التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَأَنْتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن ٱلْغَآئِطِ أَوْ لَٰمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً
٤٣
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى }: بنوم أو خمر.
{ حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ }: فى صلاتكم، فـ { حتى } للتعليل لا للغاية لأن الغاية يقيدها جملة الحال وهى قوله تعالى { وَأَنْتُمْ سُكَارَى }، وجعلها القاضى للغاية، وقال الضحاك: المراد قوله { وَأَنْتُمْ سُكَارَى }. قال صلى الله عليه وسلم:
"إذا نعس أحدكم وهو يصلى فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدرى لعله يذهب يستغفر ربه فيسب نفسه" السكر من النوم. وقال جمهور الصحابة والتابعين: المراد السكر من الخمر لأن سبب الآية الخمر كما مر فى قوله: { يسألونك عن الخمر والميسر } وقد يرجح هذا فيحمل عليه النوم، أو تحمل الآية على العموم كما رأيت، وذلك أن السكر يفهم بضم السين وإسكان الكاف يستعمل فى النوم والخمر أخذاً من سكر الماء بفتحهما، وهو سد مجراه لانسداد مجارى الروح إلى الحواس الظاهرة بالنوم أو بالخمر، وقيل: المراد بالصلاة مواضعها، والكلام مجاز سواء أريد نعس الصلاة أو موضعها، فأما على الأول فلأن القرب حقيقة بالقرب إلى محسوس من الأجسام، فشبهت بمحسوس من الأجسام، لأن بدن الإنسان بحس وتعلم به. وأما على الثانى فلأن موضعها غير مذكور، بل يقدر مضاف كما رأيت أو تطلق على محلها. والذى عندى أن الحمل على نفس الصلاة أولى، لأنه سالم من الحذف، والقرب للصلاة قريب من الحقيقة، إن لم يقل قائل: إن القرب للأفعال حقيقة فى العرف العام، فعلى الأول لا يجوز للجنب أن يدخل المسجد أيضاً كما لا يصلى لورود النهى فى الحديث عن دخوله المسجد، ولفظ الآية فهى السكران عن الصلاة، فيكون نهياً لهُ عما لا طاقة لهُ على فعله أو تركه على العمد للأفعال، والجواب أنهُ قد يبقى له ما يميز به، كما يروى أنه ينشد الشعر ويعرف ما يغيظهُ من الكلام، فهذا هو المخاطب وأن المراد النهى عن الإفراط فى الشرب الذى هو سبب لقرب الصلاة فى سكر، وألف سكارى للتأنيث وهو جمع سكران، وقرئ بفتح السين فألفهُ للتأنيث أيضاً لكن فيه على هذه القراءة منهى صيغة الجموع، وقرئ سكرى بفتح السين وإسكان الكاف جمع سكر بفتحها وكسر الكاف كزمن وزمنى أو مفرد، أى وأنتم جماعة سكرى، وبضمها وإسكان الكاف مفرد أيضاً كحبلى، أى وأنتم جماعة سكرى، كما يروى كسلى وكسلى بإسكان السين مع ضم الكاف أو مع فتحها.
{ وَلاَ جُنُباً }: عطف على جملة الحال لأن المعنى: لا تقربوا الصلاة سكارى، والجنب ذو الجنابة، وهو يطلق على الجمع والمفرد المؤنث وغيرهما كالمصدر، وسمى من أجنب جنباً لأن الجنابة لغة البعد، ومن أجنب بعيد عن الصلاة والصوم والمسجد وتلاوة القرآن، الطهارة مطلقة على الصحيح عندنا وعند الحنفية وهو قول ابن عباس.
{ إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ }: استثناء من جنباً متصل، أى: إلا ذاهبين فى سبيل بالسفر غير واجدين الماء، فحينئذ تصلون بالتيمم رافعاً للجنابة، أو مبيحاً للصلاة، طهارة ضرورية عند الشافعى فيما قيل، وربما ذلك لفظ الآية على أن التيمم مبيح، إذا أفادت أنكم تصلون بالجنابة كما قيل، والتحقيق أنها لا تفيد ذلك، بل مثل ذلك يفيد أنكم جنب قبل التيمم، وأما بعده فلا جنابة، لأنهُ بدل الغسل، ويجوز أن يكون { إلا عابرى } نعتاً لجنباً، ظهر الإعراب فى عابرى، وفسر الشافعى الصلاة بمواضعها، فجعل العبور عبوراً فى المسجد، وجعله جائز لمن يعبر فيه، ولا يمكث وهو خلاف الظاهر مع ورود النهى عن اتخاذ المسجد طريقاً، ومع ورود الحديث فى نهى الجنب عن دخول المسجد بلا تخصيص عابر. قال صلى الله عليه وسلم:
"وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإنى لا أجد المسجد لحائض ولا جنب" . ولا يخفى أن الآية على العموم، وعابرى على العموم، وأنه ليس المراد فيها عابرى سبيل عليا وحده ولا عليا ومن كان مثله فى كون بيته فى المسجد، ولو روى أنه صلى الله عليه وسلم أنه أباح لنفر من الأنصار بيوتهم فى المسجد أن يمروا فيه جنباً إلى الماء ولا ممر لهم سواه، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد أن يمر فى المسجد ويجلس فيه وهو جنب إلا لعلى لأنه بيته فى المسجد، أو بمعنى الواو أباح لهُ المرور والجلوس، وللنفر المرور الصحيح أن العبور فى سائر الأرض بالسفر، وإن التيمم ينفع الجنب الذى لم يجد الماء للصلاة. وأجاز أبو حنيفة المرور فيه للجنب، إذا كان فيه الماء أو الطريق إلى الماء ولا طريق إلى الماء سواه.
{ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ }: غاية لقوله ولا جنباً، ويلحق بالسكر فى المعنى اشتغال القلب عن الصلاة بأمور الدنيا فإنه سكر، ويلحق الجنب فى المعنى البعد عن الحق بجهل أو هوى، أى جردوا أنفسكم عن ذلك لتقيد صلاتكم، وأجاز أحمد المكث فى المسجد للجنب إن اغتسل غسل الوضوء، يعنى إن توضأ وضوء الصلاة، وبه قال المزنى من أصحاب الشافعى، ويرده حديث
"وجوه هذه البيوت.." إلخ وقد مر آنفاً، روته عائشة، وإن الاغتسال يتبادر منه غسل الجنابة، لا الوضوء، وأجاب بأن فى سند الحديث مجهولا، بل قال عبد الحق: لا يثبت من قبل إسناده، واستدل بما روى عطاء بن يسار أنه رأى رجالا من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يجلسون فى المسجد جنباً إذا توضئوا وضوء الصلاة، والآية أيدت حديث عائشة، ولا يقادمها حديث عطاء، واختلفوا فى عبور غير الجنب فى المسجد إجازة ومنعاً، ونسبت الإجازة للشافعى والحسن، وأجازه بعض للجنب أن يتيمم ولو وجد الماء وقدر على استعماله، وليس قويا لأن التيمم حينئذ غير طهارة، وإنما ورد التيمم مع وجود الماء والقدرة على استعماله فى النفل، لا فى دخول الجنب المسجد، وكذا لا يقرأ الجنب القرآن لحديث على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضى حاجته ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم، ولا يحجبه عن القرآن شىء ليس الجنابة، والجنابة تحصل بإنزال المنى، أو بولوج الحشفة، وولوجها هو الإجهاد فى حديث: إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم أجهدها فقد وجب الغسل وإن لم ينزل. قالت عائشة: "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً؟ قال: يغتسل" "وعن الرجل احتلم ولا يجد بللا قال: لا غسل عليه" . قالت أم سلمة: والمرأة ترى ذلك هل عليها غسل؟. قال: "نعم" أى إن أنزلت كما فى الرجل وممن أجاز العبور فى المسجد للجنب ابن مسعود وأنس والحسن وسعيد بن المسيب وعكرمة والضحاك وعطاء الخراسانى للنخعى والزهرى والشافعى، واحتج لهم بأن حمل العبور على عبور المسافر فى سائر الأرض، فيتيمم للصلاة جنباً يحتاج بلا ضمان عدم الماء، وذكر التيمم، وأجيب بأن ذلك ليس إضماراً بل شىء ذكر فى آية أخرى، وفيما يلى ذلك من السورة، واحتج لهم بذكر ذلك فيما يلى، فيتكرر وأجيب بأنه تصريح بما يفهم لا تكرير، واحتج باستحسان القراء الوقف على { تغتسلوا }، وأجيب بأنه لا يكون حجة قاطعة ولا سيما أنه يكون متهم من هو قائل بمدعى الشافعى.
