التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
١٦٩
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً }: نزلت فى شهداء أحد عند الجمهور، لما روى عن أبى صالح عن ابن عباس أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه "إنه لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم فى جوف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها ويجاوب بعضها بعضاً بصوت رخيم، لم يسمع الخلائق مثله، وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة فى ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم، قالوا من يبلغ إخواننا عنا إننا أحياء فى الجنة لئلا يزهدوا فى الجنة ولا ينكلوا عن الحرب، يا ليت إخواننا الذين خلقوا من بعدنا علموا مثل علمنا فسارعوا فى مثل الذى سارعنا فيه، فإنا قد لقينا ربنا فرضى عنا وأرضانا فقال الله تعالى: أَنا أبلغهم عنكم ففرحوا واستبشروا، فنزل: { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا }" الآية. وما رُوىَ عَنْ جَابر بن عبد الله الأنصارى أنه قال قتل أبى يوم أحد وترك لى بنات، وروى عيالا، وديناً وفى رواية: "رآنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهتماً حين لقينى، فقال مالى أراك منكسراً فقلت: يا رسول الله استشهد أبى يوم أحد فترك عيالا وديناً. فقال لى رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ألا أبشرك يا جابر؟. قلت: بلى يا رسول الله. قال: إن أباك أصيب بأحد فأحياه الله تعالى وكلمه شفاهاً أى خلق له كلاماً سمعه قال: يا عبد الله سلنى ما شئت. فقال: أسألك أن تعيدنى إلى الدنيا، فأقتل فيك ثانياً، فقال: يا عبد الله قد قضيت أن لا أعيد إلى الدنيا خليقة قبضتها. قال: يا رب فمن يبلغ قومى ما أنا فيه من الكرامة؟ قال الله تعالى - فأنزل الله تعالى هذه الآية { ولا تحسبن }" إلخ. وقيل: نزلت فى شهداء بئر مؤتة، على ما يأتى إن شاء الله، وقيل فى شهداء بدر، وكانوا أربعة عشر: ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار على ما يأتى إن شاء الله فى محله، ولفظ الآية يعم كل شهيد. "قال مسروق: سألنا عبد الله بن عمرو بن العاص عن هذه الآية { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِم يُرزَقُون }. فقال: أما أنا فقد سألت عن ذلك، النبى صلى الله عليه وسلم فقال: أرواحهم فى أجواف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح فى الجنة حيث شاءت، ثم تأوى إلى تلك القناديل فأطلع عليهم ربهم إطلاعه، فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أى شىء نشتهى ونحن نسرح فى الجنة فيما شئنا، ففعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لم يتركوا أن يسألوا، قالوا: يا ربنا تردنا فى أجسادنا حتى نقتل فى سبيلك مرة أخرى. فلما رأى أن ليس لهم حاجة، تركوا" .
وذكر هذا الحديث أيضاً ابن مسعود الأنصارى، والذى فى صحيح مسلم أن مسروقاً سأل عبد الله بن مسعود فأجابه بما مر آنفاً، ولعله سأله وسأل عمرو.
قال بعض المفسرين: أرواح الشهداء أحياء تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة، وخرج أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن حرب صاحب ابن مبارك، فى رقائقه بسنده، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن الشهداء فى قباب من حرير فى رياض خضر عندهم حوت وثور، يظل الحوت يسبح فى أنهار الجنة يأكل من كل رائحة فى أنهار الجنة، فإذا أمسى وكزه الثور بقرنه فيذكيه، فيأكلون لحمه، يجدون فى لحمه طعم كل رائحة، ويبيت الثور فى فناء الجنة، فإذا أصبح غدا عليه الحوت فوكزه بذنبه، فيأكلون لحمه فيجدون فى لحمه طعم كل رائحة، ثم يعودون وينظرون إلى منازلهم من الجنة، ويدعون الله عز وجل أن تقوم الساعة، وعن عبد الله بن عمر:
"مر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين انصرف من أحد على مصعب بن عمر، وهو مقتول، فوقف عليه ودعا له، ثم قرأ: { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم، فوالذى نفسى بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه" . واعلم أن فى بعض الروايات: أرواح الشهداء فى أجواف طير خضر، وفى بعضها: فى حواصل طير خضر، وفى بعضها: أنها تكون طيراً خضراً، فيجمع بين ذلك بأن بعضاً فى أجواف طير، وبعضاً فى حواصلها، أو يراد بالجوف الحوصلة، وبعضاً يصورها الله طيراً، وكذا ورد فى بعض الشهداء أن روحها تكون خارج الجنة، عن كعب بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما نسمة المؤمن طائر يعلق فى شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه فلفظه يعم كل مؤمن" ، وقد قيل بذلك والمشهور أن ذلك فى روح الشهيد ولفظه صريح فى أن النسمة هى الروح، تكون طائراً لافيه، وتعلق بضم اللام: تأكل، وبفتحها: تسرح، وهو والأكثر فى الرواية، قال ابن العربى لا يتعجل الأكل والنعيم لأحد إلا الشهيد فى سبيل الله بإجماع من الأمة، وفى دعوى الإجماع نظر، إذ قيل بتأويل قوله { أحياء } كما يأتى إن شاء الله، وقد قيل بالتعجيل لروح المؤمن مطلقاً بالأكل. قيل فى روح غير الشهداء إنما يملىء عليها قبره خضراً، ويفسح له فيه، فى أرواح غير الشهداء تارة تكون فى الأرض، على أفنية القبور، وتارة فى السماء لا فى الجنة، وقد قيل: تزور قبورها كل جمعة على الدوام، ولذلك يستحب زيارة القبور ليلة الجمعة ويوم الجمعة، ويكره السبت فيما ذكر العلماء، فقد يأتى الإنسان قبر آخر وفيه روحه، وقد يأتيه وليس فيه روحه.
قال صلى الله عليه وسلم:
"ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم كان يعرفه فى الدنيا وروحه فى قبره فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام" . أى والحال أن روحه فى قبره احتراز عما إذا لم تكن فيه. وعنه صلى الله عليه وسلم: "والذى نفسى بيده لو أن رجلا قتل فى سبيل ثم أحيى ثم قتل ثم أحيى ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه" أى فتكون روحه خارج الجنة فإذا قضى دينه دخلت إن كان سعيداً.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم:
"الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية" ولعل الشهداء الذين بباب الجنة من تعلق به حق آدمى كالدين وسائر التبعات، بل يشملها لفظ الدين، وذلك إذا كانت لا يدخل بها النار كتائب لا يجد ما يتخلص به من مال، وكمتدين بلا إسراف، وقيل فى المتدين بلا إسراف: إن مات شهيداً لم تحبس روحه عن الجنة، وأحوال الشهداء طبقات ومنازل مختلفة يجمعها أنهم يرزقون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لشهيد البحر مثل شهيد البر والمائد فى البحر كالمتسخط فى دمه فى البر، وما بين الموجتين كقطع الدنيا فى طاعة الله عز وجل، وأن الله وكل ملك الموت يقض الأرواح إلا شهيد البحر، فإنه يتولى قبض روحه" . والمراد شهيد البحر: من غرق فيه سائراً للجهاد أو لطاعة، ويروى: يغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين، ولشهيد البحر الذنوب كلها والدين، وذلك أن الله يرضى خصمه كما يرضى خصم من لم يترك وفاء ولم يسرف، أو تاب ولا بد من نية الخلاص، قال صلى الله عليه وسلم: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها، أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله" . قال أبو بكر الصديق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول: يا ابن آدم فيم ضيعت حقوق الناس؟ فيم أذهبت أموالهم؟ فيقول: يا رب لم أفسده ولكن أصبت إما غرقاً أو إما حرقاً، فيقول عز وجل أنا أحق من قضى عنك اليوم، فترجح حسناته على سيئاته، فيؤمر به إلى الجنة" وعن بعض العلماء: أرواح المؤمنين كلهم، فى جنة المأوى، وسمعت لأنها تأوى إليها أرواح المؤمنين وهى تحت العرش، يتنعمون بنعيمها، ويتنسمون بطيب ريحها، وهى فى الجنة تسرح وتأوى إلى قناديل من نور تحت العرش، وعلى نحو هذا التنعيم يكون اختصاص الشهداء، بأن لهم ذلك بلا تقدم، كذا فى العبادة لكن لا إصرار لهم. وعن عبد الله بن عمرو: أن أرواح المؤمنين فى طير كالزرازير يتعارفون ويرزقون من الجنة، وعنه: أن أرواح المؤمنين صور طير بيض فى ظل العرش، لعل مراد الأحاديث والصحابة بالمؤمنين: المؤمنين الشهداء. كما روى عبد الله بن أبى يزيد عن ابن عباس: أرواح المؤمنين الشهداء تحول فى طير خضر، أى تصور بصورة طير، وعن كعب ابن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرواح المؤمنين الشهداء طير خضر تعلق فى شجر الجنة" ، ورجح العلماء أحاديث أنها تكون طيراً، على أحاديث أنها فى أجواف الطير، أو حواصلها، وأنكر العلماء فيما قال القابسى: رواية أنها فى حواصل طير، لأنها تكون مضيقة فى الحواصل وهو مشكل، لأن الحكم هنا له بخلافه هنا، كذا الجوف، ولا سيما أنه يحتمل أن فى بمعنى على، كأنه قيل: على حواصلها، أو على بطنها من فوق. أى على ظهرها. وقال شبيب بن إبراهيم: من الأرواح ما هو طائر يعلق من شجر الجنة، ومنها ما هو فى حواصل طير خضر، ومنها ما يأوى فى حواصل طير كالزرازير، ومنها ما هو فى أشخاص صور من صور الجنة، ومنها ما هو فى صور تخلق لهم من ثواب عملهم، ومنها ما يسرح ويتردد إلى جثتها تزورها، ومنها ما يتلقى أرواح المقبوضين، ومن وجه آخر ما يكون فى كفالة ميكائيل، ومنها ما فى كفالة آدم، ومنها ما فى كفالة إبراهيم عليه السلام، وهذا جمع بين أخبار، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "ينعم الله أرواح الشهداء فى الجنة إلى يوم القيامة، فيرد الله أجسادها، فيدخل الجسد والروح فيه الجنة، واختلفوا فى أرواح الشهداء، هل تفنى بقيام الساعة؟ ثم تعود؟ قيل نعم، وقيل لا تفنى، ولا يخفى أن لكل أحد روحاً يختص به فإما أن يصور روح الشهيد بصورة طير، أو يجعل فى طير وقد مر تأويل جعله فى طير، قلت: وعلى صحة ظاهره بلا تأويل فما هو إلا شىء أودعه الله خيراً، وحياة الطير بروح أخرى مختصة به، والروح المودعة فيه تنعم، فلبس ذلك إثباتاً لتناسخ الأرواح، وكذلك أرواح الكفار تعذب، وكذلك أرواح سائر المؤمنين تنعم، ولا سيما أن الروح جسم لطيف" . وقيل: المنعم والمعذب جزء من الجسد، ترد فيه الروح، ولا مانع من أن يصور ذلك الجزء بصورة طائر، أو يودع فى الطائر، أو يجعل فى سجين ولا إشكال فى أن الروح تاكل وتشرب لأنها جسم وقد رجح بعضهم، أن الروح يرجع إلى الجسد فيأكل الجسد لقوله تعالى: { يرزقون } وإن الشهيد لا يبلى فى قبره، وصاحب هذا القول يرد عليه الأحاديث الثابتة فى أن أرواحهم ترعى فى الجنة، أو فى باب الجنة. والحديث يفسر القرآن، وزعم بعض أن معنى الحياة والرزق فى الآية أن أجسادهم ستحيى يوم القيامة ويرزقون وكأنهم أحياء الآن لتحقق الحياة بعد ودنوها، وزعم بعض أن حياتهم بالذكر والدين، كما يقال الكافر والجاهل أنه ميت والقائلان بالقولين يقولان الروح عرض، أو ريح، والحق أن أرواحهم أحياء فى الجنة، أو ببابها، وأن أجسادهم تارة يرجع إليها الروح، وتارة يخرج، وكذا المؤمنون، فهم أحياء فى قبورهم يتنعمون، إذا رجعت إليهم، وإذا لم ترجع تنعمت مجردة فى الجنة، فإن الكفار تعذب فى قبورها، فأولى أن ينعم المؤمن، فإن جانب الرحمة أرجح، قال الله عز وجل: { أغرقوا فادخلوا ناراً } وانظر هل تموت الروح إذا مات الجسد ثم تحيا إلى قيام الساعة، قيل نعم، وقيل تخرج من الجسد حية، فتبقى حية إلى قيام الساعة"، وقال بعض العلماء: يحيى الله أجساد الشهداء، فتصعد إلى فوق السماوات، وإلى قناديل تحت العرش، ويوصل إليها أنواع الخير، وقيل: تترك فى الأرض حية ويوصل إليها النعيم، وما مر فى الأحاديث أولى، ثم أنه لا مانع أن يكون جسم مخصوص سارياً فى جسد الإنسان سريان النار فى الفحم، والدهن فى السمسم، وماء الورد فى الورد، إذا مات الإنسان انفصل عنه، وهو حى بروح الإنسان وهو نفس الروح فهو يتنعم فى الجنة أو حيث شاء الله إلى أن تقوم الساعة، فيرد الله أجزاء الإنسان، فيسرى فيها فيكون حيا فيدخل الجنة وإن أكل السبع أو غيره جسد الحى، أو تفتت على وجه الأرض، فذلك الجسم المخصوص السارى يتنعم الروح مع، أو الروح وحده، ثم يرد الله ذلك الجسد يوم القيامة، ويرد إليه الروح، والخطاب فى قوله تعالى: { ولا تحسبن } لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو الكل من يصلح أن يحسن الدين، قتلوا فى سبيل الله أمواتاً، والذين مفعول أول، وأمواتاً مفعول ثان، وقرئ: ولا يحسبن بالتحتية، والفاعل ضمير مستتر عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الحاسب، والمفعولان: الذين، وأمواتاً أيضاً. ويجوز أن يكون الفاعل { الذين }، والمفعول الأول محذوف، والثانى أمواتاً، أى: ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أنفسهم أمواتاً، وإنما حذف مع أنه عمدة لدلالة المقام عليه، إذا فرضت { الذين } فاعلا، وإنما قلت عمدة لأنه فى الأصل مبتدأ. وقرأ ابن عامر: بتشديد تاء { قتلوا } للمبالغة، أى كثر قتلهم، أى لا تحسبن للمقتولين، وهم كثير أمواتاً والقليل والكثير فى ذلك سواء.
{ بَلْ أَحْيَاءٌ }: أى بل هم أحياء، محذوف المبتدأ، وقرئ بالنصب على أنه مفعول ثان لفعل أمر فى الحساب محذوف مع مفعوله الأول، أى: بل أحسبهم أحياء.
{ عِنْدَ رَبِّهِمْ }: متعلق بأحياء أو بمحذوف، حال من المستتر فى أحياء أو نعت للأحياء على القول لجواز نعت الصفة، أو خبر ثان، والأول أحياء ومبتدؤهما محذوف، أى: هم أحياء عند ربهم، وعند لمكان الحضور، والله سبحانه وتعالى منزه عن الحلول، فمعنى العندية التكريم، والتعظيم، أو الحكم، أى: أحياء فى حكم الله ويجوز تعليقه بيرزقن بعده، أو بمحذوف حال من واو يرزقون، وقوله:
{ يُرْزَقُونَ }: خبر آخر المبتدأ المقدر قبل أحياء، أو حال من ضمير أحياء، أو نعت لأحياء، أو حال من المستتر فى { عند } إذ علقنا { عند } بمحذوف حال، أو نعت أو خبر، والمعنى: يرزقون من الجنة أو فى الجنة.