التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٧
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ }: القرآن منه.
{ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ }: مصونة عن الإجمال والالتباس، والاحتمال اسم مفعول، أحكم أمرا أتقنه عن كذا.
{ هُنَّ أمُّ الكِتَابِ }: أى أصله يرد إليها غيرها من المتشابه مثل قوله تعالى
{ لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } فإنه محكم، وقوله { إلى ربها ناضرة } متشابه يحتمل النظر إلى ذاته، ويحتمل انتظار ثوابه، فيحتمل انتظار الثواب، ردا إلى قوله { { لا تدركه الأبصار } ومثل قوله تعالى { { لا يأمر بالفحشاء } فإنه محكم.
وقوله:
{ أمَرْنَا مُتْرَفيها } مشتبه، أمرناهم بالفسق أو الطاعة، فيجمل على الأمر بالطاعة ردا إلى قوله تعالى: { { لا يأمر بالفحشاء } وإنما لم يقل أمهات لأن الكل بمنزلة آية واحدة، أو لاعتبار أن كل واحدة منهن أم الكتاب.
{ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ }: عطف على { آياتٌ مُحْكَمات }، أى: محتملات، أو مجملات، أو ملتبسات، لا تظهر إلا بالبحث، الشديد لتعارضها مع أخرى، أو أمر عقلى، وأخر جمع آخر، وأخرى اسم يدل فى الأصل على التفضيل، لأنه مؤنث، اسم التفضيل فى الأصل وهو آخر بمد الهمزة وفتح الخاء، فإن أصل معنى أخر وأخرى، ما هو أزيد فى التأخير فى صفة أو فعل، أو المكان أو الزمان، ثم استعمل فى تغاير الذات للأخرى، فلخروجه عن معناه وعن التفضيل أيضاً صار يطابق ما هو لهُ، ولو لم يعرف بأل، ولم يضف لمعرفة، فإنك لا تقول: امرأة فضلى فالأفضل: وتقول: المرأة الفضلى، أو كذا فى التثنية، والجمع تقول: نساء أفضل، والنساء الفضل، فقيل: أخر - بضم الهمزة وفتح الخاء - معدود عن الآخر، كذلك بأل، بمعنى أن مطابقته لما هو لهُ فى الجمع، والتأنيث يناسبه أن يعرف بأل، وخص المعرف بأل، لأن اسم التفضيل المعرف بها يجب أن يطابق، بخلاف المعرف بالإضافة، وإنما قلت والتأنيث لأن الفعل فى الجمع، بضم ففتح مخصوص بالمؤنث، وقيل: معدود عن لفظ آخر بالمد، للهمزة، والفتح للخاء، وهو بالإفراد والتذكير، وإن قلت: هَلاََّ كان القرآن كله محكماً؟. قلت: كان فيه المتشابه، لأن كلام العرب إما ظاهر صريح، وإما غيره ككناية، وتلويح وهو مستحسن، فاشتمل القرآن عليهما إذ نزل بلغة العرب، وليقف المؤمن عند المتشابه، ويرده إلى الله، ويرتاب المنافق، كما ابتلى بنو إسرائيل بالنهر، وليقوى الثواب، باستخراج معناه لمعربته، ولأنه لو كان كله محكماً، بقى الإنسان فى الجهل والتقليد، لعدم الحاجة فى الحكم إلى الدلائل العقلية، وليفتقر إلى تحصيل ما تقوى به معرفته من النحو، والتصريف، واللغة، وأصول الفقه، او لأن طباع الناس تتوانى أكثر الأمر عن إدراك الحقائق، والقرآن مشتمل على عدم الخاص والعام، فخوطبوا بما يناسب ما توهموا، وقرن بما يدل على الحقيقة من التوحيد، مثلا فدال الحقيقة محكم، والموهم مشتبه، فإن من قرع أذنه أن الله ليس بجسم، ولا متحيز، ولا حال، ولا مشار إليه، توهم العدم وخوطب أولا بألفاظ، يثبت لهُ بها اعتقاد الوجود، وقد قال بعض أصحابنا: ذلك لمشبه. فقال: المشبه لهُ ما يزيد على ذلك منكره ماذا يقول..؟ فأجابه ذلك البعض، بان يقول مثل ما قال المشبه، فيكون قد أنكر الله، يعنى أن من شبه الله بجعله جسما، أم متحيزا، أو مشار إليه، أو حالا، فقد جعله من جنس المخلوق، ملبس بخالق، فقد أنكره، تعالى عن ذلك.
ولا ينافى قوله { وأُخَرُ مُتشَابهاتٌ } قوله:
{ كتاب أُحْكِمَتْ آياتُهُ } لأن معنى إحكام آياته فى هذه الآية: صونها من فساد المعنى واللفظ، ولا يشكل أيضاً قوله تعالى: { كتاباً متشابهاً } لأن معناه أن بعضه شبه بعضاً فى صحة المعنى، وبلاغة اللفظ، ويشبه ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور متشابهات" أى هى حلال تشتبه على الرجل يظنها حراماً وبالعكس، وما فسرت به المحكم والمتشابه، هو قولى وقول بعض أصحابنا وقول الشافعى، وقال ابن عباس: المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ. وكذلك قال ابن مسعود وقتادة والسدى والضحاك.
وعن ابن عباس: المحكمات قوله تعالى:
{ قُلْ تَعَالَوْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُم } إلى آخر الآيات الثلاث، ومثلها: { وقَضَى رَبُّكَ } إلخ الآيات الثلاث بمعنى أنها مشتبهة فى كل كل شريعة لا تقبل النسخ، وقال مجاهد: المحكم ما فيهِ الحلال والحرام، والمشتبه غيره، يشبه بعضه بعضاً، ويصدق بعضه بعضاً وقيل: المحكم ما أطلع الله عباده عليه، فأحكموه أى: أتقنوه. والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، كوقت الدجال تتعينه، والساعة، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - وطلوع الشمس. وقيل: المتشابه ما أبهم أوائل السور، كألف: الم، والر، والمر، والمص وغيره محكم، وبه قال مقاتل، وعن ابن عباس: المتشابه ما فيه تقديم وتأخير أو قطع ووصل، أو خصوص وعموم، "قال ابن عباس: قال حيى بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما من اليهود - لعنهم الله - للنبى صلى الله عليه وسلم: بلغنا أنه أنزل عليك (آلم) فانشدك الله أنزلت عليك؟ قال: نعم. قال: إن كان ذلك حقاً فإنى أعلم مدة ملك أمتك هى واحد وسبعون عاماً، فهل أنزل عليك غيرها؟ قال: نعم المص. قالوا: فهذه أكثر هى واحد وستون ومائة فهل أنزل عليك غيرها؟ قال: نعم المر قالوا: فهذه أكثر هى مائتان وواحد وثمانون، فهل غيرها؟. قال: نعم المر. قالوا: هذه أكثر، مائتان وواحد وسبعون، ولقد اختلط علينا فلا ندرى أبكثيره نأخذ أم بقليله، ونحن لا نؤمن بهذا، فنزل: { فأمَّا الَّذيِنَ فِى قُلوبِهِمْ زَيغٌ }" . وقيل: المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه كإعداد الصلوات، واختصاص الصيام برمضان دون شعبان، وقيل: المحكم ما لم تتكرر ألفاظه، ومقابله المتشابه. وقيل: المحكم، الفرائض، والوعد والوعيد، والمتشابه: القصص والأمثال. وقيل: المحكم ما وضح معناه والمتشابه ما خفى، ولو من حيث اللغة، ومرجع الضمير والإشارة. وقيل: المتشابه ما استأثر الله بعلمه، كقيام الساعة، والحروف المقطعة، وأوائل السور.
{ فَأمَّا الّذِيِنَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيغُ }: ميل عن الحق، بإنكاره، وبالشك فيه، وقيل: المراد وفد نجران الذين خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم الكلام عليهم. وقيل: الذين أظهروا التوحيد، وأضمروا الشرك. قلت: الظاهر أن المراد كل من يريد من المشركين وغيرهم فى دين الله فيلبس عليهم بمجتملات القرآن مثل: أن يستدل المجيرة بقوله تعالى:
{ { وَجَعَلْنَا عَلى قُلُوبِهِمْ أكنّةً أن يَفْقَهُوهُ وفى آذانِهِمْ وَقْراً } ومثبت الرواية بقوله: { { إلى ربِّها ناظرةٌ } وقوله تعالى: { { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ من فَوْقِهِمْ } وقوله { علَى العَرْشِ اسْتَوى } إذا ذكر ذلك يريد إدخاله فى قلوب الناس فقد طلب إدخال فساد الاعتقاد فى قلوبهم، وإن يقصد ذلك فقد سعى أيضاً فى إدخال الفتنة فى قلوبهم. وقيل: هم يهود طلبوا معرفة بقاء مدة هذه الأمة من الحروف أوائل السور.
