التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٢١
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ }: واذكر يا محمد إذ ذهبت من أهلك فى المدينة، مقدر التنزيل للمؤمنين، مواضع يقاتلون فيها، وأصل الغدو الذهاب أو النهار، واستعمله هنا فى الذهاب بعد الزوال، دل على هذا اتفاق المفسرين، أنه ذهب إلى أحد بعد أن صلى الظهر يوم الجمعة، وقيل: إن الغدو على أصله وأنه صلى فى ذلك اليوم صلاة الجمعة، أو النهار.
و{ تبوأ }: تنزل متعد بنفسه إلى اثنين: الأول المؤمنين، والثانى مقاعد أو بمعنى تهيأ فيتعدى لواحد، وهو مقاعد، فيكون المؤمنين على نزع الخافض أى للمؤمنين، كما قرأ عبد الله بن مسعود: تبوأ للمؤمنين، والجملة حال مقدرة من ضمير تبوأ، وإنما قلت: مقدرة لأن التبوئة ليست مصاحبة للغدو بل بعد الوصول، قيل: أو حال مشارفة، لأن الزمان متسع، وكلا الحالين المقدرة والمشارفة نوع واحد، ولا فرق إلا بقرب زمانها من زمان عاملها، بخلاف المقدرة، فإنها أعم للقرب والبعد.
و{ مقاعد }: جمع مقعد وهو اسم لمكان القعود، الذى يقعد فيه الصحابى حتى يجىء الغدو، أو يحضر القتال، إن كان قد جاء فيقوم للقتال، أو أراد به مطلق المكان له باعتبار القعود بمعنى الموضع الذى يثبت فيه الصحابى قائماً أو قاعداً، أو على هذا يكون مجازاً للإطلاق والتقييد، كما تقول فى كون الغدو بمعنى معلق الذهاب، كقوله تعالى:
{ { فى مقعد صدق } }. و{ للقتال }: متعلق بتبوأ أو بمحذوف نعت لمقاعد، لا بمقاعد، لأن اسم المكان واسم الزمان لا يعملان، ذكر الله هذه الآية تقريراً لقوله: { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً } فإنهم إن صبروا وتقوا يوم أحد غلبوا الكفار، ففعلوا، فكانوا غالبين والحمد لله. لم يتق الرماة أمره صلى الله عليه وسلم بلزوم موضعهم، ولم يصبروا عن النهب، فكانت الهزيمة، لكن جبرها الله، تبارك وتعالى، وتقريراً لقوله { { لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دونكم } إذ تخلف عبد الله بن أبى - لعنه الله - بثلثمائة بعد خروجه وكان الكفار يوم أحد ثلاثة آلاف، والمسلمون كانوا ألفاً أو أقل بخمسين رجلا ثم رجع عبد الله بن أبى بثلثمائة من أصحابه، فبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع سبعمائة فأعانهم الله تعالى حتى هزموا الكفار.
{ وَاللَّهُ سَمِيعٌ }: لأقوالكم.
{ عَلِيمٌ }: بأفعالكم ونياتكم، روى أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء ويوم الخميس ببطن الوادى، ثانى عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة، ونزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالشعب من أحد يوم السبت سابع عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة، وقيل: كانت وقعة أحد لإحدى عشرة ليلة من شوال، وقيل: لسبع ليال منه، وقيل: فى نصفه، واتفقوا أنها سنة ثلاث. قال مالك: بعد بدر بسنة، وعنه بأحد وثلاثين شهراً قصد المشركون أخذ ثأر من قتل منهم يوم بدر. روى أنهم لما نزلوا بأحد استشار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أصحابه فى المدينة، ودعا عبد الله بن أبى يومئذ واستشاره، ولم يستشره قط قبلها، فأشار إليه، صلى الله عليه وسلم عبد الله وأكثر الأنصار أن أقم بالمدينة يا رسول الله، ولا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا؟ فدعهم يا رسول الله فإن قاموا قاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال فى وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين. وقيل: قال عبد الله وحده ذلك فوافق رأيه رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأكثر المهاجرين والأنصار، وقال قوم من أصحابه: يا رسول الله كنا نتمنى هذا اليوم فاخرج بنا إلى هذه الأكالب لئلا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا وخفناهم، وكانوا قوماً صالحين ممن فاتهم قتال بدر، وأسفوا عليه، وشجعوا الناس ودعوا للحرب وبالغوا، وكانوا قد كتب لهم أن يموتوا بأحد. وقد قال صلى الله عليه وسلم: إنى رأيت فى منامى وذلك ليلة الجمعة، وهى ليلة اليوم الذى يخرج فيه إلى أحد، بقرة مذبوحة حولى، فأولتها خيراً. وروى أولتها ناساً من أصحابى يقتلون وإنكم ستقتلونهم وتهزمونهم غدا فلا تتبعوا المدبرين. قيل: فلما كان غداً تبعوهم فكروا عليهم، فكان القتل فيهم بعد أن كان فى المشركين، ورأيت فى ذباب سيفى ثلماً، فأولتها هزيمة. ويروى أولتها رجلا من أهل بيتى يقتل وذلك حمزة رضى الله عنه، وقيل: ذلك ما أصاب وجهه ورباعيته وشفتيه: "ورأيت أنى أدخلت يدى فى درع حصينة فأولتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم، فإن أقاموا أقاموا بشر، وإن دخلوا علينا المدينة قاتلناهم فيها،" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلهم فى الأزقة. وقال: "أكمنوا للمشركين فى أزقتها حتى يدخلوا عليكم فيها فتقتلوهم" فما زال به القوم المريدون للخروج وهم قوم من الأنصار عند بعض: حتى وافقهم، دخل منزله فلبس لامته، فلما رأوه قد لبس السلاح ندموا جميعاً. وقال سعد بن معاذ وأسيد بن حصير: أكرهتموه على الخروج؟ فردوا الأمر إليه وقالوا: بئس ما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوحى يأتيه، فقاموا واعتذروا وقالوا: يا رسول الله اصنع ما شئت، فإنا لا نكرهك، نكمن لهم فى أزقتها حتى يدخلوا فنقتلهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغى لنبى أن يلبس لامته فيضعها حتى يقاتل. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، بعد ما صلى الجمعة ووعظهم، وأمرهم بالجد وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا، ثم صلى بالناس العصر، وحضر أهل العوالى، وحشد الناس وفرحوا بوعد النصر، وقد مات فى ذلك اليوم رجل من الأنصار، فصلى عليه، ثم خرج فأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال، سنة ثلاث كما تقدم، وكان خروجه على رجليه، وكان من منزل عائشة، ولم يركب حتى بلغ محل النزول، وهو الشعب، وقيل: نزل فى جانب الوادى. روى أن أبا بكر وعمر دخلا معه بيته، وعماه وألبساه، وقف الناس ينتظرونه، ولبس لامته وهى الدرع، وتقلد سيفاً. روى أنه جعل نصف أصحابه للقتال، وجعل ظهره وظهور أصحابه إلى أحد وأمر عبد الله بن جبير على الرماة، وقال:
"ادفعوا عنا بالنبل، حتى لا يأتونا من ورائنا" أو قال: "ادفعوا عنا بالنبل من يأتينا من روائنا" وقال: "اثبتوا فى هذا المقام فإذا عاينوكم ولوا الأدبار فلا تطالبوا المدبرين، ولا تخرجوا من هذا المقام، ولو رأيتمونا تخطفنا الطير حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمناهم، فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا" ولما خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عبد الله بن أبى شق عليه ذلك، وقال لأصحابه: أطاع الولدان وعصانى. ثم قال لأصحابه: إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم، وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءكم فانهزموا أنتم فسيتبعونكم فيصير الأمر إلى خلاف ما قاله محمد لأصحابه، فلما التقى الجمعان، فر بثلثمائة من أصحابه من المنافقين، وبقى معه صلى الله عليه وسلم، سبعمائة فهزموا بإذن الله المشركين، فلما رأى المؤمنون انهزام المشركين، طمعوا أن تكون هذه الوقعة كوقعة بدر، وطلبوا المدبرين، وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما رأى المشركون تفرقهم أدبار الفارين، وانكبابهم على الغنائم، نزع الله الرعب من قلوبهم، فكروا راجعين على المسلمين، فانهزم المسلمون. أدبهم الله بذلك لئلا يعودوا إلى مخالفة رسول الله، وإلى مثل ذلك، وليعلموا أن النصر يوم بدر، لموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عذر لعبد الله بن أبى فى الخذلان، ولو خالف رأيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم لأنه ليس للإنسان إلا موافقته، صلى الله عليه وسلم، ولو كانت على روحه، ولا سيما أنه قد خالف رأى أحبائه من الأنصار - رحمهم الله - الموافق لرأى عبد الله، ثم إن الصواب فى رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ألا ترى أن سبعمائة رجل بقوا معه، صلى الله عليه وسلم، هزموا المشركين، قبل انتقال الرماة منهم من أمكنتهم، وهو عصيان منهم، وقيل: صرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عبد الله وثلثمائة معه لنفاقهم فى الشوط. وقيل: فى أحد فبقى سبعمائة، وقيل: كانوا تسعمائة فبقى ستمائة، ولم يبق معه صلى الله عليه وسلم حين انهزم المسلمون إلا أبو بكر وعلى والعباس وطلحة وسعيد، وكسرت رباعيته، وشج وجهه صلى الله عليه وسلم. روى أنه، صلى الله عليه وسلم، سار حى قرب من عسكر المشركين، فعسكر هناك وبات تلك الليلة وهى ليلة السبت، ولما أصبح مضى إلى مناجزة المشركين فانخزل عبد الله بثلثمائة رجل من منافق ونتبع، وقالوا: نظن أنكم لا تلقون حرباً، فهمت عند ذلك بنو حارثة من الأوس، وبنو سلمة من