{ وَإِنْ كُنْتُمْ مَّرْضَى }: مرضاً يزيده الماء ضرراً، أو يؤخر برءه ودخل فى المرض الجدرى وإحراق النار، ويفهم بالأولى إلحاق حدوث المرض بالماء، ومن صح بعض أعضائه، ومرض بعض غسل الصحيح، ويتيمم للمريض جمعاً بين الطهارة، كما روى
"أنه صلى الله عليه وسلم قال: فى رجل شج وأجنب، فاستفتاهم فى التيمم، فقالوا: لا إلا الغسل - قتلوه قتلهم الله - يكفيه أن يتيمم ويمسح على العصابة ويغسل سائر جسده" فجمع بين الغسل والتيمم، وتفريع ذلك فى الفقه، ومنها أنه قيل إن كان أكثر أعضاء ما يغسل صحيحاً غسل ولم يتيمم للعليل العليل، وقيل يتيمم للعليل ولو قل، ويغسل الصحيح، وقيل يتيمم للعليل والصحيح، ولو قل العليل، ولا غسل للصحيح، وقيل: إن كان العليل الوجه أو الفرج يتيمم للجميع، وإلا يتيمم له وغسل الصحيح، وإن كان نجس لا يقدر على غسله فى أعضاء الغسل أو غيرها، أو لا يقدر على الاستنجاء، فقيل: يصح له الوضوء، وقيل: لا، وإذا قيل: يتوضأ فقيل يتيمم للنجس، وقيل لا، وإذا لم يقدر على غسل نجس، أو لم يجد الماء أمكنه أن يقشره أو يحكه بالتراب فليقشر ويحكه، ولا يقتصر على التيمم أو الوضوء، ووجه التيمم عند المرض توسعه الله لنا لئلا نلقى بأدينا إلى التهلكة فالماء عند المرض كالعدم.
{ أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً }: قبل عدم وجود الماء عائد إلى الثلاثة الكون على سفر، ومحى أحد من الغائط، وملامسة النساء، وعلى سفر: متعلق بمحذوف، معطوف على مرضى، أى: أو ثابتين على سفر، وجاء أحد معطوف على كنتم مرضى، وسواء فى السفر أن يكون طويلا أو قصيراً ومثله غير السفر إذا كان لا يدرك الماء فى غير السفر إلا فات الوقت، أو لا يدرك الصلاة به، فإنه يتيمم ولو فى الوقت، وقيل: يعيد فيه. وقال الشافعى: يعيد لو بعد الوقت، ولا يعيد الصلاة إذا وجد الماء. وقال أبو حنيفة: يؤخر الصلاة حتى يجد الماء، لأنه فى غير السفر. ففى حديث أبى ذر وغيره: التيمم طهور المؤمن، ولو إلى عشر سنين، فإذا وجدت الماء فأمسسه بشرتك وهو يشمل الحضر والسفر، ولو كان سببه السفر، والغائط: المكان المنخفض، وكانت العرب تقصده لقضاء حاجة الإنسان، استتاراً عن الناس، فكان المجىء من ذلك المكان الذى قصد لقضائها كناية عن قضائها، لو سمى قضاها باسم المحل، وهو الغائط فكأنه قيل: أو جاء من قضائها، أو سمى البول فضلة الطعام الخارجة من الإنسان غائطاً، تسمية باسم محلها، وملامسة النساء: جماعهن، وزعم الشافعى أن ملامستهن، مسهن بيد فى أى موضع فعنده إن مَنْ مس زوجته بيده ولو فى غير فرجها ينتقض وضوءه، ورجح بعضهم هذا لأنه حقيقة. والملامسة بمعنى الجماع مجاز، وقد روى ما قال الشافعى عن ابن مسعود وابن عمر والنخعى والزهرى والأوزاعى، فعن ابن عمر: قبلة الرجل امرأته وجسُّها بيده من الملامسة، فمن قبل امرأته وجسّها بيده فعليه الوضوء، وكذا عن ابن مسعود وقال مالك، والليث بن سعيد، وأحمد، وإسحاق: إن مس زوجته بيده بشهوة، انتقض وضوءه، وإن لم يكن بشهوة لم ينتقض، ومذهبنا إن مس الرجل امرأته لا ينتقض الوضوء، وكذا قبلتها، إلا إن مسها فى عورتها بيد أو غيرها، أو حدث له بلل لا نقض عليه، ولو مس بشهوة ولو انتشر وكذا النظر بشهوة، ولو إلى عورتها لا ينقض ولو لشهوة، ولو انتشر وإنما ينقض مس عورته، أو البلل. وأما حديث
"من قبلة الرجل امرأته الوضوء" فمعناه أن القبلة سبب لتجديد الوضوء بأن يخرج منه بلل. وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ولا يجدد الوضوء. ثبت هذا عندنا فى الحديث، وروى قومنا عن عائشة رضى الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قبل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قال عروة: من هى؟ إلا أنت؟ فضحكت. فقيل: استدل به مالك ومن معه على أن المس بلا شهوة غير ناقض، وهو استدلال مشكل بأنه لا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم مس بلا شهوة، بل المتبادر أنه مس بشهوة، وقال بعض قومنا: هذا الحديث ضعيف، وكذا قال الترمذى: لا يصح إسناده، وقال: سمعت البخارى محمد بن اسماعيل يضعف هذا الحديث. وقال حبيب بن ثابت: لم يسمع من عروة مع أنه قد ذكر فى سنده وقال ابن القطانى: هذا الحديث ضعيف كالعدم. وليس عروة هذا هو ابن الزبير بن أخت عائشة رضى الله عنها، بل هو شيخ مجهول يعرف بعروة المزنى، وإنما المحفوظ عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم. قلنا: ليس كذلك بل حفظ عنها ذلك أيضاً، ويدل لمذهبنا أيضاً أحاديث عائشة فى مستها رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أخمص رجله وهو يصلى فى البيت بلا مصباح تبحث عليه غيره، وأنها نامت وجدت رجليها لكنها الماسة، وإذا سجد غمزها فقبضت رجليها لكن بلا شهوة، لأنه فى الصلاة وأما أن يقال: غمزها على حائل فلا دليل عليه، وذلك أنه إذا كان الغمز عليه فلا نقض، ومذهبنا هو مذهب ابن عباس والحسن والثورى. وقال أبو حنيفة: لا ينتقض الوضوء باللمس إلا إن أحدث الانتشار، وتحمل الملامسة فى الآية على الجماع، وبه قال على وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، قال ابن عباس: إن الله تعالى حى كريم، يكنى عن الجماع بالملامسة، وهو أقوى ولو مجازاً لدلالة الأدلة على أن المس لا ينقض الوضوء.
وقال مالك: الملامسة مطلق المس بالجماع أو باليد، وعندنا أيضاً لا نقض بمس المحارم، والأجنبية الصغيرة، إلا بخروج البلل أو بالشهوة، أو بمس موضع لا يجوز نظره، وينقضه مس بالغة غير محرمة، وفى مس ما يجوز نظره قولان: المشهور المنع، وينتقض بمس الأجنبية البالغة عمداً، ولو فى شعرها أو ظفرها أو سنها، وكذلك قال الشافعى: لا نقض بمس المحارم من النساء على الأصح عنه لأنه ليس محركاً للشهوة، وعنه النقض لعموم النساء، ولا نقض على الملموس إلا إن ثبت وتعمد، وقيل: ينقض، والقولان فى المحرمة عند الشافعى، وفى الأجنبية ما عندنا، وإن لمس امرأة محرمة أو أجنبية أو طفلة ولو فى الوجه أو الكف ولو بغير اليد لشهوة انتقض وضوؤه عندنا قولا واحداً، ومن مس شيئاً من جسدة شهوة، أو نظر إليه شهوة ولو غير عورة انتقض وضوؤه، ومن مس فرجه عمداً انتقض وضوؤه ولو بلا شهوة، وفروع المسألة فى الفقه. وأما ما رواه طلق بن على:
"قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل كأنه بدوى، فقال: يا نبى الله ماذا ترى فى مس الرجل ذكره بعد ما توضأ؟ قال: هل هو إلا بضعة منه؟" فإنما هو فى أول الهجرة. وأحاديث أبى هريرة وغيره فى النقض بمس الذكر بعده، فهو ناسخ له، أو حديث طلق فى المس بغير اليد، وأحاديث أبى هريرة وغيره فى المس باليد فهن تقييد واستثناء من عموم للتصريح باليد، وما لم يصرح فيه باليد مما فيه النقض حمل على اليد.
{ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً }: أى فاقصدوا صعيداً طيباً، وهذا إجمال إذ لا يدرى من القصد إلى الصعيد الطيب ما يصنع القاصد إذا قصده، فبينته السنة بوضع اليدين فى الأرض الوجه وضربها للكفين، ومسح الوجه والكفين. والصعيد: الرتاب، والطيب: الحلال الطاهر، ولا يجزىء غير التراب إلا على وجه الضرورة، ويدل لذلك فيما عندى قوله فى سورة المائدة
{ { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } فإنه يتبادر من قوله:{ منه } أن يلتصق جزء ما من المتيمم عليه، وإنما يلتصق من التراب لا من الحجر، وما تحجر من التراب حتى لا يتغير به اليد، ثم رأيت والحمد لله القاضى صرح بذلك إذ قال وقال أصحابنا - يعنى الشافعية - لا بد أن يعلق باليد شىء من التراب لقوله تعالى فى المائدة: { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } أى من بعضه وجعل { من } لابتداء الغاية تعسف، إذ لا يفهم من نحو ذلك إلا التبعيض. انتهى ووجه ذلك أن الصعيد قد عرف فى اللغة العربية أنه التراب، وهب أنه بمعنى التراب فى عرف الشرع فقط، فالعرب تفهم أن الصعيد الطيب شىء صاعد على الأرض طاهر على عمومه، لكن رسول صلى الله عليه وسلم بينه أنه التراب بتيممه على التراب، وأمره التيمم عليه، وكذا روى أنه حك جداراً بعصى فتيمم عليه، فلم يتيمم عليه بلا حك، وقالت الحنيفة: الصعيد الطيب: الشىء الصاعد على الأرض الطيب، تراباً أو حجراً، وإنما قلت فى الطيب: أنه الحلال الطاهر لأن التراب الحرام بغصب أو نحوه استعماله معصية فكيف يتقرب به إلى الله، وكيف يرفع الحدث والمغصوب من الأشياء لا يطيب لغاصبه، بل يكدر عليه، والعرب تعرف ذلك قبل الشرع، إلا ترى أن قريشاً لما قصدوا بناء الكعبة ما بنوها إلا بحلال أموالهم حتى أنهم تركوا الحطيم لقلة الحلال؟ والطاهر هو الذى يحصل منه الطهر لغيره لا ما نجس، ولم أفسر الطيب بالمنبت لأنه لا يناسب الإنبات الأمر المتقرب به إلى الله فى شأن الصلاة، ورفع الأحداث كل المناسبة، وإنما يناسبه الحلالية والطهارة وإنماء جاء الطيب بمعنى المنبت فى سورة الأعراف، إذ قال: { { والبلد الطيب } لأنه المناسب لما سيقت الآية له فى الأعراف كذا ظهر لى، فيجوز التيمم فى السبخة التى لا تنبت وقد عمه أيضاً حديث: "جعلت لى الأرض مسجداً وتربها طهوراً" وعمده من لا يجيز التيمم فى تراب لا ينبت آية الأعراف، وعمه أيضاً حديث حذيفة: فملنا بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء. هذا لفظ مسلم بن الحجاج والربيع -رحمه الله - كصاحب الوضع، وغيره من أصحابنا وغيرهم ألفاظ أخر، وقال الشافعى عن لغة العرب أنه لا يطلق الصعيد إلا على تراب ذى غبار، فأما البطحاء الغليظة والدقيقة فلا يقع عليها اسم الصعيد، فإن خالطه تراب أو مدر يكون له غبار، فالذى خالطها هو الصعيد فلا يتيمم على غير تراب ولا على تراب لا غبرة له عنده، وعند بعض أصحابنا وكذا قال الفراء وأبو عبيد أو أبو عبيدة معمر بن المثنى وأبو عبيدة مسلم، قال ابن عباس: الصعيد هو التراب، قال أبو عبيدة معمر ابن المثنى فى قوله صلى الله عليه وسلم "إياكم والقعود بالصعدات" أن الصعدات: الطرق، مأخوذ من الصعيد، وهو التراب. واختار الزجاج أن الصعيد وجه الأرض البارز تراباً أى تراب كان، وحجراً ما أنبت ما لم ينبت، ما له غبرة وما لا غبرة له، فدخلت النورة وحجر الكحل ونحوهما، ومشهور مذهبنا كمذهب الشافعى. وما قاله الزجاج هو كمذهب أبى حنيفة، وعن قتادة: الصعيد الأرض التى لا شجر فيها لا نبات، وقال ابن زيد: المستوى من الأرض، ولا يرجع إلى القولين شىء من أمر التيمم إذ لا قائل يمنع التيمم فى أرض غير مستوية، أو فى أرض فيها شجر أو نبات، وإنما ذلك بيان لأصل الصعيد، اللهم إلا أن يقال أريج بالأرض فى القولين: المقدر الذى يتيمم فيه فصاعداً، إذ لا يتيمم فى غير الضرورة على شجر أو نبات، ولا يتيمم على ما لم يستوى لتصل الكفان كل أجزائهما إلى الأرض، فإذا كان الصعيد التراب صح التيمم عليه ولو جعل فى ثوب أو طبق أو نحو ذلك مما هو طاهر، وقيل: لا. ومن فسر الطيب بالمنبت شرط أيضاً الطهارة والحلال، وفسره مالك بالطاهر قم أنهم اختلفوا فى ضرب التيمم كم ضربة، وما يمسح الكف أو إلى المرافق أو إلى المنكب، ولا بد من مسح الوجه، والصحيح ما ذكرت أولا، وهل يجوز قبل الوقت؟ وهل يجدد طلب الماء عند كل صلاة؟ الصحيح أنه يجوز بعد دخول الوقت وأنه رافع، فإذا تيمم بعد دخوله رفع الحدث، فيكفى لصلوات ما لم يحدث، فلا يجب تجديد الطلب، والقائل بأنه مبيح تيمم لكل صلاة، ويجدد الطلب لكل صلاة، وإذا تيمم ولو على القول بأن كل صلاة تيمماً، جاز له صلاة السنن والنفل به قبل الفرض أو بعده، ما لم يدخل وقت الثانية، وأن يقرأ القرآن ولو جنباً حتى يدخل الثانى.
{ فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ }: مما ردت الإذن إلى الإذن، ومن منبت شعر الجبهة المعتاد إلى الذقن.
