التفاسير

< >
عرض

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
١١٢
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ }: أوقع الله عليهم الذلة، وألزمها إياهم حتى صارت كشىء يضرب على شىء، فيحيط به، أو يلتزق به، والذلة ضعف قلوبهم عن أن يقاوموا غيرهم فى قتال، أو شدة. وعن أن يردوا عن أنفسهم ما أصيبوا به، وهذا لعمومه أولى من تخصيص الذلة لشىء مثل ما قيل أن الذلة قتلتهم، وغنيمة أموالهم أصولا وعروضاً وسبيهم، وما قيل أن الذلة ضرب الذلة عليهم لأنها ذلة وصغار، وما قيل: أن الذلة أنهُ لا يرى فى اليهود ملك قاهر، ولا رئيس معتبر، بل يستضعفون فى جميع البلاد وما قيل: إن الذلة كونهم أذلاء فيما بين المسلمين، بسبب كفرهم وتمسكهم بالدين المنسوخ، والطريق المخترعة الباطلة، ولما ذلوا بين المؤمنين ذلوا أيضاً تبعاً بين غير المؤمنين، وكان فيهم ذل عظيم قبل الإسلام، فزادوا من بعده ذلا عظيما مستأصلا لشأنهم.
{ أيْنَمَا ثُقِفُوا }: أى وجدوا، وجواب الشرك محذوف، تقديره: أى مكان وجدوا من دار الإسلام غلبوا وذلوا، لا اعتصام لهم، ولا عز دلَّ عليه ضربت عليهم الذلة، أو يقدر بلفظه أى: أينما ثقفوا ضربت عليهم الذلة، وقيل: هو جواب مقدم.
{ إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللهِ وحَبْلٍ مَّنَ النّاسِ }: استثناء من أعم الأحوال، أى ضربت عليهم الذلة، فى كل حال، إلا معتصمين بعهد من الله والناس المؤمنين بالأمان على أداء الجزية، ويجوز أن يكون حبل الله: ذمته أو كتابه الذى أتاهم، أو دين الإسلام، وأن يكون حبل الناس: ذمتهم، واتباع دينهم، وقال الفخر: قال بعضهم حبل الله هو الإسلام، وحبل الناس العهد والذمة. قال الفخر: هذا بعيد، إذ لو أريد ذلك لقيل: أو حبل من الناس أو قال. وقال آخرون: المراد بكلا الحبلين الأمان، لأنهُ من الله بإذنه ووحيه، ومن المؤمنين بإنقاذه لهم، قال: وهو أيضاً ضعيف. قال: والذى عندى أن الأمان الحاصل للذمى قسمان: أحدهما الذى نص عليه، وهو الأمان الحاصل بإعطائه الجزية عن يد، وقبوله إياها. والثانى: الأمان الذى فرض إلى رأى الإمام واجتهاده، فيعطيهم الأمان مجاناً تارة، ويبذل زائد أو ناقص تارة أخرى على حسب اجتهاده، واستعير الحبل لنحو العهد والكتاب، لأن كلا منهما سبب للنجاة والفوز بالأمن.
{ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ }: رجعوا عن الله لإعراضهم عن دينه بغضب منهُ، عز وجل، من باء بمعنى رجع، أو مكثوا فى غضب من الله من قولك: تبوأ كذا، أى اتخذه محلا ينزل فيه. والباء على الأول للمصاحبة وعلى الثانى للظرفية.
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ }: ضرب عليهم، وسموا الفقر ضرباً شبيهاً بإحاطة البيت المضروب على أهله، فإنهم فى غالب الأمر إما فقراء وإما غير فقراء، لكن يظهرون الفقر ويتصورون بصورة الفقراء، وقيل: { المسكنة }: الجزية، وبه قال الحسن.
{ ذَلِكَ }: المذكور من ضرب الذلة والبوء بالغضب وضرب المسكنة.
{ بأنَّهُمْ كَانوا يكْفُرُونَ }: أى بسبب كفرهم.
{ بِآيَاتِ اللهِ }: التوراة.
{ ويَقْتُلُونَ الأنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ }: لا يكون قتل نبى بحق البته لكنه ذكر بغير حق تأكيداً للتفظيع اللازم عليهم وللإشعار بأن قتل الأنبياء لم يكن حقاً بحسب اعتقادهم أيضاً ومن ذلك أن الذل كان واقعاً عليهم قبل ظهور الإسلام، وزاد عليهم بعد ظهوره، والزائد بعده قد عظم، حتى استأصلهم، وذلك لأن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أفضل الخلق والأنبياء وغيرهم، وأنه خاتم النبوة والرسالة، وكتابه أفضل الكتب، وأمته أفضل الأمم، فصار سعى اليهود فى قتله صلى الله عليه وسلم، وقتال أمته والضر بهم والتكذيب بكتابه أعظم مما فعل أباؤهم، فعظم ذنبهم بذلك، ولأنهم رضوا بما فعل آباؤهم من التكذيب، وقتل الأنبياء مصوبين لهم، ولذلك نسب إليهم ما فعل آباؤهم.
{ ذَلِكَ }: المذكور من الكفر بالآيات وقتل الأنبياء.
{ بِمَا عَصَواْ }: أمر الله.
{ وَكَانُوا يَعْتَدُون }: من الحلال إلى الحرام بسبب غشيانهم، وكونهم مجاوزين حدود الله عز وجل، وذلك أن المعصية تجلب الأخرى والأخرى، فمن الصغائر لصغائر أخرى وكبائر، ومن كبائر النفاق لكبائر النفاق الأخرى وكبائر الشرك، وذلك أن القلب يزول منه النور بالمعصية، ويزداد بها ظلمة والحاصل أن الإصرار على ذنب يدعو إلى آخر، وإلى ذنوب مثله، ودونه وأعظم منه، ويناسب ذلك أن أقول أن ترك النفل يؤدى إلى الإخلال بالسنة أو تركها، وتركها أو الإخلال بها يؤدى إلى ترك الفريضة، أو الخلل فيها وتركها أو الإخلال بها يؤدى إلى استحقار الشرع، واستحقاره يؤدى إلى الشرك بل هو طرق من الشرك، ويجوز أن تكون الإشارة فى قوله: { ذَلِكَ بِمَا عَصَوا } إلى المذكور من ضرب الذلة، والبوء بالغضب، وضرب المسكنة كالأولى، أى أن الثلاثة اللاتى هن ضرب الذلة، والبوء بالغضب، وضرب المسكنة، أوقعن عليهم كان سبب الكفر بالآيات وقتل الآنبياء وكان سبب عصيانهم، واعتدائهم، وحكمة ذلك الإعلام بأن سخط الله يستوجبه العصيان الذى هو دون الشرك، كما يستوجبه الشرك، والصحيح وهو مذهبنا ومذهب جمهور الأمة، أن المشرك مخاطب بالفرع والأصل.