الخزرج بالانصراف إذ رأوا كثافة المشركين وقلة المسلمين، وكادوا يجبنون ويفشلون فعصمهم الله - تبارك وتعالى - وذم بعضهم بعضاً، ونهضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصافوا وتقاتلوا فانهزم المشركون، فكان المسلمون يشدون نساء المشركين فى الجبال، ويرفعن عن سوقهن ويهربن، وتبدو خلاخلهن، وذلك أنه جاءت جرادة من الخيل من المشركين عليها خالد من خلف المسلمين الذين أمرهم صلى الله عليه وسلم بالثبوت، وقد انتقلوا للنهب فوقع صياح فى المسلمين من مقدمتهم وساقتهم، وصرخ صارخ: قتل محمد، فتخاذل الناس واستشهد من المسلمين سبعون، وقيل: خمسة وستون من المهاجرين أربعة، وقيل: أربعة وستون من المهاجرين ستة. وقتل من المشركين ثلاثة وعشرون، وتحيز رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أعلى الجبل. وعن سعد بن أبى وقاص: "رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان أشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد - يعنى جبرائيل وميكائيل عليهما السلام - وممن مات بأحد حنظلة بن أبى عامر، قتله شداد بن أوس، وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن صاحبكم لتغسله الملائكة فى صحائف الفضة بماء المزن بين السماء والأرض. قيل: التمس فى القتلى، فوجد رأسه يقطر ماءً وما بقربه ماء، قال: فاسألوا أهله ما شأنه؟ فسألت صاحبته وهى امرأته جميلة أخت عبد الله بن أبى، فقالت: خرج وهو جنب حين سمع الهاتف. فقال صلى الله عليه وسلم: لذلك غسلته الملائكة" . وفيه أصيبت عين قتادة ابن النعمان حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فكانت أحسن عينيه وأحدهما. "قال جابر بن عبد الله؛ أصيبت عين رجل منا يوم أحد، حتى وقعت على وجنته، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لى إمرأة أحبها وأخشى إن رأتنى أن تقذرنى. فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وردها إلى موضعها وقال: اللهم اكسها جمالا" فكانت أحسن عينيه وأحدهما نظراً، وكانت لا ترمد إذا رمدت الأخرى، ووفد على عمر بن عبد العزيز رجل من ذرية قتادة ابن النعمان، فساله عمرك من أنت؟
فقال:

أنا ابن الذى سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أيما رد
فعادت كما كانت لأول أمرها فياحسن ما عين! ويا حسن ما خد!

فقال عمر بن عبد العزيز:

تلك المكارم لاقعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

بمثل هذا فليتوسل المتوسل، فوصله وأحسن جائزته. وروى أن عينيه سقطتا جميعاً، فردهما صلى الله عليه وسلم، وأنه قال: أصيبت عيناى فسقطتا على وجنتى، فأتيت بهما النبى، صلى الله عليه وسلم، فأعادهما مكانهما وبصق فيهما، فعادتا تبرقان. وروى أن سيف عبد الله بن جحش انقطع يوم أحد، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرجوناً، فعاد فى يده سيفاً قائمه منه، فقاتل به فكان يسمى ذلك السيف العرجون، ولم يزل يورث حتى بيع من بقاء التركة من أمراء المعتصم بالله فى بغداد بمائتى دينار. وروى أن قبر عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمر الأنصاريين السليميين، حفره السيل، وكانا فى قبر واحد، فحفر عنهما ليغيرا من مكانهما، فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك فأميطت يده عن جرحه، ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أحد ويوم حفر عنهما، ست وأربعون سنة، وعبد الله بن عمر، وهذا هو والد جابر وعمرو بن الجموح هو ابن عم عمه. قال جابر بن عبد الله لما أراد معاوية أن يجزى العين بأحد، نودى بالمدينة من كان له قتيل فليأت قتيله. قال جابر: فآتيناهم وأخرجناهم رطاباً يتثنون، فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فانفطرت دماً، قال أبو سعيد الخدرى: لا ينكر بعد هذا منكر أبداً. وفى رواية: فاستخرجهم - يعنى معاوية - بعد ست وأربعين سنة لينة أجسادهم تثنى أطرافهم. قال ابن عبد البر: الذى أصابت المسحاة أصبعه هو حمزة رضى الله عنه. "قال جابر: رأيت الشهداء يخرجون على رقاب الرجال، كأنهم رجال نوّم، حتى إذا أصابت المسحاة قدم حمزة رضى الله عنه انبعث منها دم، ولما رجع صلى الله عليه وسلم من أحد، أذن مؤذنه بالخروج فى طلب العدو، حتى انتهوا إلى حمراء الأسد، وقد هم الكفار بالرجوع لقتال المسلمين. فأبى لهم صفوان بن أمية وخاف من المسلمين، فرجعوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد حين بلغهم أنهم قد هموا بالرجعة: والذى نفسى بيده لقد سومت لهم حجارة لو أصبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب. وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم فى وجهه، ذلك قبل رجوعه إلى المدينة، معاوية بن المغيرة بن أبى العاص جد عبد الملك ابن مروان لأمه، وأبا عزة الجمحى، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسره يوم بدر، ثم من لجأ معاوية بن المغيرة إلى عثمان بن عفان، فاستأمن له رسول الله، فأمنه على أنه إن وجد بعد ثلاث، قتل. فقام بعدها وتوارى فبعث النبى صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعمار بن ياسر وقال: إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا.. فوجداه فقتلاه، وأما أبو عزة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقه، فقال: يا رسول الله أقلنى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا تمسح عارضيك بمكة، تقول خدعت محمداً مرتين.. اضرب عنقه يا زبير فضرب عنقه" ، وقال صلى الله عليه وسلم فيه: "إن المؤمن لا يلدغ من جحر أفعى مرتين" . وكان أبو عزة فى مسيره هذا ينشد الأشعار، ويحرض الكفار ويشجعهم على قتال المسلمين، وبين أحد والمدينة فرسخ بل أقل، وسمى بأحد، لتوحده وانقطاعه عن جبال أخرى هناك إلى الأرض السابعة، ويقال له وهو: بو عينين - بكسر العين - وقيل: ذو عينين، جبل مجاور لأحد. قال صلى الله عليه وسلم: "أحد جبل يحبنا ونحبه" يعنى: يحبنا أهله ونحبهم، وهم أهل المدينة، أو خلق الله تبارك وتعالى به إدراكاً، فكان يحب النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. قيل: وفيه قبر موسى وهارون، وقيل: ماتا فى التيه، ولعلهما ماتا فيه وقبرا فى أحد، وروى فى سبب أحد أن قريشاً لما رجعوا من بدر إلى مكة وقد أصيب أصحاب القليب، ورجع أبو سفيان بعيره. قال عبد الله بن أبى ربيعة، وعكرمة بن أبى جهل فى جماعة ممن أصيب آباؤهم وإخوانهم وأبناؤهم يوم بدر: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه - يعنون غير أبى سفيان - ومن كانت له فى تلك العيرة تجارة، لعلنا ندرك منه ثاراً. فأجابوا لذلك فباعوها وكانت ألف بعير والمال خمسين ألف دينار، واجتمع قريش لذلك، فكتب العباس رضى الله عنه من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يومئذ ثلاثة ألوية، لواء بيد أسيد بن الحضير، ولواء للمهاجرين بيد على بن أبى طالب - وقيل بيد مصعب بن عمير - ولواء للخزرج بيد الحباب بن المنذر، وقيل بيد سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، وفى المسلمين مائة دراع، وخرج أمامه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يعدوان وفى المشركين سبعمائة دراع ومائتا فارس، وثلاثة آلاف بعير، وخمس عشرة امرأة دراعين، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم، وعلى الحرس تلك الليلة محمد بن مسلمة، وأدلج عليه الصلاة والسلام فى السحر، وقد كان صلى الله عليه وسلم رد جماعة من المسلمين لصغرهم: عبد الله بن عمر، وأسامة، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدرى، والنعمان بن بشير. وقيل أنه كبير لم يرده. وروى أن المسلمين صفوا بأصل أحد، والمشركين صفوا بالسبخة، وكان على ميمنة خيل المشركين: خالد بن الوليد، وعلى ميسرتها: عكرمة بن أبى جهل. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يأخذ هذا السيف بحقه؟ فقام إليه رجال، فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة سماك فقال: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به فى وجه العدو حتى ينحنى قال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله، فأعطاه إياه وكان رجلا شجاعاً يختال عند الحرب، فلما رآه صلى الله عليه وسلم يتبختر قال: إن هذه المشية يبغضها الله إلا فى مثل هذا الموطن" . قال الزبير ابن العوام: والله لأنظرن ما يصنع أبو دجانة، فاتبعه فأخذ عصابة له حمراء فعصب بها رأسه. فقالت الأنصار أخرج عصابة الموت، فخرج وهو يقول:

أنا الذى عاهدنى خليلى ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر فى الكيّول ضرباً بسيف الله والرسول

