التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَٱلأَرْحَامَ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً
١
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ }: خطاب لأهل مكة، ويشتمل غيرهم بالمعنى، أو هو خطاب للناس مطلقاً، كقوله تعالى: { يا بنى آدم }، دخل فيه أهل مكة، وهذا الوجه أولى لعمومه لفظاً ومعنى، والخصوص يحتاج لدليل ويناسب العموم فضل مناسبة، قوله تعالى:
{ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ }: إن تخَالِفُوا أمْرَه أو نهْيَهُ.
{ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ }: هى آدم، والمراد بالنفس الشخص، والتأنيث فى واحدة باعتبار لفظ النفس، ولا يدخل فى الخطاب من مات قبل نزول الآية لأن الميت لا تكليف عليه ولا أمناً حوى لذلك لقوله
{ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }: حواء، وكانت كغيرها فى الخلق منه، إلا أن الخلق منه ثلاثة: خلق من لحمه ودمه وعظمه، وهو خلق حواء عليها السلام، إذ خلقت من ضلعه القصير الأيسر، وخلق من نطفته، وهو خلق آدم أولاده، من صلبه، وخلق بالتفرع من فروعه، وهو خلق سائر الناس، وأيضاً لم يدخل حواء فى الخطاب، لأنه يلزم أن يكون آدم خلق من نفس، ويكون خلق الزوج وبث الرجاء والنساء داخلين فى قوله { خَلَقَكُمْ مِّنْ نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } فيكون ذكرهما بعده تكراراً، وما ذكرت من كونهما مخلوقة من الضلع هو الصحيح المشهور، وورد به الحديث الصحيح بروايات منها ما لفظه هكذا
"إن المرأة خلقت من ضلع، فإن ذهبت مقيمها كسرتها، وإن تركتها وبها عوج استمتعت بها" . وعن ابن عباس: خلق الله آدم وحشا فى الجنة وحده، ثم نام فانتزع الله إحدى أضلاعه القصيرة من شماله. وقيل: من يمينه خلقت منه فى نومه. قال ابن مسعود وابن عباس رضى الله عنهما: فى الجنة. وقال ابن إسحاق ووهب وكعب الأحبار: فى الدنيا قبل أن يحمل إلى الجنة فلما استيقظ وجدها بجانبه، قال: من أنت؟ قالت المرأة: خلقنى الله لتأنس إلى، فأنس بها لأنها منه. وعن مجاهد: لما استيقظ وجدها بجنبه، فقال: أفى أفى؟، وأفى بالعبرانية: المرأة. وزعم بعض: أنها لم تخلق من جسم آدم، وإنما خلقت من طينة فصلت من طينته على أن يقدر مضاف فى قوله: { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } أى وخلق من جنسها زوجها، وبه قال أبو مسلم الخولانى وجعله كقوله تعالى: { والله خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِِكُمْ أزْوَاجاً } أى من جنس أنفسكم، وقوله تعالى: { إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } وقوله تعالى: { لَقَدَ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ } ولا دليل ولا دليل على هذا القول، بل يرده الحديث، وقوله تعالى: { مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة } إذا لو خلقت حواء من غير آدم لكنا مخلوقين من نفسين، وكون من الابتداء لا يصح جواباً، لأن ابتدائنا على ذلك القول يكون من نفسين لا من نفس واحدة، وجملة { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } معطوفة على { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَة } أو على نعت محذوف، أى: من نفس واحدة خلقها وخلق منها زوجها، مجملة { خلقها } نعت لـ { نفس } ويجوز كونها حالا لها.
{ وَبَثَّ }: فرق ونشر فى الأرض.
{ مِنْهُمَا }: أى من النفس الواحدة وزوجها وهما آدم وحواء، رجالا كثيراً ونساء كثيراً، حذف وصف النساء بالكثرة اكتفاءاً بوصف الرجال بها من حيث إنه إذا كان الرجال كثيراً، فأولى أن تكون النساء أكثر لأنهن مزارع الرجال حارثون، وأرض المزارع أكثر من الحارثين، ولظهور كثرة النساء على الرجال بالمعاينة والسماع، وعدم ذكر كثرتهن إشارة إلى أن اللائق بالمرأة السترة والخمول، ولم يقل رجالا كثيرة أو رجالا كثيرين لأن كثير بوزن فعيل، وفعيل والمصادر كصهيل ودبيب، والمصدر يصلح للقليل والكثير، بلفظ واحد، أو لأن رجالا ولو كان جمعاً لكنه بمعنى نوع أو فريق أو جنس أو نحو ذلك، فساغ إفراد الوصف وتذكيره، والموصول من أجل صلته يكون كالمشتق وتعليق الحكم بالمشتق يوذن بعليته فقد أعلوا الأمر بالتقوى، بخلقنا من نفس واحدة، وبتفريق الرجال الكثير، والنساء من آدم وحواء، ووجه ذلك تعليق أن ذلك الخلق والبث أمر عظيم، دليل على القدرة العظيمة، ومن قدر على ذلك، قدر على كل شىء فمهما يقدر عليه عقاب من لا يتقى الله، وإن النظر فى ذلك الأمر العظيم، يؤدى إلى أن يحترم القادر عليه، وتتقى مخالفته، وإن ذلك دليل على أنه المنعم، فالحق أن يتقى كفر النعمة وذلك تمهيداً لإيجاب حق الأرحام، وإشارة إلى عقاب قاطعها، ووجه ذلك أنه أخبرنا أنكم متصلون من أب واحد وأم واحدة. وقرئ: { وَخَالَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا }: وباث منهما:
{ رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً }: بوزن اسم الفاعل من خلق وبث، فيكون { زوجها } مفعولا به، لـ { خالق }، و{ رجالا } مفعولا به لـ { باث } وإنما نصبا المفعول به لأنهما للحال المحكية، ولو كانا إخباراً عما مضى فقط، أو اعتبر فى البث أنه للحال حقيقة، لأن البث لما ينقطع، وهما خبر لمحذوف أى وهو خالق منها زوجها، وباث منها رجالا كثيراً ونساء.
{ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ }: أى اتقوا عذاب الله بأداء الفرض، وترك ما نهى عنه، وقطع الأرحام، فالأرحام معطوف على الله، على حذف الإضافة، كأنه قيل: اتقوا عذاب الله، وقطع الأرحام وأصل { تساءلون }: تتساءلون بتائين أبدلت الثانية سيناً، وأدغمت فى السين والمعنى: يتساءل بعضكم بعضاً به، يقول بالله أفعل كذا أو لا تفعل كذا، أو افعل كذا لوجه الله، أو لا تفعل لوجه الله. وقيل: الأرحام معطوف على محل الهاء الذى هو النصب، لأنها مفعول، وصل إليها العامل بالحرف الجار فيكون المعنى: تساءلون به وبالأرحام تقولون أفعل كذا لله أو أفعل كذا للرحم، أو نحو ذلك، وهذا القول للكوفيين إذ أجازوا العطف على المحل الذى لا يظهر فى الفصيح، وغيرهم يمنع ذلك، ويدل لهم قراءة عبد الله ابن مسعود: تساءلون به وبالأرحام، ويجوز أن يكونا تساءلون لموافقة المجرد، لا على التفاعل ويدل له قراءة عبد الله بن مسعود: تساءلون بتاء واحدة وإسكان السين وهمزة الألف متصلة باللام، مضارع تساءل الثلاثى أى تساءلون غيركم، وقراءة بعض: تساءلون بفتح السين مخففاً يليه ألف فلام، وهى كقراءة ابن مسعود إلا أنه قلب الهمزة ألفاً، وقرأ عاصم وحمزة والكسائى: تساءلون بفتح السين غير مشددة وبعدها ألف وبعد الألف همزة وهو من أوزان الفاعل، كقراءة الجمهور إلا أنهم حذفوا إحدى التائين، واختار القاضى أنها الثانية، وقرئ: والأرحام بالجر عطفاً على محل المجرور المضمر