التفاسير

< >
عرض

وَٱلطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ
١٩
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ ٱلْحِكْمَةَ وَفَصْلَ ٱلْخِطَابِ
٢٠

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَالطَّيْرَ } عطف على الجبال أي وسخرنا الطير وهو اسم جمع طاير وقد يطلق على الواحد* { مَحْشُورَةً } أي مجموعة اليه لتسبح معه وتسبيح الجبال هنا والطير حقيقة كذا قيل ومر فيه (ويسبحن) حال من الجبال وانما لم يقل مسبحات لتستحضر لصيغة المضارع الحال الماضية ويدل على الاستمرار التجددي بدل من (مسبحات) ما دام مسبحاً وإذا سكت سكتن فاذا ابتدأ ابتدأن و (محشورة) حال من الطير وانما لم تراع المطابقة بين الحالين حيث جيء بالأول بصيغة المضارع الدالة على التدريج وبالثاني باسم الفاعل الدال على الثبوت لأن الحشر جملة أدل على القدرة من الحشر بالتدريج؛ وقرئ، { والطير محشورة } بالرفع على الابتداء والاخبار* { كُلٌّ } من الجبال والطير وداود { لَّهُ } أي لله { أَوَّابٌ } أي رجاع الى طاعته بالتسبيح أو كل من الجبال والطير له أي لداود أي لأجل تسبيحه رجاع الى الله وهذه دلالة على المداومة في التسبيح بعد دلالة بقوله عز وجل { { إِنا سخرنا الجبال } .. الخ. على الموافقة فيه وقد علمت أنه اذا رجع الضمير في (له) لداود على تقدير مضاف أي لتسبيحه كما هو قول فرقة فالمراد بكل داود الجبال والطير واذا رجع الى الله كما هو قول فرقة أخرى فالمراد بكل داود والجبال والطير { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي قويناه بالحرس والجنود.
قال ابن عباس: كان أشد جنود الأرض سلطاناً أي قوة كان يحرس محرابه الذي يتعبد فيه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل وقيل قويناه بالهيبة والنصرة مع كثرة الجنود.
روي عن ابن عباس: (أن رجلاً من بني اسرائيل ادعى على عظيم من بني اسرائيل انه سلبه بقره فسأله داود فجحد فسأل الآخر البينة فلم تكن فقال: قوما حتى أنظر فى أمركما فأوحى الله الى داود فى منامه أن اقتل المدعي فقال: هذه رؤية ولست أعجل عليه حتى أثبت فأوحى اليه مرة أخرى في منامه كذلك ولم يفعل فأوحى اليه مرة ثانية فى منامه كذلك أن يقتله أو تأتيه العقوبة فأرسل اليه داود فقال: أوحي اليّ أن أقتلك واني قاتلك لا محالة، فقال: يا نبي الله علام تقتلني وقد اغتصبني بقري؟!
فقال: ان الله أمرني بقتلك. فقال الرجل: يا نبي الله ان الله لم يأمرك بقتلي لأجل هذا الذي ادعيت عليه واني لصادق فيما ادعيت، ولكني كنت اغتلت أباه وقتلته ولم يشعر بذلك أحد فأمر به داود فقتل واشتدت لذلك هيبة بني اسرائيل له فأظهر الله بسبب أمره بقتله أنه القاتل فليقتل والا فليرد ولا يخفى أن المراد بالملك جميع ما وهب له من قوة وجند ونعمة وقرئ (وشددنا) بتشديد الدال للمبالغة والزيادة فى الشدة* { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ } أي القوة أو الاصابة فى الأمور أو كمال العلم واتقان العمل* { وَفَصْلَ الْخِطَابِ } وفصل الخطاب أي تمييز الحق من الباطل أو الكلام المبين بكسر الياء، وقال قتادة: شاهدان على المدعي أو يمين المدعى عليه، وقال مجاهد: هو اصابة القضاء وفهمه، ويراعى فيه مظان الفصل والوصل والعطف والاستئناف والاضمار والاظهار والحذف والوصل عطف جملة على أخرى والفصل ترك العطف للجملة وقيل: (فصل الخطاب) الكلام الذي ليس مختصراً مخلاً ولا مشبعاً عملاً ككلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل الكلام الذى لا حصر فيه لصاحبه ولا ضعف.
وقال ابن مسعود: علم الحكمة والبصر بالقضاء والفهم وكذلك قال ابن عباس. وقال عليّ: هو ان البينة على المدعي واليمين على المنكر لان كلام المتخاصمين ينقطع ويتفصل بذلك وقيل: الشهود والأيمان وقيل هو السلسلة التي أعطيها يعرف بها المحق من المبطل تدلت من جهة السماء من الصخرة ورأسها عند محراب داود وحلوقها مفصلة بالجوهر وقضبان اللؤلؤ الرطب قوتها قوة الحديد ولونها لون النار لا يحدث في الهواء حادث الا صلصلت فيعلم داود عليه السلام ولا يمسها ذو عاهة الا برئ وكانت علامة دخول قومه فى الاسلام يمسونها بأيديهم ويمسحوا أكفهم على صدورهم ويناله من له الحق حتى أنكر رجل لآخر جوهره فعمد الى عصى فنقرها وجعل الجوهرة فيها ومد يده اليها صاحبها فنالها وقام المنكر وأعطى العصى لصاحب الوديعة وهي الجوهرة ليمسكها ليحفظها فتناول السلسلة بعد أن قال اللهم ان كنت تعلم أن هذه الوديعة التى يدعيها أنها وصلته فقرب من السلسلة فتعجب الناس وشكوا فيها وأصبحوا وقد رفعت.
وكان عمر بن الخطاب اذا اشتبه عليه أمر الخصمين قال: ما أحوجكما الى السلسلة وقيل هو قول الانسان بعد حمد الله والثناء عليه (أما بعد) اذا أراد الشروع في كلام آخر وأول من قاله داود وقيل آدم وبسطه في حواشي النحو وسمى (فصل الخطاب) لانه يفصل المقصود عما سبق من نحو حمد وصلاة ويسمى بذلك ولو قلنا أنه ليس المراد فى الآية وهو من محسنات البديع ويسمونه اقتضاباً أى اقتضاعاً وانتقالاً من كلام غير مقصود بالذات الى مقصود مع مراعاة المطابقة بينهما وهو قريب من التخلص وحيث انتقل مع عدم المطابقة فاقتضاب غير قريب منه وهكذا في غير (أما بعد)