التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً
١٠١
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا }: وقرىء بضم التاء وكسر الصاد واسكان القاف بينهما من الاقصار، وقرأ الزهرى بضم التاء وفتح القاف وكسر الصاد مشددة من التقصير.
{ مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا }: أى اذا سافرتم فى الأرض، والسفر فى البحر مثل السفر فى الأرض، وغير السفر كالسفر، ولكن ذكر السفر لأنه مظنته الخوف، والآية فى صلاة الخوف، فليس عليكم ميل عن الحق فى التقصير من الصلاة بحسب الامكان، كقراءة آية واحدة فى الركعة بعد فاتحة الكتاب، وعدم الترتيل، وتعظيمة واحدة، وتسبيحة واحدة، وكالصلاة بالايماء وذلك للغد وكصلاة ركعتين من أربع اذا كان فى الحضر، وواحدة من اثنتين اذا كان فى السفر، وذلك مع الامام، وذلك كله لمن خاف أن يفتنه الذين كفروا، أى أن يبلوه بقتل أو ضرب أو ينالوه بمضرة.
وأما صلاة السفر فليست مأخوذة من الآية، والله أعلم، بل من السنة مثل قول ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بين مكة والمدينة ركعتين لا يخاف الا الله، وفى لفظ خرج من المدينة الى مكة لا يخاف الا رب العالمين، فصلى ركعتين، ومثل قول حارثة بن وهب الخزاعى: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين أكثر ما كان الناس وآمنهم، ولعل فى حجة الوداع.
ومثل ما ذكروا عن
"رجل أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله انى رجل تاجر أتجر الى البحرين، فكيف تأمرنى بالصلاة؟ قال: صل ركعتين" ، ومثل خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة الى ذى الحليفة فصلى بهم ركعتين يعلمهم صلاة السفر، ومثل قول عمر رضى الله عنه: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم، ومثل قول عائشة رضى الله عنها: "أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فأقرت فى السفر وزيدت فى الحضر" هذا مذهبنا، ومذهب ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، والسدى وأبى حنيفة، فلو صلى المسافر أربعا لم تجزه، وقيل: الأصل أربع فنقص منها للسفر ركعتان ترخيصا، وأنه لو صلى المسافر أربعا لأجزته، وأنه أولى من القصر، وقيل القصر أولى، ومذهب أبى حنيفة كمذهبنا، اذ قال: القصر فى السفر تحريمه غير رخصة لا يجوز غيره، واحتج من قال بذلك أيضا بأن ابن عمر أقام ثمانية عشر شهرا بمكة بقصر الصلاة.
وقال الحسن: مضت السنة أن يقصر الصلاة المسافر ولو عشرين سنة ما لم يتخذ البلد الذى هو فيه وطنا، وأقام صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين ليلة يقصر، وفيه أيضا أن التقصير من السنة، واحتج من قال: أن الصلاة أربع ونقص للمسافر ركعتان، وأنه يجوز له أربع وهو مذهب الشافعى ومجاهد وطاوس وأحمد بما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتم فى السفر، وبما روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت:
"اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة الى مكة حتى اذا قدمت مكة قلت: يا رسول الله بأبى أنت وأمى قصرت. وأتممت وصمت وأفطرت، فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب علىَّ" ، وبما روى عن عثمان كان يتم ويقصر، وبما روى "أنه صلى الله عليه وسلم قال فى صلاة السفر لعمر: انها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " .
واختلفت الرواية عن مالك: روى عنه ابن وهب أن المسافر مخير فى القصر والتمام، وقاله الأبهرى وحذاف أهل مذهبه، وقال جمهورهم: ان القصر هو السنة، قال ابن سحنون وغيره: القصر فرض، وفى مدونة مالك أنه أتم فى السفر، أعاد فى الوقت، وأكثر علماء الأمة أن القصر فى السفر واجب، وبه قال عمر، وعلى، وابن عباس، والحسن، وجابر بن زيد، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، وهو أصح الرواية عن مالك.