فجعل لا يلقى أحداً من المشركين إلا قتله، والكيول - بفتح الكاف وتشديد الياء - مؤخر الصفوف. فيقول من كال الزند يكيل إذا لم يخرج نار أشبهه به من كان آخر الصفوف، لأنه لا يقاتل. وقاتل حمزة بن عبد المطلب حتى قتل أرطأة بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف، وقتل على طلحة بن أبى طلحة صاحب لواء المشركين، ثم حمل لواءهم عثمان بن أبى طلحة، فحمل عليه حمزة فقطع يده وكتفه، ثم أنزل الله نصره على المؤمنين فجسوا المشركين بالسيوف حتى كشفوهم عن العسكر، وكانت الهزيمة فولى المشركون، لا يلوون على شىء، ونساؤهم يدعون بالويل والثبور، وتبعهم المسلمون ونهبوا العسكر وما فيه من الغنائم. قال أصحاب عبد الله بن جبير: أى قوم الغنيمة. ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة. فلما أتوهم حرفت وجوههم، فيقبلوا منهزمين. قالت عائشة: هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس إلى عباد الله أخراكم فرجعت أولاهم، فاجتلدت مع أخراهم. وعن ابن عباس: لما رجعوا اختلطوا بالمشركين والتبس العسكران فلم يتميزوا، فوقع القتل فى المسلمين، بعضهم من بعض، ورواية: نظر خالد بن الوليد إلى خلاء الجبل، وقلة أهله فكر بالخيل، وتبعه عكرمة ابن أبى جهل، فحملوا على من بقى من النفر الرماة فقتلوهم، وقتلوا أميرهم عبد الله بن جبير، وروى أنه لما اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز؟ فخرج حمزة بن عبد المطلب، فشد عليه فكان كأمس الذاهبة وكان وحشياً كامناً تحت صخرة، فلما دنا منه رماه بحربته، حتى خرجت من بين وركيه، فكان آخر العهد به، وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتله ابن قمئة وهو يظنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاح: إن محمداً قتل. ويقال: كان ذلك أزب العقبة، أى شيطان العقبة، ويقال: إن إبليس - لعنه الله - تصور فى صورة جعال، وقال قائل: أى عباد الله أخراكم. أى احترزوا من جهة أخراكم، فعكف المسلمون يقتل بعضهم بعضاً وهم لا يشعرون، وانهزمت طائفة منهم إلى جهة المدينة، وتفرق سائرهم، ووقع فيهم القتل، ولما فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رجل منهم: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد قتل فارجعوا إلى قومكم ليؤمنوكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم فإنهم داخل البيت. وقال رجل منهم: إن كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قتل أفلا تقاتلون على دينكم؟ وعلى ما كان عليه نبيكم؟ حتى تلقوا الله عز وجل شهداء، منهم أنس بن النضر عم أنس بن مالك بن النضر، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انكشفوا عنه، وذكر من ثبت معه، وقيل: ثبت معه أربعة عشر رجلا، سبعة من المهاجرين فيهم أبو بكر وعمر وعلى وطلحة بن عبد الله وعبد الرحمن ابن عوف والزبير وسعد بن أبى وقاص، وسبعة من الأنصار، وقيل: ثبت معه اثنا عشر رجلا، وقيل: ثلاثة عشر، وأصاب المشركون من المسلمين سبعين، وكان صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر أربعين ومائة وسبعين أسيراً، أو سبعين قتيلا، فقال أبو سفيان أقى القوم محمد ثلاث مرات، فنهاهم النبى صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه، ثم قال: أفى القوم ابن أبى قحافة؟ ثلاث مرات، ثم قال: أفى القوم ابن الخطاب؟ ثلات مرات ثم رجع إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا فما ملك عمر نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقى لك ما يسوءك. قال: يوم بيوم والحرب سجال. وتوجه صلى الله عليه وسلم يلتمس أصحابه فاستقبله المشركون، فرموا وجهه فأدموه وكسروا رباعيته، والذى جرح وجهه عبد الله بن قمئة، وعتبة بن أبى وقاص، أخو سعد هو الذى كسر رباعيته، ومن ثم لم يولد من نسله ولد، فيبلغ الحنث ألا وهو أبخر، وأهتم، أى مكسور البنايا من أصلها، يعرف ذلك فى عقبة، وعن أبى سعيد الخدرى: أن عتبة بن أبى وقاص رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كسر رباعيته اليمين السفلى، وجرح شفته السفلى، وأن عبد الله بن شهاب الزهرى شجه فى جبهته، وأن ابن قمئة جرح وجنته، فدخلت حلقتان من المعفرة فى وجنته، ووقع صلى الله عليه وسلم فى حفرة من الحفر التى كان أبو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، وفى رواية: وهشموا البيضة على رأسه، ورموه بالحجارة حتى سقط لشقه فى حفرة من الحفر التى حفرها أبو عامر، فأخذ على بيده واحتضنه طلحة بن عبد الله، حتى استوى قائماً، ونشبت خلقتان من المغفر فى وجهه، فانتزعهما أبو عبيدة عامر بن الجراح، وعض عليهما حتى سقطت ثنيتاه من شدة غوصهما فى وجهه، وامتص مالك بن سنان - والد سعيد الخدرى - الدم من وجنته ثم ازدرده، فقال عليه الصلاة والسلام: "من مس وجهى دمه لم تصبه