روى
"عن جابر بن عبد الله أنه مر أبو ياسر سفر بن أخطب فى رجال من يهود، برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلو فاتحة سورة البقرة: { ألم. ذلك الكتَابُ لا رَيْبَ فِيِِه } فَأتىَ أخاه حُيَىّ بن أخطب فى رجال من اليهود، فقال: تعلمون والله، لقد سمعت محمداً يتلو فيما أنزل عليه { الم. ذلك الكتاب } فقال: أنت سمعته؟ قال: نعم، فمشى حيى فى أولئك النفر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ألم نذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك، ألم ذلك الكتاب؟. فقال صلى الله عليه وسلم: بلى. فقالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء، ما نعلمه بين لنبى منهم ما ملكه وما أجل أمته غيرك، الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، أفتدخل فى دين نبى إنما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون ثم قال: يا محمد هل مع هذا غيره. قال: نعم المص قال: هذه أثقل وأطول: الألف واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والصاد تسعون فهذه إحدى وستون ومائة سنة، هل مع هذا غيره؟. قال: نعم الر. قال: هذا أثقل وأطول: الألف واحد، واللام ثلاثون، والراء مائتان هذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة، هل مع هذا غيره؟. قال: نعم المر. قال هذه أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والميم أربعون، والراء مائتان، هذه إحدى وسبعون ومائتا سنة، ثم قال: لقد لبس علينا مرك حتى ما ندرى أقليل أعطيت أم كثير؟ ثم قال: قوموا عنه، ثم قال أبو ياسر لأخيه ومن معه: ما يدريكم؟ لعلهُ قد جمع هذا لمحمد، إحدى وسبعون، وإحدى وستون، ومائة وإحدى وثلاثون، ومائتان وإحدى وسبعون،ومائتان، فذلك سبع مائة وأربع وثلاثون سنة. فقالوا: لقد تشابه علينا أمره" وفيهم نزلت هذه الآيات:
{ فَيَتَّبِعُوَن مَا تَشَابَهَ مِنْهُ }: مثل أن يفسروا بما يناسب اعتقادهم الفاسد، أو بما يوقع الخلل والوهن فى الدين، أو يقولوا لمكان النسخ: هلا كان بلا نسخ؟ ولم قال كذا؟ ولم يقل كذا؟ ولم يكرر الكلام الواحد مرتين وثلاثاً وأربعاً؟ ونحو ذلك مما مر من الأقوال فى تفسير المتشابه.
{ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ }: طلب الشرك والفكر عند الربيع، والكلبى، أو طلب الشبهات ليضلوا جهالهم. وبه قال مجاهد والحسن، أو طلب إفساد ذات البين، بإلقاء الخلاف بينهم.
{ وابْتِغَاءَ تَأْويِلِه }: وطلب التأويل الذى يشتهونه، فعن ابن عباس والكلبى فى رواية عنه، طلبوا مدة بقاء محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته. وقيل: المراد طلب الكفار المنكرين للبعث، متى يبعثون، وكيف إحياؤهم؟ وقيل: اليهود سألوه تعنتاً متى البعث؟ وكيف الإحياء؟.
ثم إن المراد إما أنهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة تارة، وابتغاء تأويله تارة. وهذا يلائم الجاهل، وإما أنهم يتبعونه لمجموع ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فهذا يناسب المعاند.
والتأويل: تفعيل من آل يؤول، أولم بمعنى: رجع. فالتأويل تصير اللفظ إلى معنى بالتفسير، مع الصرف عن ظاهرها، وافق الحق أو لم يوافق.
قال سليمان بن يسار أن رجلا يقال له صبيغ، قدم المدينة، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فأرسل إليه عمر وقد عدله عراجين النخل، فقال: من أنت؟. قال: أنا عبد الله صبيغ. فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى أدمى رأسه. وفى رواية: فضربه بالجريدة حتى ترك ظهره دبره. ثم تركه حتى برئ، ثم عاد ثم تركه حتى برئ، فدعا به ليعود، فقال: إن كنت تريد قتلى فاقتلنى قتلا جميلا، فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبى موسى الأشعرى ألا يجالسه أحد من المسلمين.
وأما من علم المحكم ثم طلب المتشابه، حرصا على العلم فلا بأس، وكتاب الله تعالى. فإن الله تعالى إنما ذم من كان غرضه تتبع المتشابهات المفسدة يقصدها فيكون كالمشركين الذين يقترحون على رسلهم آيات غير ما جاءوا به تعنتاً وعناداً، وظنا أنهم يؤمنون إذا جاء رسلهم بما اقترحوا.
{ وَمَا يَعْلَم تأوِيلَهُ إلاّ اللهُ }: أى ما يعلم تأويله الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله.
{ والرّاسِخُونَ }: أى الثابتون.
{ فى العلِمْ يَقُولُونَ آمنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنّا }: الراسخون مبتدأ، ويقولون خبر. أخرج ابن أبى حاتم عن أبى الشعثاء جابر ابن زيد -رحمه الله - وأبى نهيك، أنهما قالا: إنكم تصلون هذه الآية، وهى معطوفة بمعنى أنه ليس الراسخون معطوفاً على لفظ الجلالة، وما ذكر عن جابر هو المشهور، وهو مذهب جمهور الصحابة والتابعين ومن بعدهم، والأشعرية وهو أصح الروايات عن ابن عباس. أخرج عبد الرزاق والحاكم أن ابن عباس كان يقول: وما يعلم تأويله إلا الله، ويقول الراسخون فى العلم آمنا به، وهذا تفسير يكون الواو للاستئناف. وابن عباس ترجمان القرآن، فيقدم تفسيره وفيه قال صلى الله عليه وسلم:
"اللهم فقهه فى الدين، وعلمه التأويل" . فالوقف على لفظ الجلالة، ويدل بذلك أن الآية صريحة فى ذم منتفى المشابه، ووصفهم بالزيغ، وابتغاء الفتنة، وفى مدح الذين فوضوا العلم إلى العلماء، وسلموا إليه، كما مدح اله من آمن بالغيب.
وكذلك حكى الفراء أن أبى بن كعب يقرأ ويقول: الراسخون فى العلم آمنا به. وكذلك قال الأعمش إن ابن مسعود يقرأ: { وإن تأويِله إلا عند الله والراسخون فى العلم آمنا به }
"وعن عائشة رضى الله عنها: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الآية { هُوَ الَّذىِ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَاب } إلى قوله { أُوْلُواْ الأَلبَابِ } فقال: إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فاحذرهم" ، والمراد ذم الداخلين فى المتشابه.
قال أبو مالك الأشعرى: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"لا أخاف على أمتى إلا ثلاث خلال: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغى تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله"
وروى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً، فما عرفتم منهُ فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به" ففيه إشارة إلى أن الراسخين يقتصرون على قولهم: آمنا به.
وعن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن من سبعة أبواب على سبعة أحرف: زجر، وأمر، وحلال، وحرام، ومحكم، ومتشابه، وأمثال؛ فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، فافعلوا ما أمرتم به، وانتهوا عما نهيتم عنه، واعتبروا بأمثاله، واعملوا وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنا به، كل من عند ربنا" . ومثله عن أبى هريرة، وعن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال، وحرام، لا يعذر أحد بجهالته، وتفسيره تفسير العلماء، ومتشابهه لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى علمه سوى الله فهو كاذب" . وعن ابن عباس - موقوفاً: نؤمن بالمحكم وندين بهِ، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به، وهو من عند الله كله أى لا نطيع الله بالعمل لأنا لا نعلمه. وعن عائشة رضى الله عنها، موقوفاً: كان رسوخهم فى العلم أن آمنوا بمتشابهه ولا يعلمونه. وعن عمر بن الخطاب رضى الله عنه: سيأتيكم أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. قيل: وكفى بدعاء الراسخين فى العلم: { { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذ هَدَيْتَنَا } شاهد على أن { والرّاسِخُونَ } مبتدأ.
