التفاسير

< >
عرض

قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٦
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ قُلِ اللَّهُمَّ... } الآية: وقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم فى أمته، فأنزل الله لآية فى ذلك، وعداً له.
"وروى أنه صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة رجال أربعين ذراعاً، وأخذوا يحفرون، ظهرت من بطن الخندق صخرة عظيمة لا تعمل فيها المعاول، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخبره فأخذ المعول من يد سلمان، فضربها ضربة صدعها فبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها لكأن مصباحاً فى جوف بيت مظلم وكبر وكبر المسلمون، وقال: أضاءت منها قصور الحيرة، كانها أنياب الكلاب، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لى منها قصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال: أضاءت لى قصور صنعاء، وأخبرنى جبريل أن أمتى ظاهرة عليها كلها، فأبشروا، فقال المنافقون: لا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل، ويخبركم أنه من يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وإنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق، لا تستطيعون أن تبرزوا" . فنزلت الآية. أى والله لكأن، وخبر كأن أى: كأن مصباحاً ظهر ولاتبا المدينة، أرضان بينهما المدينة فيهما حجارة سود، ووجه التشبيه بأنياب الكلاب، صفر قصور الحيرة وانضمامها، وقيل: إن اليهود قالوا: والله لا نطيع رجلا ينقل النبوة من بنى إسرائيل إلى غيرهم، فنزلت الآية. وذكروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: تقاتلون جزيرة العرب فيفتح الله عليكم، وتقاتلون فارساً فيفتح الله عليكم، وتقاتلون الدجال فيفتح الله عليكم، وكان عتبة بن نافع يحلف بالله لا يخرج حتى تفتح الروم.
والميم فى { اللهم } عوض عن حرف النداء، ولذلك لا يجتمعان إلا فى الشعر، أى: يا الله، وشددت لأن { يا } حرفان، وتعويض الميم عن حرف النداء من خصائص هذا الإسم، كما خص أيضاً باجتماع حرف النداء وأل، وكما خص بتاء القسم، وقلت فى غيره كتالرحمن، وتربى، وتحياتك وبقطع همزته فى النداء جوازاً، وهى همزة وصل، وذلك مذهب البصريين. وقال الكوفيون: الميم بقية فعل الدعاء، والأصل بالله أمنا بخير، أى: اقصدنا بخير، فحذف حرف النداء، وحرفت همزة "أم" والمفعول "وبخير" ولو كان كذلك لجاز حذف النداء معه، ولكن ما بعده بالعطف مثل: اللهم واغفر لنا، ولم يسمع، ولعلهم يجعلون ما بعده بدلا.
{ مَالِكَ الْمُلْكِ }: كلهُ فى الدنيا والآخرة، يتصرف فيه بما يشاء تصرف الملاك فيما يملكون، فالأشياء ملك لله تعالى، جعلها بيد غيره، ينتفع به غيره دنيا وأخرى، وقيل: معناه مالك الملك عن الملوك بالإرث منهم بعد أن كان عارية فى أيديهم، يوم لا يدعى أحد الملك، وقيل: معناه مالك الملك الذى بيده الملوك، هو ملك لهن وهو بأيديهم. كما قال تعالى الله:
"أنا الله مالك الملوك، ومالك الملك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدى، فإن العباد أطاعونى جعلتهم عليهم رحمة، وإن هم عصونى جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسبب الملوك، ولكن توبوا إلىّ أعطفهم عليكم"
. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم "كما تكونون يول عليكم" .
و{ مالك }: صفة للفظ الجلالة على المحل، أو منادى بحرف محذوف. وقال سيبويه: لا يوصف الله إذا كانت فى آخر الميم، بل هو منادى بمحذوف والأول مذهب الزجاج والمبرد ووجهه: أنه كما يوصف عند حرف النداء يوصف عند الميم.
{ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَآءُ }: المراد بهذا الملك بعض الملك الأول، إذ لم يعط الله ملك السماوات، وما فوقهما والأرضين، والبحر المحيط، وما وراه أحداً، بل يعطى من يشاء نصيبه فى الملك.
{ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ }: ترده منه لميقات وعدته، فى علمك وقيل: نؤتى الملك محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمته وتنزعه من فارس والروم وقيل: تؤتى الملك محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتنزع الملك من أبى جهل وصناديد قريش، وقيل: تؤتى الملك آدم وذريته، وتنزعه من إبليس وجنوده إذ كانوا فى الأرض مالكين لها قبل آدم، ويبحث فى هذا بأن تؤتى وتنزع إما للحال أو للاستقبال، أو للحال مع الدلالة على التكرير بواسطة عرف العرب فى بعض عبارتهم، إلا أن يقال بمعنى الماضى مجازاً، أو منزل منزلة الحال المشاهد، وقال سعيد بن جبير ومجاهد والسدى: تؤتى النبوة والرسالة وذلك أنهما أعظم مراتب الملك، لأن ملك الأنبياء على باطن الخلق وظاهرهم، ولا يجوز عصيان نبى، ولا يشكل قوله تعالى: { وتنزع الملك ممن تشاء } من حيث أن النبوة أو الرسالة لا ينزعهما الله ممن جعهما فيه، لأن صاحب هذا القول يقول معنى نزعها ممن يشاء، أنهُ نقلها من بنى إسرائيل إلى العرب بعد أن كانت فى بنى إسرائيل، ولأنه يجوز إطلاق النزع على معنىعدم الإعطاء، كما لا يجوز أن تقول لمن لم يكن فى الشرك أصلا أخرجه الله منه أى عصمه عنه، وكما تقول لمن لم يكن فيهِ، لا يعود إليه. وقيل: الملك القدرة، والمعنى: ليست قدرة الخلق على ما يقدرون، إلا بإقدار الله تعالى، فهو قادر على كل قادر، ومقدروه، وعلى كل مالك ومملوكه، وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال:
"من دخل السوق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حى لا يموت بيده الخير وهو على كل شىء قدير.. كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف الف درجة، وينزله بيتا فى الجنة" . وعن على ابن أبى طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن فاتحة الكتاب، وآية الكرسى والآيتين من آل عمران: شهدا لله أنه لا إله إلا هو - وقل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء إلى قوله بغير حساب.. مشفعات فيمن يتلوهن يقول الله تعالى إنه لا يقرأكن أحد من عبادى دَبر كل صَلاَةٍ مكتوبة، إلا جعلت الجنة مأواه وإلا أسكنته حضرت قدسى، وإلا قضيت لهُ كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة" ، ومعنى مشفعات بفتح الفاء: مقبولات الشفاعة، أو مصيرة شافعات.
{ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَآءُ }: إعزازه فى الدنيا أو فى الآخرة، أو فيهما بالنصر والتوفيق.
{ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَآءُ }: إذلاله كذلك بالخذلان، وقد أعز الله سبحانه وتعالى محمداً صلى الله عليه وسلم، وأصحابه وأمته، وأذل المشركين من العرب واليهود والنصارى والفرس، وغيرهم وذلك على عمومة. وقيل: المراد يعز محمداً صلى الله عليه وسلم بالنبوة والرسالة، ويذل اليهود بالجزية. وقيل: تعز المهاجرين والأنصار، وتذل فارساً والروم، وقيل: تعز محمداً وأصحابه إذ دخلوا مكة فى عشر آلاف ظاهرين عليها، وتذل من تشاء أبا جهل وأصحابه، قتلوا وألقوا فى قليب بدر يوم بدر، وقيل: تعز من تشاء بالطاعة، وتذل من تشاء بالمعصية. وقيل: تعز من تشاء بالغنى، وتذل من تشاء بالفقر. وقيل: تعز من تشاء بالقناعة والرضا، وتذل من تشاء بالحرص والطمع.
{ بِيَدِكَ الْخَيْرُ }: كله. ومنه الخير الذى يحسدنى عليهِ اليهود والنصارى ويجوز أن يكون الخير هو ما حسدوه عليه، وعلى كل حال خص الخير، لأن الكلام فيه وللأدب فى الكلام مع الله تعالى، وإلا فالخير والشر بيده تعالى والخير حسدوه عليه النبوة والرسالة، وفتح القرى والغنيمة والنصر.
وقدم { بِيَدِك } للحصر، أى فى قدرتك لا فى قدرة غيرك، ويجوز أن يراد بالخير: كل أفعال الله من نافع وضار، لأن فعلهُ كله حكمة وجميل، ويجوز أن يكون ذكر الخير وحده، لأن الله تعالى قضاء بالذات سبقت رحمتهُ غضبه، وخلقهُ ودعا إليهِ عباده، وأباح لهم دنيوية، والشر مقتضى بالفرض، خلقه ونهى عنهُ، إلا ترى أنه لا يوجد شر جزء إلا وقد تضمن خيراً كلياً، فخلق آلة القطع ليتوسل بها إلى الله فى طاعة، وخلق الكفار والخنازير لنقتلهم، فنؤجر إن شاء الله، وخلق المعصية لنهى عنها، وهكذا ودخل الشر فى قوله عز وجل أيضاً.
{ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }: من الإعزاز والإذلال وإتياء الملك ونزعه وغير ذلك.