وقيل: يجوز للمسافر القصر والتمام، والقصر أولى ونسبت للشافعى، وأحمد، وعثمان، وسعد بن أبى وقاص، وحد السفر عندنا فرسخان، لأنه أقبل ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قصر فيه والفرسخ ثلاثة أميال، وهو اثنا عشر ألف ذراع، فذلك أربعة وعشرون ألف ذراع، والميل أربعة آلاف ذراع، قال جابر بن زيد لعمرو بن دينار: قصر فى عرفة، وذلك لكون عرفة بعد الفرسخين المذكورين لا لما فهم عنه قومنا أنه قال له ذلك، لكونه يرى القصر فى السفر، ولو قصر اللهم الا أن أرادوا أنه يسمى ما دون الفرسخين سفرا، ويدل لذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج الى ذى الحليفة فصلى صلاة السفر، وذلك هو الفرسخان، نعم أجاز بعض العلماء القصر قبلهما لمن أراد السفر البعيد ثلاثة أيام.
وعن داود وأهل الظاهر يجوز القصر فى السفر القصير والطويل ولو دون الفرسخين، لأنه قد ضرب فى الأرض، ومثل ذلك هو مروى عن أنس، وينبغى حمل كلام أنس فى السفر القصير على الفرسخين المذكورين، وقال الأوزاعى: لا يجوز الا فى السفر الطويل مسيرة يوم، وكان ابن عمر وابن عباس فيما قيل يقصران ويفطران فى مسيرة أربعة بُرد، وهى ستة عشر فرسخا، ونسب لمالك وأحمد واسحاق، ويقرب منه قول الحسن والزهرى، أن التقصير فى مسافة يومين، ونسب للشافعى وهو قول عن مالك يقال: مسيرة ليلتين قاصرتين ستة عشر فرسخا، كل فرسخ ثلاثة أميال، فذلك ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمى، والميل ستة آلاف ذراع، والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة معتدلة، والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات.
وقال أبو حنيفة والكوفيون: لا قصر فى أقل من ثلاثة أيام، وذلك ستة برد، والليالى للاستراحة، والمدار على المسافة، فلو مشى فى يوم مسيرة ثلاثة أيام يقصر، وكذا سائر الأقوال المرجع فيها الى حصول المسافة، ولو فى مدة يسيرة، وكذا لو تباطأ فى السير لم يعتبر الزمان، بل المسافة، فلوا بقى أياما كثيرة لأتم حتى يقطعها، واذا كانت الأرض يدور فيها الطريق اعتبر الدوران وقصر، ولو كان تقطع فى وقت قليل لو لم تدر، وقد علمت أن البريد أربعة فراسخ، وأن الفرسخ ثلاثة أميال، وذلك بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذى قدر أميال البادية، كل ميل اثنى عشر ألف قدم، وهو أربعة آلاف خطوة، فان كل خطوة ثلاثة أقدام، القدمان وآخر بينهما وعن عمر: يقصر فى كل يوم، وعن ابن عباس: اذا زاد السفر على يوم وليلة قصر، وعن أنس: يقصر فى خمسة فراسخ.
وروى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة: اذا سافر الى موضع يكون مسيرة يومين قصر، وكذا عن أبى يوسف ومحمد، ومن سافر فى معصية قصر كمن سافر فى طاعة أو مباح عندنا وعند أبى حنيفة، وقال جمهور الأمة: انه لا يقصر فى سفر يعصى به، وعن عطاء: لا قصر الا فى سفر طاعة، وقد علمت أن صلاة السفر ليست من الآية، بل من السنة، وأجمعت عليها الأمة، وزعم داود الطاهرى الى أن جواز القصر مخصوص بحال الخوف، لقوله تعالى: { إِنْ خِفْتُمْ } وزعم أن خبر الآحاد ان عمل به كان رافعا لهذا الشرط، فيكون ناسخا للقرآن، وهو لا ينسخه، ونحن نقول: ذلك اجماع وأحاديث ألحقت عدم الخوف بالخوف لا نسخ.
وداود يزعم أن القصر من الآية، وكذا روى عن عمر وابنه أنه منها قال يعلى: من أمته، قلت لعمر بن الخطاب: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد أمن الناس؟ فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:
" "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " أى التزموها فمن لم يقصر صدق عليه أنه لم يقبلها كذا نقول نحن وأبو حنيفة، وقال غيرنا المعنى اعتقدوا جوازه، لأن التصدق يناسبه، فلو لم يقصر لجاز، وكذا يدل له نفى الحرج فى الآية، وبذلك قال الشافعى.