وحاصل ذلك أن الراسخين لا يعرفون معنى المتشابه، وقالت طائفة منهم مجاهد: أنهم يعرفونه. فيكون { الراسخون } معطوفاً على لفظ الجلالة وهو رواية عن ابن عباس. قال مجاهد عن ابن عباس فى قوله تعالى: { لا يَعْلَمَ تَأويِلَهُ إلاّ الله ُوالرّاسِخُونَ فى العلِم }، أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله. قال مجاهد: والراسخون فى العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به. وعن الضحاك: الراسخون فى العلم يعلمون تأويله، لو لم يعلموا تأويله لم يعلموا ناسخه من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمه من متشابهه. واختاره النووى قال فى شرح مسلم: إنه الأصح، لأنه يبعد أن يخاطب الله عباده بما لا سبيل لأحد من الخلق، إلى معرفته. وكذا ابن الحاجب: إنه الظاهر، قال ابن السمعانى: لم يذهب إلى هذا إلا شرذمة قليلون، وقد يجمع بين روايتى ابن عباس: إن المتشابه ثلاثة أضرب، ضرب لا سبيل إلى معرفته كالساعة وخروج الدابة، وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ العربية والأحكام يظهر فيها القلق لمن لم يقو علمه، وضرب متردد بين الأمرين يختص بمعرفته بعض الراسخين فى العلم، ويخفى على من دونهم كما قال صلى الله عليه وسلم فى ابن عباس رضى الله عنهما
"اللهم فقهه فى الدين وعَلِّمه التأويل" وفى الحديث إشارة إلى أن المراد بالراسخين عام. وقيل: الراسخون فى الآية مؤمنوا أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام.
وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الراسخين فى العلم، فقال:
"من برّت يمينه وصدق لِسَانُهُ واستقام قَلْبه وعَفَّ بَطْنه فذلك الراسخ فى العلم" .
وسئل مالك عن تفسير الراسخين، فقال: العالمون العاملون بما عملوا، المتبعون له - يشير إلى الحديث المتقدم - قال الله تعالى: { { إنمَّا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَماءُ } فإن من لم يخش الله ليس بعالم.
وقيل الراسخ فى العلم من وجد في علمه ربعة أشياء: التقوى فيما بينه وبين الله، والتواضع فيما بينه وبين الناس، والزهد فيما بينه وبين الدنيا، والمجاهدة فيما بينه وبين النفس.
والهاء فى قوله { آمنا به } عائدة إلى ما تشابه كهاء تأويله، أى: آمنا به أنه من الله ولا نعلم معناه، أو مع علمنا إياه على الخلاف المذكور.
ويجوز عود الهاءات إلى الكتاب كهاء "منهُ"، ومعنى { كل من عند ربنا } كل واحدة من المحكمات والمتشابهات، من عند ربنا.
وإذا عطفنا { الرَّاسِخُونَ } إلى الله فجملة { يَقُولُونَ } مستأنفة، أو حال من الراسخون.
{ وَمَا يَذَّكَّرُ }: يتذكر أبدلت التاء دالا مهملة، ثم المهملة معجمة، وأدغمت فى المعجمة، وقيل: أبدلت التاء دالا فعجمت وأدغمت.
{ إلاَّ أوُلُوا الأَلْبَابِ }: أصحاب العقول، مدح الراسخين فى العلم بأنهم يتعظون دون غيرهم، لكونهم أصحاب قلوب مخصوصة، بجودة الذهن، وحسن النظر، وبالتجرد عما يغشى نورها من الحواس، كنظر الشهوة، واستعمال الباطل، وأكل الحرام، بذلك توصلوا إلى معرفة المتشابه إن عرفوه. وإنما جىء قوله تعالى { هُوَ الَّذىِ أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَاب } الآية بعد قوله
{ هُو الَّذِى يُصَوِّرُكُمْ فِى الأرْحَامِ كيْفَ يَشَاءُ } لأنه فى تصوير الأرحام بالعلم وتربيته، كما أن قوله { هو الذى يصوركم } إلخ، فى تصوير الحسد وتسويته، ولأنه رد على النصارى فى قولهم عيسى ابن الله؛ إذ تشبثوا بما نزل فى غير القرآن، كالقرآن أن عيسى كلمته ألقاها إلى مريم، اشتبه عليهم هذا - لعنهم الله - فقالوا: ابنه، وما علموا أن المصور، بكسر الواو، غير الأب، وبالفتح غير إله.