النار" ، وفى طهارة دمه صلى الله عليه وسلم، خلاف مع أن هذا دم جهاد، "قال أبو إمامة: شجة ابن قمئة فى وجهه، وكسر رباعيته، فقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يمسح الدم عن وجهه: أقمأك الله فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه، قطعة قطعة" . قال أنس: "كسرت رباعيته، صلى الله عليه وسلم، يوم أحد وشج وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسحه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم، فأنزل الله تعالى { ليس لك من الأمر شىء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون }" . قال الأوزاعى: "لما جرح صلى الله عليه وسلم، يوم أحد أخذ شيئاً ينشف دمه. وقال: لو وقع منه شىء على الأرض لنزل عليهم العذاب من السماء" ثم قال: "اللهم اغفر لقومى فإنهم لا يعلمون" ، كذا وراه قومنا عن الأوزاعى، ومراده طلب الهداية والإسلام، طلب من الله أن يسلموا فيغفر لهم { { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } بقى البحث فى طلب الهداية والإسلام لغير المتولى المنع، مذهب أصحابنا. والجواز مذهب قليل من متأخرين، ومذهب قومنا. وجاز الدعاء بخير لا يكفى لدخول الجنة إذا لم يوجد قبله ما يكفى معه. قيل عن معمر عن الزهرى: ضرب وجه النبى صلى الله عليه وسلم يومئذ بالسيف سبعين ضربة وقاه الله شرها كلها، وأراد بالسبعين حقيقتها أو المبالغة، ذكر هذا الاحتمال فى المواهب عن فتح البارى، وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أحد فيما قاله ابن هشام: خرجت أول النهار، إلى أن انتهت إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قالت: فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف، وأرمى عن القوس حتى خلصت الجراحة إلى وأصابنى ابن قمئة، أقمأه الله تعالى، لما ولى الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقبل يقول: دلونى على محمد فلا نجوت إن نجا. قالت: فاعترضت له فضربنى هذه الضربة، ولكن ضربته ضربات على ذلك، ولكن عدو الله عليه درعان. قالت أم سعد بن الربيع: فرأيت على عاتقها جرحاً أجوف له غور وترس دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو دجانة بنفسه يقع النبل فى ظهره، وهو منحن عليه حتى كثر عليه النبل، وهو لا يتحرك، ورمى سعد بن أبى وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: فلقد رأيته يناولنى النبل ويقول: "ارم فداؤك أبى وأمى" حتى أنه ليناولنى السهم ما به نصل، فيقول: "ارم به"، ورمى أبو ذر الغفارى كلثوم بن الحصين، بسهم فوقع فى نحره فبصق عليه، صلى الله عليه وسلم، فبرأ، واشتغل المشركون بقتلى المسلمين يمثلون بهم، يقطعون الآذان والأنوف الفروج ويبقرون لبطون، وهم يظنون أنهم أصابوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأشرف أصحابه، وكان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كعب بن مالك قال: عرفت عينيه تزهران من تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتى يا معشر المسلمين، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما عرفوه نهض ونهضوا معه نحو الشعب، معه أبو بكر وعمر وعلى ورهط من المسلمين، ولما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الشعب أدركه أبى بن خلف وهو يقول: أين محمد لانجوت إن نجا. فقالوا: يا رسول الله، يعطف عليه رجل منا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "دعوه" فلما دنا تناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه صلى الله عليه وسلم، انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعرى عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله صلى الله عليه وسلم، فطعنه طعنة فى عنقه خدشة وقع بها عن فرسه، يخور كالثور ولم يخرج له دم، فكسر ضلعاً من أضلاعه، فلما رجع إلى قريش قال: قتلنى والله محمد، فقالوا: ما بك من بأس، فقال: أليس قد كان قال لى بمكة أنا أقتلك فوالله لو بصق على لقتلنى، فمات عدو الله بسرف وهو موضع بينه وبين مكة عشرة أميال، وهم قافلون إلى مكة. وقيل: لما صرخ الصارخ: ألا إن محمد قد مات، وفشى خبر موته إنهزم المسلمون، فأصاب منهم المشركون، ولما شج وكسرت رباعيته احتمله طلحة بن عبد الله، ودافع عنه أبو بكر وعلى نفر آخرون، ثم جعل ينادى ويقول: "إلى عباد الله" حتى التجأت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هزيمتهم، فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أخبرنا بقتلك فاستولى الرعب على قلوبنا فولينا مدبرين، فحينئذ توجه صلى الله عليه وسلم نحو القتلى يفتقدهم، وقيل: لما هزموا جعل يقول: "إلى عباد الله"، أحاز إليه ثلاثون من أصحابه، وحموه حتى انكشفت عنه المشركون، وقيل: لما وقع أبى عن فرسه بطعنته صلى الله عليه وسلم، حمله أصحابه وقالوا: ما بك من بأس، فقال: بل لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم، أليس قال أقتلك! فلو بصق على لقتلنى، ولم يلبث إلا يوماً فمات وقد كان يقول له إذا لقيه: عندى رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها. فيقول صلى الله عليه وسلم "بل أنا أقتلك إن شاء الله" وكان ابن عمر يقول: مات أبى بن خلف ببطن رابغ فإنى لأسير إلى بطن رابغ بعد هدى من الليل، إذ النار تتأجج فيها، وإذا رجل يخرج منها فى سلسلة تجذبها، يصيح العطش وإذا رجل يقول: لا تسقه فإن هذا قتيل رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبى بن خلف، ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب، ملأ على بن أبى طالب درقته من المهراس وهى صخرة منقورة تسع كثيراً من الماء، وقيل هو اسم ماء بأحد، فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغسل عن وجهه الدم، وصب على بن أسر وهو يقول: اشتد غضب الله على من أدمى وجه نبيه. وصلى النبى صلى الله عليه وسلم يومئذ قاعداً من الجراح التى أصابته، وصلى المسلمون خلفه قعوداً، ووقفت هند بنت عتبة والنسوة اللاتى معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدعن الأذان والأنف وبقرت عن كبد حمزة فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، ولما أراد أبو سفيان الانصراف أشرف على الجبل ثم صرخ بأعلى صوته: أنعمت فعال، إن الحرب سجال، يوم بيوم، بدراً على هبل، وكان أبو سفيان حين أراد الخروج إلى أحد، كتب على سهم نعم، وعلى آخر لا، وأجالهما عند هبل فخرج سهم نعم، فخرج إلى أحد فلما قال: إعل هبل - أى زد علوا - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: "أجبه". فقال: الله أعلى وأجل. فقال أبو سفيان: أنعمت فعال - أى ترك ذكرها فقد صدقت فى فتوها، وأنعمت: أجابت بنعم - فقال عمر: لا سواء قتلانا فى الجنة وقتلاكم فى النار. فقال: إن كان كما تزعمون فقد خبنا وخسرنا إذاً، وقال أيضاً: إن لنا عزى ولا عزى لكم. فقال صلى الله عليه وسلم: "قولوا الله مولانا ولا مولى لكم". ولما انصرف أبو سفيان وأصحابه نادى: إن موعدكم بدر العام القابل، فقال لرجل من أصحابه: قل نعم، هو بيننا وبينكم موعد، ولما انصرف المشركون خرجت النساء إلى الصحابة يعينهم وفيهن فاطمة رضى الله عنها بقربة ماء، فلما لقيت النبى صلى الله عليه وسلم، اعتنقته وسقته الماء، وجعلت تغسل جراحة بالماء فيزداد الدم، فلما رأت ذلك أخذت شيئاً من حصير أحرقته بالنار وكمدت به حتى لصق الجرح فاستمسك الدم، وروى أنه كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغولا بعلى وحمزة، فأوتى بعلى وعليه نيف وستون جرحا من ضربة وطعنة ورمية، فجعل صلى الله عليه وسلم يمسحها وتلتئم بإذن الله، كأن لم تكن، وجىء بحمزة مبقوراً مجذوع الأنف، وذلك بعد أن سار صلى الله عليه وسلم إلى فم الشعب، وفيه التقت به فاطمة رضى الله عنها، بماء على حد ما مر، ثم أرسل صلى الله عليه وسلم، محمد بن مسلمة فنادى فى القتلى: يا سعد ابن الربيع. مرة بعد أخرى فلم يجبه حتى قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسلنى أنظر ما صنعت؟ فأجابه بصوت ضعيف، فوجده جريحاً فى القتلى، وبه رمق، فقال: أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنى السلام وقل له يقول لك جزاك الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته، وأبلغ قومك عنى السلام، وقل لهم لا عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف، ثم مات وقتل أبو جابر فما عرف إلا ببنانه - أى بأصبعه - وقيل أطرافها واحدتها: بنانة. "وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمس حمزة فوجده ببطن الوادى، قد بقر بطنه عن كبده، ومثل به، فجذع أنفه وأذناه، فنظر عليه الصلاة والسلام إلى شىء لم ينظر إلى شىء أوجع قلبه منه، فقال: رحمة الله عليك لقد كنت فعولا للخير، وصولا للرحم، أما والله لأقتلن سبعين منهم مكانك، قال فنزلت عليه خواتم سورة النحل، { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين }" وصبر وكفر عن يمينه وأمسك عما أراد.