الجواب: أنه ليس كلما نفى الحرج دل على عدم الوجوب، لأن الانسان قد يتوهم حرمة الشىء وهو واجب، فينزل الله تعالى أنه لا حرج فيه فافعلوه حتما، كما صح أن العمرة واجبة، وهذا كله متبادر منه أن الصلاة السفرية منقوصة الحضرية، ولكن قد يعبر بالقصر من يقول: أن صلاة السفر أصل نظرا الى نقص عددها عن الأربع، ونجيب عن قول عائشة: قصرت وأتممت بأنها، والله أعلم أرادت أنها قصرت بعد حد السفر، وأتمت قبل حده وبعده شروعها فى السير له، وكذا ما روى أنه صلى الله عليه وسلم أتم فى السفر، وقد صح أنه مضت السنة أن يقصر المسافر، ولو طالت المدة فما قبل ذلك مؤول كما رأيت أو منسوخ بوجوب الاتمام، فمن صلى مسافرا أربعا بطلت عندنا، لأنه دخل الصلاة بنية غير جائزة الا ان صلى خلف مقيم، وادعى أبو حنيفة أنه ان صلى المسافر أربعا ولم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته، لاتصال النافلة بها قبل كمال أركانها، وان قعد آخر الركعة الثانية قدر التشهد أجزأته والأخريان نافلة، وأساء بتأخير السلام، وليس كذلك عندنا، لأنه لم ينو النفل من أوله، بل نوى أولا الأربع كلها فرضا، ولو نوى أولا الأخريين نفلا لصح الأوليان فرضا على قول من لم يوجب التسليم، فيكون التسليم بعد للنفل، أو من بعد الأخريين بمنزلة ما يزيد المصلى بعد تمام التحيات التى للتسليم، فيكون التسليم للفرض.
ومثل ما روى عن يعلى بن أمية، ما روى عن عبد الله بن خالد بن أسيد أنه قال لابن عمر: كيف تقصرون الصلاة وقد أمنتم، والله يقول: { إِنْ خِفْتُمْ }؟ فقال ابن عمر: يا ابن أخى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا ونحن فى ضلال مبين، فعلمنا فكان فيما علمنا أن نصلى ركعتين فى السفر، وأمرنا بهما. قلت: الأمر المجرد للوجوب، وما لجعل قرينة على عدم الوجوب من تأويلة، ولعل من أخذ صلاة السفر من الآية جعل قيد الخوف لبيان الواقع، ولكون الغالب الخوف حينئذ، فلا مفهوم له، فصح القصر فى عدم الخوف لأنه صلى الله عليه وسلم قصر فى الأمن أيضا، وهذا غير خارج عن كون الشرط قيدا لكن لا مفهوم له.
وزعم أبو حنيفة أن عدم الشرط لا يفيد عدم المشروط له، بل وجوده يفيد مجرد ثبوت الحكم، فاذا قلت: ان قام زيد قمت أفاد أنك قائم لا بد أن قام زيد، وأما ان لم يقم فقد يحتمل أن تقوم، وأن لا تقوم، والأدلة هنا أفادت أنه يقصر المسافر أيضا ولو لم يخف، واذا جعلنا القصر من الآية فقد تم الكلام فى قوله تعالى:
{ إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِيناً }: وما بعده مستأنف فى صلاة الخوف السفر والحضر، لا فى مجرد القصر، والجملة مستأنفة تعليلية، كأنه قيل: لأن الذين كفروا أى أشركوا أو يعم الشرك والنفاق، يقول الله: لعلمى بعداوة الكفار لكم أبحت لكم القصر أو صلاة الخوف، والعدو يطلق على الجماعة والواحد والاثنين، وقرأ ابن مسعود: أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم باسقاط قوله: ان خفتم أى لئلا يفتنكم، أو كراهة أن يفتنكم، وقد جاء لفظ كره فى وصف الله كحديث: أن الله كره لكم ثلاثا، وغير هذا الحديث، وأما على قراءة: ان خفتم فان يفتنكم مفعول لخفتم، ويجوز تقدير الخوف فى قراءة اسقاطه، هكذا أن تقصروا من الصلاة خائفين أن يفتنكم، ومفعول تقصروا على القراءتين محذوف موصوف بقوله: من الصلاة، أى أن تقصروا شيئا من الصلاة، ومن تبعيضية، وأجاز الأخفش زيادة من فى الاثبات والتعريف، فيكون الصلاة عنده مفعول تقصروا ومن زائدة، ويخبر الوجه الأول.
وقيل: صلاة القصر مأخوذة من الآية، وتم الكلام عليها فى قوله تعالى: { أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } واستأنف فى صلاة الخوف قوله: { إِنْ خِفْتُمْ } ويدل ما روى عن أبى أيوب الأنصارى أنه لما نزل قوله تعالى: { واذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ومضى حول سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل: { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِيناً }.