التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ
٢٣
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ
٢٤
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ }: أى: التوراة و { أل } للعهد و{ من } للتبعيض، لأن ما حصلوا من معانيها، بعض جملة معانيها التى لا يحيط بها إلا الله، ويجوز أن تكون { من } للبيان فيكون النصيب الذى أتوه هو نفس التوراة، ومعنى إيتائها على هذا: أنزلها عليهم، ويجوز أن يكون المراد بالكتاب جنس الكتب التى أنزلها الله، فتكون { من } للتبعيض، والنصيب: التوراة إذ نزلت عليهم، أو ما حصلوا منها، وتنكير نصيب، للتعظيم على كل حال، سواء جعلت من للتبعيض أو للبيان، لأن بعض التوراة أيضاً عظيم، وأجيز أن يكون للتحقير إذا جعلت للتبعيض.
{ يُدْعَوْنَ }: أى: يدعوهم محمد - صلى الله عليه وسلم.
{ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ }: هذه الجملة حال من { الَّذِين }، وكتاب الله: هو القرآن، و{ أل } فيه للعهد الحضورى، وهو أيضاً فى ذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك غير لفظ الأول للإضافة إلى الله، وقرىء بالبناء للمفعول، والفاعل كتاب الله.
{ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } الذين يدعون إلى كتاب الله هم اليهود، والفريق المتولى علماؤهم وأتباعهم، والرؤساء تولوا عن حكم القرآن حال كونهم معرضين، وأسند الحكم للكتاب تجوزاً، لأن ما به الحكم مذكور فيه، ويتولى فريق، جملة معطوفة على { يُدْعَوْن }، وجملة { هُمْ مُّعْرِضُون } حال مؤكدة، وصاحبها فريق، وسوغ مجىء الحال منه وصفه بقوله { مِّنْهُم }.
قال الحسن، وقتادة، وابن حريج: كتاب الله: القرآن، لأنهم قد علموا أنه كتاب الله، ولم يشكوا فيهِ، ولعلمهم بأنه كتاب الله تعالى، كان العطف بـ { ثم } لتدل على بعد الرتبة، بمعنى أن توليهم أمر منكر، مستبعد جداً، لأنهم تولوا عناداً، ورجوعاً عن علمهم بأنه كتاب الله، ولذلك أكد أيضاً بقوله { وهُمْ مُّعْرِضُون }، وإن جعلنا قوله وهم معرضون استئنافاً، كان فيه تأكيداً أيضا، لأن المعنى: تولوا. ومن العادة الراسخة فيهم الإعراض عن الحق، وحكم الله عز وجل وحكم القرآن يرحم المحصن فى قوله تعالى: "الشيخُ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" وكان قد زنى فيهم محصن ومحصنة شريفان فيهم، ولم يقبلوا فيهما هذا الحكم مع أن مثله أيضاً فى التوراة، وعن ابن عباس: زعم اليهود أنهم على الحق، والنصارى أنهم على الحق، فجعل الله القرآن حكماً بينهم، وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم القرآن بأن اليهود والنصارى على غير الهدى، فأعرضوا عنه. وقيل: المراد بكتاب الله: التوراة، روى
"عن ابن عباس - رضى الله عنهما - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل بيتاً تدرس فيه اليهود، فدعاهم إلى الله عز وجل، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد: على أى دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم فقالا: إن إبراهيم كان يهودياً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهلموا إلى التوراة فهى بيننا وبينكم؟" فأعرضا وتوليا وله أتباع، فأنزل الله هذه الآية.
