التفاسير

< >
عرض

مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ
٧٩
-آل عمران

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ }: أن العلم المأخوذ من كتاب الله وفسر بالسنة.
{ وَالْنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّى مِنْ دُونِ اللَّهِ } لتبرئته رسول الله صلى الله عليه وسلم مما رموه به، وتصديقه، وكذلك قال ابن عباس رضى الله عنهما: فالْبَشر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والكتاب والقرآن - كذا قيل عن ابن عباس. فتنكير بَشَرٍ للتعظيم، والأظهر أن المراد عموم البشر المنزل عليهم الكتاب والحكم والنبوة، فالتنكير للعموم. ولعل ابن عباس أراد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملة البشر المؤتين الكتب، والحكم، والنبوة، وأن كتابه القرآن، كما أن كتب سائر الأنبياء التوراة والإنجيل والزبور وغيره، وذكر الفخر الزارى عن ابن عباس أن الآية نزلت بسبب قول النصارى: المسيح ابن الله، واليهود: عزير ابن الله أفقيل أن نصارى نجران قالوا: أمرنا عيسى أن نعبده ونتخذه ربا فنزلت الآية وقيل
"قال رجل: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: لا ينبغى أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله" ، وعلى كل حال فمعنى الآية أنه لا يمكن أن يقول من له كتاب وحكم ونبوة: كونوا عباداً لى، لأن الكتاب والحكم والنبوة يمنعن من ذلك.
{ وَلَـكِنْ كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ }: أى لكن يقول البشر المؤتى الكتاب، والحكم، والنبوة: كونوا عارفين بربكم مواظبين على طاعته، نسبة إلى الرب، والألف والنون بعد الموحدة من زيادة النسب للمبالغة فى كمال المعرفة بالله والمواظبة على طاعته، وكذلك فسره سيبويه، وقال المبرد: الربانيون نسبة إلى ربان، وهو من يربى الناس، أى يعلمهم وينصحهم، وزيدت الألف والنون، فى الوصف الذى هو ربان للمبالغة فى تربية الناس بالعلم. وقال ابن عباس والحسن: المعنى كونوا فقهاء علماء، وعنهُ كونوا فقهاء معلمين، وقيل: حكماء حلماء. وقال البخارى: الربانى يربى الناس، بصغار العلم قبل كباره، وقيل: العالم الذى يعلم بعلمه، وقيل: العالم بالحلال والحرام، والأمر والنهى، وقيل: الذى جمع بين علم البصيرة والعلم بسياسة الناس، ولما مات ابن عباس، قال محمد بن الحنفية: اليوم مات ربانى هذه الأمة، وقيل: الربانى الذى يصلح الناس، يقال: ربهُ يربهُ أصلحه.
{ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ }: بسبب علمكم ودرسكم العلم، فإن من علم كتاب الله ودرسه ودرس العلم ولم يكن ربانيا عاملا بما علم ودرس، ضاع علمه ودرسه ولم يحصل به منهما عند الله شىء وانقطع النسب بينه وبين ربه إذ لم تثبت النسبة بلفظ ربانى إلا للتمسك بطاعته وكان مثله مثل من غرس شجرة حسناء تؤنفه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها. و"ما" مصدرية فى الموضعين. وقرأ غير نافع وابن كثير ويعقوب وأبى عمر: { تعلمون } بضم التاء وفتح العين وكسر اللام مشددة، وتعلم: على الأول متعد لواحد بمعنى تعرف، وعلى الثانية الاثنين للتشديد والمفعول الأول محذوف، أى تعلمون الناس الكتاب، وقرئ: { تعلمون } بفتح التاء والعين واللام المشددة، والأصل على هذا تتعلمون، حذفت إحدى التائين، ومعنى تدرسون تقرأون والمفعول محذوف، أى تدرسونه، أى الكتاب أو تدرسون العلم، وقرئ: { تدرسون } بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء مشددة، وذلك مبالغة، ومفعوله واحد مقدر - كما مر - وتعديه فله مفعولان أى تدرسون غيركم العلم أو تدرسونه أى الكتاب غيركم، أى تحملونهم على الدرس، وقرئ بضم التاء وإسكان الدال وكسر الراء للتعدية فمفعولان مقدران، كما مر. وقرئ تدرسون بفتح التاء والدال والراء المشددة، أى تتدرسون فحذفت إحدى التائين، وحاصل القراءة مدح العلم والدرس وإفادة العلم، وطلب العلم والدرس، وإنهما سبب للانتساب للرب والكمال. قال أبو الدرداء: الأخيار العالم والمتعلم، وعن ابن سعود أنه قال: تعلم العلم قبل أن يقبض فإن ذهاب العلم أن يقبض أهله، فإن أحدكم سيحتاج إلى غيره، أو يحتاج إليه، فإنكم ستجدون قوماً يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم، وإياكم والبدع والتنطع، وعليكم بالعتيق، أى بالعلم الخالص أو بالعلم السابق، وهو القرآن والسنة، وفى لفظ: وعليكم بالآثار. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
"لا تقوم الساعة حتى يرفع العلم، فقال زياد بن لبيد: يا رسول الله صلى الله عليك وسلم أيرفع العلم ونحن نقرأ القرآن أبناؤنا ونساؤنا؟ فقال: ثكلتك أمك قد كنت أعدك من فقهاء أهل المدينة أوليس كتاب الله عند اليهود والنصارى؟ فما أغنى عنهم أن ذهاب العلم ذهاب العلماء " . وعنه صلى الله عليه وسلم: "هلاك أمتى عالم فاجر، وعابد جاهل، وشر الأشرار جبار العلماء، وخير الخيار خيار العلماء" .