التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥٢
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ }: إياكم بالنصر إذ وفيتم بشرطه، وهو التقوى والصبر، كما مر فى الآية، بل إن تصبروا وتتقوا.
{ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ }: تقتلون المشركين بمشيئته، وقدره وعلمه، قتلا كبيراً، وهو من قولك: حسه إذا بطل حسه، فذلك قتل. كما يقال: بطنه ورأسه، أى أصاب بطنه ورأسه، والباء للآلة المجازية متعلقة بتحس، أو للمصاحبة متعلقة به، أو بمحذوف والمحذوف حال من الواو، أى ملتبسين بإذنه. روى أنه كان أشد القتال يومئذ بحمزة، وعلى، وأبى دجانة وعاصم بن الأفلج، وغيرهم وداموا يقتلون الرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل، والباقون يضربونهم بالسيف، فانهزموا وقتلوا كثيراً، قد مر بيانه، حتى خالفوا الشرط بانتقال الرماة، عن موضعهم، كما قال:
{ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ }: تكاسلتم عمداً عن القتال، ميلا إلى الغنيمة، لما رأيتم المشركين منهزمين، ونساءهم يهربن باديات السوق، يركبن على ذلول وصعب، أو حتى إذا ضعف رأيكم فملتم إلى الغنيمة، والحرص من ضعف الفعل، أو حتى إذا حرصتم فإن الحرص مسبب عن ضعف العقل وأصل الفشل: الضعف.
{ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الأَمْرِ }: إذ قال بعض الرماة: من مقامنا عن الغنم، وقد انهزم المشركون، وقال أميرهم نثبت، ولا نخالف أمره صلى الله عليه وسلم، فثبت أميرهم ونفر معه دون العشرة، فقتل المشركون من تبت إذ نفر الأكثر للنهب، كما قال:
{ وَعَصَيْتُمْ }: إذ نفرتم للنهب وخالفتم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالثبوت.
{ مِّنْ بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ }: من الظفر بالمشركين وانهزاهم فكان الدولة بعد فشلكم، وتنازعكم وعصيانكم للمشركين، فتحولت الريح دبورا، بعد ما كانت صباء، فرجعوا على المسلمين يقتلونهم لما رأوا اشتغالهم بالنهب، فانهزم المسلمون. قال محمد بن كعب القرظى: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أحد إلى المدينة قال ناس من الصحابة: كيف أصابنا هذا؟ وقد وعدنا الله بالنصر؟ فأنزل الله جل وعلا: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ }.. الآية. وقيل: انتقضت صفوف المسلمين فجعل بعضهم يضرب بعضاً، وما يشعرون بذلك من الدهش، وإنما صدر الفشل والعصيان والنزاع الذى لا يجوز من بعضهم فقط، مع هذا خوطبوا به عموماً سترا على من فعل ذلك، وزجراً لمن لم يفعل، عن أن يفعل وعن أن يسكت عن النهى والضبط. قيل
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ على بغلته الشهباء، يدعو الله اللهم اكفنا بما شئت" وقد ظهر لك معنى الآية مع إبقائها على ظاهرها، وجواب إذا محذوف، والتقدير: انهزمتم، أو امتحنتم، أو منعكم نصره، وحكى عن الفراء: فيها تقديماً وتأخيراً تقديره: حتى إذا تنازعتم فى الأمر وعصيتم فشلتم، ولا يصح ذلك لأن جواب إذا لا يتقدم على شرطها، فيكون بينها وبين شرطها، ولأن الواو تمنع تنازعهم أن يكون شرطاً، ولعله إن صح هذا عنه، فإنما أراد أن الأصل أن يقال ذلك، وعدل عن ذلك لحكمة، أو قدر تأخير فشلتم مقروناً بالواو، فيكون أشار على أن العطف على فشلتم عطف سابق على لاحق، وما الأولى مصدرية، أى من بعد إرادته إياكم.
{ مِنْكُم مَّنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا }: وهم الذين انتقلوا من الرماة إلى النهب
{ وَمِنْكُم مَّنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ }: كمن لم ينتقل منهم كعبد الله بن جبير أميرهم ومن ثبت معه حتى قتلوا، ومن لم يضطرب من غير الرماة، كأنس ابن النضررحمه الله ، فإنهم لما انتقلوا صار القتال وجهين، وجه الله وهو قتال غير الرماة، وقتال للنهب، وهو قتال الرماة الذين انتقلوا، قال ابن مسعود ما شعرت أن أحداً من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يريد الدنيا، حتى كان يوم أحد نزلت الآية وفى رواية حتى نزل فينا يوم أحد { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } وذلك من حب الدنيا. قال الزبير: والله لقد رأيتنى أنظر إلى خدم هند ابنة عتبة وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير إذ مالت الرماة إلى العسكر حتى كشفنا القوم عنه، يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأوتينا من أدبارنا وصرخ صارخ، ألا إن محمداً قد قتل. وانكفأ علينا القوم، قال صلى الله عليه وسلم
" لا تفتح الدنيا على قوم إلا ألقت بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" . "قال صلى الله عليه وسلم: للأنصار لما تعرضوا له لما سمعوا بقدوم أبى عبيدة مال البحرين: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكنى أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من قبلكم، فتتنافسوا كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم" . قال ابن المبارك: أخبرنا ابن لهيعة قال: حدثنى سعد ابن أبى سعد، "أن رجلا قال يا رسول الله: كيف لى أن أعلم كيف أنا؟ قال: إذا رأيت كلما طلبت شيئاً من أمر الآخرة وابتغيته يسر لك، وإذا رأيت شيئاً من أمر الدنيا وابتغيته عسر عليك، فأنت على حال حسنة، وإذا رأيت كلما طلبت شيئاً من أمر الآخرة وابتغيته عسر عليك وإذا رأيت شيئاً من أمر الدنيا وابتغيته يسر لك فأنت على حال قبيحة"
{ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ }: كفكم عن الكفار وغلبهم عليكم فانهزمتم والعطف على صدقكم الله وعده، وقال أبو البقاء: العطف على جواب إذا المقدرة.
{ لِيَبْتَلِيَكُمْ }: بالمصائب بأن يقتلوا ويجرحوا منكم، فيظهر هل تصيرون عندها على الإيمان، ولا تجزعون؟ أو المعنى لينعم عليكم بالثواب على الصبر، أو أريد ذلك كله عند مجيز استعمال المشترك فى معانيه أو معنييه.
{ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ }: غفر ذنوبكم وهو مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لندمكم عنها والندم توبة، وقد صح أنهم ندموا فلا دليل فيه للأشعرية على جواز غفران الكبيرة، بلا توبة ومتى كانت تباعة انضم إلى الندم قضاؤها، وتفسير العفو بغفران الذنب، أظهر من أن يفسر بعدم استئصالهم.
{ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }: بتفضل عليهم بقبول توبتهم، كما قيل عن هؤلاء الذين خالفوا أمره، صلى الله عليه وسلم، توبتهم، فلا دليل فيه، على أن غير التائب، يسمى مؤمناً، ويجوز أن يكون بالمعنى، إنه يتفضل على المؤمنين بالجنة، أو بزيادة الدرجات، فعد العفو عما أتوه، وتابوا عنه وبنعم الدنيا وإثابتهم على ما أصابهم.