المتصل، بلا إعادة للجار، وفى قراءة هذا القارئ ضعف لعدم إعادة الجار والضمير المجرور المتصل مع جاره، ككلمة واحدة، فالعطف عليه بلا إعادة، كالعطف على جزء الكلمة واختار ابن مالك جواز ذلك. والفخر واسبعا قصى وهو مذهب الكوفيين، إلا أن صحت عنه صلى الله عليه وسلم، ويدل لمعناها قراءة ابن مسعود المذكورة، فذلك أولى من أن يقال حذف الجار وبقى عمله، وقيل: قوله { والأرحام } بالجر قسم، أى أقسم الله بالأرحام، على حذف مضاف، إنكم تساءلون بالله. وقرئ والأرحام بالرفع أى: والأرحام كذلك تساءلون بها، أو: والأرحام مما يجب أن يتقى. وفى الآية دليل على جواز السؤال بالله، إذ ذكره عنهم وأمرتهم عليه. قال البراء بن عازب: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع منها: إبرار القسم، أى بقضاء حاجة من سالك بالله، وقال صلى الله عليه وسلم:
"من سألكم بالله فأعطوه" وفى ذكر الأرحام مع ذكر الله فى أمر التقوى، أو السؤال دلالة على عظم صلة الرحم، قال صلى الله عليه وسلم "الرحم معلقة بالعرش، تقول ألاَمَنْ وصلنى وصلة الله، ومن قطعنى قطعه الله" . وعن عبد الرحمن بن عوف: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله سبحانه وتعالى: إنى خلقت الرحم وفتقت لها اسماً من اسمى، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته" . وعن أبى هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وما من شىء أطيع الله فيه، أعجل ثواباً من صلة الرحم وما من عمل عصى الله به عجل عقوبة من البغى واليمين الفاجرة" ... وعن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة وصلة الرحم يزيد بهما فى العمر ويدفع بهما المحذور والمكروه" . وقال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة على ذى الرحم الكاشح" قال الحسن: إذا سألك بالله فاعطه، وإذا سألك بالرحم فاعطه والرحم حجة عند العرش. ومعناه ما روى عن ابن عباس رضى الله عنه "الرحم معلقة بالعرش فإذا أتاها الواصل ظهرت لهُ وكلمته، وإذا أتاها القاطع احتجبت عنه". وعنه صلى الله عليه وسلم: "تخيروا لنطفكم" . قال ابن عيينه يقول لأولادكم، وذلك أن يضع ولده فى الحال لم تسمع قوله { واتَّقُواْ اللهَ الَّذِى تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرحَامَ } وأول صلة الولد أن يختار له الموضع الحلال لا يقطع رحمه ولا نسبه، فإنما للعاهر الحجر، ثم يختار الصحة ولا يضعه موضع سوء يتبع شهوته وهواه بغير هدى من الله، وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يبسط عليه من رزقه وينسئ فى أثره، فليصل رحمه" أى يؤخر له أجله، أى أطال الله عمره، أو بارك له على وفق ما سبق فى الأزل الأول لعلم الله تعالى، فإنه يصل رحمه، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة قاطع" . قال سفيان: يعنى قاطع الرحم، والآية دالة أنه من ملك ذا رحم منه عتق عليه لأن تملكه استخدام واستخدامه يوحشه.
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }: أى حافظاً لا يغفل عن خلقه، والمراد لأمن ذلك وهو أنه لا يخفى عنه شىء من أمر خلقه فهو حقيق أن تتقى خيانته، إذا كان يعلم كل ما فعلوا فيجازيهم عليه خيراً أو شراً، وروى أن رجلا كان يتيماً ولما بلغ، أتى من عنده ماله، فقال له: أعطنى مالى فأبى. فنزل قوله تعالى: { وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ }.