التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ
١٨١
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ }
وهم اليهود قالوا لما سمعوا قول الله جل وعلا:
{ من ذا الذى يقرض الله قرضاً حسناً } وذلك استهزاء منهم لعنهم الله - برسول الله صلى الله علية وسلم، كيف يطلب الله القرض؟ وإنما يستقرض المحتاج، وتكذيب له علموا وجهلوا أن الاستقراض، الأمر بالطاعة ليثيبهم عليها، وروى أن أبا بكر رضى الله عنهُ مرَّ ذات يوم بمرس اليهود، فوجد فيه ناساً كثيراً من اليهود، وفيهم فنحاص بن عازوراء من علمائهم قد اجتمعوا عليه، فقال أبو بكر رضى الله عنه: يا فنحاص اتق الله واسلم، والله لتعلم أن محمداً رسول الله صلى الله علية وسلم قد جاءكم بالحق من عند الله تجدونه مكتوباً عندكم فى التوراة، فآمن وصدق واقرض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب. فقال فنحاص: يا أبا بكر تزعم أن ربنا يستقرض من أموالنا على أن يعطينا قرضه مع الفضل والربا، وما يستقرض إلا الفقير من الغنى، ولو كان غنيا لما استقرض منا، ولما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر رضى الله عنه، فضرب وجهه ضربة شديدة، فنزلت الآية تصديقاً لأبى بكر رضى الله عنه. زعموا لو كان محمداً رسولا لم يصف الله بالاستقراض المخصوص بالمحتاج المفتقر إليه، وكذا وقع مشركوا قريش فى هذه الشبهة، وروى أنه صلى الله علية وسلم كتب مع أبى بكر رضى الله عنه إلى يهود بنى قينقاع يدعوهم إلى الإسلام، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن يفرضوا الله قرضاً حسناً، فقال فنحاص بن عازوراء: إن الله فقير حتى يسأل القرض؟ فلطمهُ أبو بكر رضى الله عنه على وجهه، وقال: لولا ما بيننا من العهد لضربت عنقك، فشكاه فنحاص فى ضربه إلى رسول الله صلى الله علية وسلم، وجحد أن يكون قد قال إن الله فقير، فنزلت الآية تصديقاً لأبى بكر رضى الله عنه، وتكذيباً لليهودى، والآية وعيد له إذ نسب للكفر، قال عكرمة: نزلت فى أبى بكر وفنحاص، وذلك "أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر إليه يستمده، وكتب إليه كتاباً فتوشح سيفه، فحمل الكتاب وبلغه، وقد قال صلى الله علية وسلم: لا تفاتن على بشىء حتى ترجع ولما قرأ فنحاص الكتاب قال: قد احتاج ربك حتى نمده؟ فهم أبو بكر أن يضربه بالسيف فتذكر قوله صلى الله علية وسلم لا تفاتن.." إلخ وأسند القول لجماعة اليهود، ولو كان القائل فنحاصاً، لأنه حبرهم وأنهم مصوبون له وراضون عنه، وقد قيل: كان معهم حبر آخر يسمى سبيعاً حتى دخل أبو بكر وقال ما قال، وكانت اليهود مجتمعين على فنحاص وسبيع حينئذ وكون القائل، إن الله فقير، هو فنحاص هو قول عكرمة والسدى ومقاتل وابن اسحاق، وقال الحسن: قائل ذلك حيى بن أخطب. وفى رواية عنه وعن قتادة: أن اليهود قالوا ذلك كما مر أول تفسير الآية، ولعل القائلين فنحاص وسبيع وحيى.
{ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ }: ستكتب ملائكتنا ذلك فى كتاب يجمع فيه أعمال الخلق كلهم، فهذا بعد ما كتبته الملائكة فى كتب قائليه، والقائلين بدليل الاستقبال، ولعل الكتب يقع بعد موت رسول الله صلى الله علية وسلم، لأنه خاتم الأنبياء وفى موته حصة لسم اليهودية، والآية من مجاز الحذف، إذ حذف المضاف كما رأيت فى قولى ستكتب ملائكتنا، ويجوز أن يكون مجازاً عقلياً، بأن أسند الكتابة لنفسه لأنه الآمر بها، والكاتب حقيقة الملائكة، ويجوز أن يكون سنكتب بمعنى سنحفظ أى سنحدث ذلك حفظاً آخر، وإلا فهو معلوم لله محفوظ عنده، مرجين عملوه لا يصنع وذلك الحفظ الآخر، هو أن يكتب فى كتاب جميع أعمال الخلق أو جعل الكتاب فى موضع غير موضعه الأول، واستعار لفظ الكتابة للحفظ، مثل أن تشبه حفظ المال بجعله فى البيت والإغلاق عليه بكتابته، لأنه لا ينسى صاحبه بكتابته، ويجوز أن يكون مجازاً مرسلاً استعمالا للمقيد فى المطلق، فالكتابة حفظ مقيد من جملة مطلق الحفظ، ويجوز أن يكون كناية عن المجازاة، أى سنجزيهم ذلك، أى عقابه لذلك، قال سنكتب بالاستقبال، والتنفيس وذلك أن قولهم وقتلهم المذكورين، كفر بالله تعالى، واستهزاء بالقرآن ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسياق الكلام فى قولهم: { إِنَّ اللَّهَ فَقِير } وذكر معه هنا قتلهم الأنبياء تنبيهاً على أن قولهم هذا أول جريمة منهم، ولا جهلهم مقصوراً عليه، بل لهم جرائم وجهالات لا يستبعد معها هذا القول، وأن قاتلى الأنبياء لا يستبعد منهم هذا القول، وقرأ حمزة: سيكتب بالتحتية والبناء للمفعول، ورفع قتلهم على النيابة عن الفاعل، وقرأ الحسن والأعرج: سيكتب بالتحتية والبناء للفاعل، وهو الله - تعالى - وقرأ ابن مسعود وتقدم الكلام فى مثل قتل الأنبياء بغير حق أى علموا أنه باطل، فانظر ما مر، واليهود الذين فى زمانه، صلى الله عليه وسلم لم يقتلوا الأنبياء، لكنهم يسعون فى قتل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسموه وثار عليه السم حين موته فمات به، وقاتل نبى، كقاتل الأنبياء كلهم ورضوا بقتل أسلافهم الأنبياء وصوبوهم، فيكتب عليهم القتل لذلك.
{ وَنَقُولُ }: نأمر الملائكة بالقول، فالتجوز فى الإسناد وتقول ملائكتنا، فالتجوز بالحذف، وكذا ما أشبه ذلك. وقرأ حمزة { يقول } بالتحتية على طريق الالتقات. وقرأ ابن مسعود: ويقال.
{ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ }: أى عذاب النار، فالحريق هنا بمعنى النار أو عذاب الإحراق، فالحريق اسم مصدر: أحرق، والإضافة للبيان، أى ذوقوا تعديباً هو إحراق، أو بمعنى محرق فتكون إضافة موصوف لوصفه أى العذاب المحرق، والأمر بقوله: { ذوقوا } أمر إهانة، فالكلام مؤكد بنون العظمة فى سنكتب، ونقول، وبالكتابة وأمر الإهانة والتحقير، وبالتهكم والاستهزاء إذ كنى عن الاحتراق بالذوق الموضوع لأوائل الأكل، فإن الذوق إدراك المطعوم واستعماله فى إدراك المحسنات والحالات توسع، وناسب هنا فضل مناسبة، لأن العذاب مرتب على قولهم المرتب على البخل بالمال الذى معظم حبه لتحصيل الطعام والشراب.