"وروى أنه صلى الله عليه وسلم، صلى على حمزة سبعين صلاة، وقال: أن حمزة لا بواكى له" . فبكت نساء المدينة أولا على حمزة، ثم على سائر القتلى من المسلمين يومئذ، فكان البكاء على الميت من يومئذ فيما قيل سنة فى النساء بالاجتماع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "زملوهم بكلومهم ودمائهم وقدموا أكثرهم قراءة" . قال أنس: لم نجد لحمزة كفناً، فكفناه بكسائه، نغطى رأسه فتنكشف رجلاه، ورجليه فتنكشف رأسه، فغطينا رأسه، وسترنا رجليه بالأذخر، ومثلوا أيضاً بعبد الله بن جحش ابن أخت حمزة رضى الله عنهما، ولذلك يعرف بالمجدع فى الله، وهو ابن بضع وأربعين سنة ودفن مع حمزة، فى قبر واحد، رضى الله عنهما، "ولما أشرف صلى الله عليه وسلم على القتلى. قال:أنت شهيد على هؤلاء، وما من جريح يجرح فى الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمى جرحه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك" . وقال: "زملوهم فى ثيابهم بجراحهم" . وقال صلى الله عليه وسلم: "يا جابر ألا أخبرك ما كلم الله تعالى أحداً قط لا من وراء حجاب، وأنه كلم أباك كفاحاً" أى خلق له كلاماً وسمعه بلا واسطة، فقال: "سلنى أعطك". فقال: أسألك أن أرد لى الدنيا فأقتل فيك ثانية، فقال الرب عز وجل إنه سبق منى أنهم لا يرجعون إلى الدنيا. قال أى ربى، فأبلغ من ورائى فأنزل الله { { ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ الله أمْوَاتاً } الآية. وعن ابن عباس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوى إلى مناديل من ذهب فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم، قالوا يا ليت إخواننا علموا ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا فى الجهاد، ولا يتواكلوا عن الحرب" ، قال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله عز وجل هذه الآيات { { ولاَ تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا } ومصداق فى قوله: ترد أنهار الجنة.. إلخ، قوله تعالى: { والشُهَداء عِنْدَ رَبِّهِم لَهُمْ أجْرُهُم وَنورُهم } وإنما تأوى فى الليل، ويوم القيام ترجع إلى أجسادها، وقال مجاهد: الشهداء يأكلون من ثمر الجنة وليسوا فيها، ويدل له ما رواه ابن أبى شيبة وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال "الشهداء بنهر - أو على نهر - يقال به بارض، عند باب الجنة فى قباب خضر، يأتيهم رزقهم منها بكرة وعشيا" ولعل بعض أرواح الشهداء فى الجنة تسرح، وبعضها على هذا النهر، أو ينتهى سيرهم إلى هذا النهر، فيجتمعون هنالك، فيعدى عليهم برزقهم هنالك، قال عياض عن عبد الله بن المرابط من المالكية كما فى المواهب أنه قال: من قال إن النبى صلى الله عليه وسلم هزم يستتاب، فإن تاب وإلا قتل لأنه منقص إذ لا يجوز عليه ذلك فى خاصته، لأنه على بصيرة من أمره ويقين. وكذا قال الشافعية، واختلفوا فى السَّاب له، صلى الله عليه وسلم، أيقتل ولو تاب؟ أو إن تاب لم يقتل ومن عادة الرسل أن تبتلى ويكون لهم العاقبة، ولو انتصروا دائماً لدخل فى المسلمين غيرهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائماً لم يحصل المقصود من البعثة، ولما صبر المسلمون على ما أصابهم جزع المنافقون، ولما بكوا على قتلاهم سر المنافقون، وظهر غش اليهود، والآية فى شأن قتال أحد، عند عبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، وابن عباس، والزهرى وقتادة، والسدى، والربيع من أصحاب الشافعى، وإسحاق، وقال الحسن ومجاهد ومقاتل، إنها فى الأحزاب وعن الحسن: إنها فى بدر، والصحيح الأول لقوله تعالى { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَنْ تَفْشَلاَ }.