واختار فى الكشاف أن كتاب الله التوراة، وأنه وقع التعادى والاختلاف بين من أسلم من اليهود من أحبارهم، ومن لم يسلم، فدعاهم الله ورسوله إلى الكتاب الذين لا يختلفون فيه وهو التوراة، ليحكم بين المحق والمبطل، فتولى وأعرض من لم يسلم، ويدل له أن الحكم يترتب على خلاف سابق بينهم وروى
"عن ابن عباس أيضاً أن رجلا وامرأة محصنين من أهل خيبر زنيا، وفى التوراة: الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما عندهم، فَرَفَعُوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوا أن يكون عنده فيهما رخصة، فحكم عليهما بالرجم، فقال النعمان بن أوفى، ومحرز بن عمرو: جرت عليهما يا محمد وليس عليهما الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بينى وبينكم التوراة فقالوا: قد أنصفت. فقال: من أعلمكم بالتوراة قالوا: رجل أعور يقال له عبد الله بن صوريا يسكن فدك فى القدس، فأرسوا إليه فقدم المدينة، كان جبريل قد وصفه للنبى صلى الله عليه وسلم، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت ابن صوريا؟ قال: نعم. قال:أنت أعلم اليهود بالتوراة؟ قال: كذلك يزعمون. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة وقال له إقرأ فقرأ فلما انتهى من آية الرجم، وضع يده عليها، وقرأ ما بعدها، فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله قد جاوزها، ثم قام عبد الله بن سلام ورفع عنها كف بن صوريا، وقرأها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى اليهودى فيها أن المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البينة رجما، وإن كانت المرأة حبلى، تربصوا بها حتى تضع ما فى بطنها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باليهوديين فرجما فغضبت اليهود لذلك" ، فنزلت الآية فى، ذَلِكَ، التولى أو ذلك الإعراض، والمعنى واحد، وهو مبتدأ والخبر قوله:
{ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ }: أى بسبب قولهم لن تمسنا إلا أياماً معدودات، لأن تسهيل أمر العقاب وتقليل مدته، سبب للاجتراء على موجبه من المعاصى، وقد قللوا أيام مكثهم فى النار، بذكرها بجمع القلة الذى هو الجمع بألف وتاء، وبذكر العدد، وكانوا يقولون: مدة عذابنا سبعة أيام، عدد الأسبوع، ومنهم - لعنهم الله - من يقول أربعين ليلة، على قدر مدة عبادة العجل. وعن ابن عباس، رضى الله عنهما: زعمت اليهود أنهم وجودا فى التوراة ما بين طرفى جهنم أربعون ليلة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزقوم، وقالوا إنا نعذب إلى أن ننتهى إلى شجرة الزقوم، فتذهب جهنم وتهلك. قال ابن عباس رضى الله عنهما: أصل الجحيم، ضفر، وفيها شجرة الزقوم، فإذا اقتحموا جهنم، تبادروا فى العذاب حتى ينتهوا إلى شجرة الزقوم، فيملئوا منها بطونهم فيقول لهم خازن سَقَر: زعمتم أن النار لن تمسكم إلا أياماً معدودة، وقد خلت أربعون سنة، وأنتم فى النار، ومن زعم أن أصحاب الكبائر يخرجون من النار فقد ضاهى قوله بقولهم، وكذا فى إثباتهم الرؤية سبحان الله تعالى.
{ وَغَرَّهُمْ فى دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُون }: أى غرهم فى دينهم كونهم يفترون، أى يكذبون.
و{ ما } مصدرية، والمصدر فاعل غر، وجىء بالمصدر من { كان } لأنها مصدرا أو دلالة على الحديث عندى، ولعل من يقدره من خبرها، مع قربها واتصالها بما هكذا، وغرهم افترائهم يرى أنها لا مصدر لها، ولا حدث.
والدين الذى غرهم فيه، الدين الذى أنزل الله فى التوارة، أو الدين الواجب عليهم أن يدخلوا فيه وينتسبوا إليه وهو دين محمد صلى الله عليه وسلم الذى أنزل الله فى القرآن، أو مطلق الدين الواجب عليهم، وهو حكم التوراة قبل إنزال ما ينسخه من القرآن، وحكم القرآن بعد نزوله الناسخ لما قبله، والحكم لا ينسخ، كالتوحيد ومعنى كون افترائهم غرهم فى دينهم أنه أوقع لهم الخلل والفساد فى دينهم، الذى اعتقدوه، أو يجب أن يعتقدوه، بأن أضافوا إلى دينهم اعتقاداً زائغاً وكان لا ينفعهم دينهم معه، ذلك أنهم غرهم قولهم: { لَنْ تَمسّسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَات } وقولهم:
{ نحن أبناء الله وأحباؤه } وقولهم: "إن آباءنا الأنبياء يشفعون لنا، وقولهم: إن الله تعالى وعد يعقوب عليه السلام أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم، وقولهم: نحن على الحق وأنت على الباطل، ويجوز كون { إما } إسماً، أى الكلام الذى يفترنه أو كلام يفترونه، وبين الله عز وجل أن ذلك افتراء يزول يوم القيامة، فقال: { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ }.