ليسمعهما ضعفاؤنا، فازجرهما وانْهَاهُما عن أن يأتيا ديارنا، فإنه لو لاسعد بن زرارة منى حيث قد علمت كفيتك ذلك، هو ابن خالتى ولا أجد عليه مقدماً، فأخذ أسيد حربته ثم أقبل إليهما فلما رآه سعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه. فوقف عليهما مشتما، فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته أكف عنك ما تكره. قال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا فيما ذكر عنهما: والله لعرفنا فى وجهه الإسلام قبل أن يتكلم فى إشراقه وتهلله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا فى هذا الدين؟ قالا له: تغتسل، وتطهر ثيابك، ثم تشهد شهاد الحق، ثم تصلى. ففعل ذلك ثم قام فركع ركعتين، وقال لهما: إن ورائى رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله إليكما الآن: سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس فى ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم، ولما وقف على النادى قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت. وقد حدثت أن بنى حارثة قد خرجوا إلى سعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك فقال سعد مغضياً مبادراً تخوفاً للذى ذكر له من بنى حارثة، فأخذ الحربة من يده فقال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، ثم خرج إليهما فلما رآهما سعد مطمئنين عرف سعد أن أسيد إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف عليهما مشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة: يا أبا أمامة أما والله لولا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت منى هذا، أتغشانا فى ديارنا بما نكره، فقال مصعب: أو تقد فتسمع؟ فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره.
فقال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن. قال: فعرفنا والله فى وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتهلله قال لهما: كيف تفعلون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم فى هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهر ثيابك ثم تتشهد شهادة الحق ثم تصلى ركعتين. فقام واغتسل وطهر ثوبه، وتشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين ثم خذ حربته ثم أقبل عامداً إلى نادى قومه، ومعه أسيد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا، قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذى ذهب من عندكم، فلما وقف عليهم قال: يا بنى عبد الأشهل كيف تعلمون أمرى فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً وأميننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فوالله ما أمسى فى دار بنى عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً ومسلمة، ورجع مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بنى أمية بن زيد وخطمة ووائل وواقب وهم من الأوس، فإنه تأخر إسلامهم. وهنا انتهت الرواية فى سير الغزوات.
وفى بعض الكتب زيادة: أنه كان فى هؤلاء الذين تأخر إسلامهم أبو قيس ابن الأشلت الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ومضى بَدْر، وأحُد، والخندق، وبعد ذلك رجع مصعب المذكور إلى مكة وكان أمر العقبة الثالثة، وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من المشركين حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق. قال كعب بن مالك وقد شهدها: فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التى واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنا عبد الله ابن عمرو بن خزام، وأبو جابر، أخبرناه وكنا نكتم عمن معنا من المشركين من قومنا أمرنا، فكلمناه وقلنا يا جابر إنك سيد من ساداتنا، وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطب النار غداً، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم، فأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة، وكان نقيباً، فبتنا تلك الليلة مع قومنا فى رحالنا، حتى مضى ثلثا الليل، خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفاء، حتى اجتمعنا فى الشعب عند العقبة، ونحن سبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا: سمية بنت كعب أم عامرة إحدى نساء بنى النجار، وأسماء بنت عمرو بن عدى أم منيع، إحدى نساء بنى سلمة، فاجتمعنا بالشعب، ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه عمه العباس، وجرى ما مر ذكره من الكلام والبيعة، وروى
"أن البراء كان يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مر فاعترض أبو الهيثم بن التيهان فى كلامه. فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبا، لا يعنى عهوداً، وإنا قاطعوها. فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: بل الدم بالدم، والهدم بالهدم، أنتم منى وأنا منكم أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم" . وقال عاصم بن عمرو ابن قتادة: "إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصارى: يا معشر الخزرج أتدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأسود والأحمر فإن كنتم تخذلونه فى إصابة أموالكم وقتل أشرافكم، فمن الآن فهو والله خزى الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على إصابة الأموال قتل الأشراف، فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وقتل الأشراف، فما لنا بذلك إن نحن وفينا؟.. قال الجنة، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه، وأول من ضرب على يده البراء بن معزوز، ثم تتابع القوم، ولما بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرخ الشيطان على حد ما مر، قال العباس بن عبادة بن نضلة والذى بعثك بالحق، لئن شئت لنملينَّ على أهل منى بأسيافنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رجالكم" ، وكان فى القوم الذين جاءوا من قريش إلى الخزرج صباحاً، لما سمعوا من الصراخ الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومى، لبس نعلين جديدتين، قال بعض الخزرج: وهو كعب بن مالك. قلت: با أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلى هذا الفتى من قريش؟ فسمعها الحارث فخلعهما من رجله ورمى بهما إلىَّ وقال: والله لا انتعلتهما. قال أبو جابر: مَهْ والله أخفظت الفتى - أى اغتبته - فاردد إليه نعليه. قال: قلت لا أرددهما. وانصرف الأنصار إلى المدينة فأظهروا الإسلام، واجتمع على الإسلام أوسها وخزرجها بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً، ونجاهم من الهلاك، بعد أن أشرفوا عليه، كما قال الله جل وعلا:
{ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِّنْهَا }: أى استوجبتم بكفركم ومعاصيكم الإلقاء فى النار، فكنتم كمن حضر فى طرف حفرة من النار الأخروية، أى فى طرف دركة منها، ليلقى فيها، فأنجاكم الله بتوفيقه إياكم إلى الإسلام. ويجوز أن يكون ذلك تمثيلا بنار الدنيا، ويناسبه لفظ حفرة. وشفا الشىء: طرفه، وألفه عن واو، والإنقاذ: التنجية منها والمضمرة فى { منها } للنار، أو للحفرة، ويجوز عوده للشفا، وعليه فإنما أنت ضميره لإضافته إلى المؤنث وهو { حفرة } مع صحة أن يقال: وكنتم على حفرة أو لتضمينه معنى الشفة، فإن { شفا } البئر، وشفتها: طرفها، كالجانب والجانبة، أصله: شفو قلبت الواو ألفاً لتحركها بعد فتح فى المذكر، وحذفت فى المؤنث، وعوض عنها التاء. ومن النار بيان لحفرة نعت لها، أى حفرة: هى النار أو تبعيض، أى حفرة من حفر النار، على حذف مضاف وهو نعت كذلك قال بعضهم كنتم تأكلون بعضكم بعضاً، شديدكم ضعيفكم حتى جاء الله بالإسلام فآخى بينكم، قيل لابن مسعود: كيف أصبحت؟ قال: أصحبحنا بنعمة الله إخواناً. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أتيتكم وأنتم تتهافتون فى النار فأخذت بحجزكم، فأخرجتكم منها" . شبه الكفر بالوقوع فى النار.
{ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }: يبين الله لكم سائر آياته، مثل تبيينه هذه الآية، ويبين الله لكم دلائله، مثل تبيين هذه الآية لتهتدوا، أو ليزيد المهتدى هدى ليحملكم على رجاء هدايته، او ليقرب اهتداءكم أو ازدياده، حتى أن من رآكم ورأى ما يتبن لكم يرجو لكم ذلك