{ وَأَيْدِيَكُمْ }: أكفكم ظاهرها وباطنها، وقيل ظاهرها، ويدل تفسير بالأكف التفسير به فى آية قطع السارق والسارقة، وحديث عمار أنه أرسله صلى الله عليه وسلم فى حاجة وأجنب فتمعك فى التراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"يكفيك ضربة للوجه وضربة للكفين" ودل المسح باطنهما مع ظاهرهما رواية محمد: أنه قال له "يكفيك هكذا" فضرب بيديه إلى الأرض فنفضهما وأنه مسح ظاهر كفيه وباطنهما، ويدل لباطنهما أيضاً ما يأتى من مسحه فى رواية المسح إلى المناكب. وروى البخارى ومسلم فى حديث عمار: أنهُ ضرب ضربة واحدة للوجه والكفين، وبه قال على وابن عباس فى رواية عنه، والشعبى وعطاء ومكحول والأوزاعى ومالك وأحمد وإسحاق وداود، وروى البيهقى أن التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، وبه قال ابن عمر وابنه سالم والحسن وأبو حنيفة والشافعى، فإن اليد تغسل فى الوضوء من أصابعها إلى مرفقها، والصحيح فى الرواية: حديث عمار الذى فيه ضربتان، ضربة للوجه وضربة للكفين، وأما حديثه الذى فيه ضربة واحدة، فلعله فى بيان كيفية المسح لا بيان أن الضرب ضربة واحدة، ثم بين له أنهُ ضربتان، وقيل: ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكتفين والإبطين، وبه قال الزهرى والزجاج لأن ذلك كله يرفع رواية عن عمار: تمسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر فضربوا بأكفهم الصعيد ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم كلها إلى المناكب والآباط ثم بطون أيديهم، فيستدل من هذا الحديث بأن باطن الكف يمسح كما يمسح ظاهرها، وأقول: هذه الروايات كلها جائزة، ثابتة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن كل واحد من ذلك كاف، وفى بعضه التخفيف، وفى بعضه تثقيل، كما أنه لم يتمعك فى التراب كله لم يقل له لا يجزئك، ولم يقل له أعد الصلاة والتيمم، بل قال يجزئك أقل من ذلك. ومما ذكر فيه المسح إلى المرفق رواية الأعرج عن ابن الصامت، إذ قال: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد على السلام حتى قام إلى الجدار فحته بعصى كانت معهُ، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد على، لكن هذا الحديث فيه وجه آخر وهو ضربة واحدة للوجه والذراعين، من الكف للمرفق، وهو حديث منقطع لأن الأعرج لم يروى عن ابن الصامت بل عن عمير مولى ابن عباس عن ابن الصامت، كما فى البخارى ومسلم لكن لم يذكر حتى الجدار بل قالا تيمم على الجدار.
{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً }: كثير العفو أو عظيمة، وهو صفة مبالغة بوزن فعول، إلا أنه أدغم، والعفو ترك الذنب بلا عقاب عليه.
{ غَفُوراً }: كثير الستر للذنوب أو عظيمة إذ بعضها يمحوها عن صحيفة صاحبها أو يمحو ذنوبه كلها منها وينسى الحفظة ذلك أيضاً إذ لم يؤاخذ بالذنوب، لم ير أثرها على فاعلها، كأنه لم يفعلها، فلكثرة عفوه وغفره وعظمهما يسر بالتيمم، فإنه من كان يعفو عن المسىء ويستره بعد إساءته فأولى أن يسهل للعاجز، وحديث عائشة فى سبب نزول آية التيمم وهو إقامتها برسول الله صلى الله عليه وسلم بلا ماء، وعلى غير ماء تلتمس عقدها مذكور فى الوضع والإيضاح بلفظ ذكر به فى البخارى ومسلم، وفيهما أن أسيد ابن حضير أحد النقباء قال: ما هى بأول بركتكم يا آل أبى بكر، وإنها قالت إننا خرجنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى بعض أسفاره فذكر أحاديث التيمم، والمراد ببعض أسفاره غزوة بنى المصطلق، وهى غزوة المريسيع، وفيها كانت قصة الإفك، وكان ابتداء ذلك بسبب وقوع عقدها فلعله سقط منها فى تلك السفرة مرتين، واستبعد بعضهم ذلك، لأن المريسيع من ناحية مكة بين قديد والساحل، وهذه القصة كانت من ناحية خيبر لقولها فى الحديث: حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش وهما بين مكة وخيبر، كما جزم به النووى، وقال ابن التبن: البيداء هى ذو الحليفة بالقرب من المدينة من طريق مكة، وذات الجيش: وراء ذى الحليفة أدنى إلى مكة من ذى الحليفة وذات الجيش من المدينة على بريد، وبينهما وبين العقيق سبعة أميال، والعقيق من طريق مكة لا من طريق خيبر، وقد جزم قوم بتعدد ضياع العقد، قال محمد بن حبيب الأخبارى: سقط عقد عائشة فى غزوة ذات الرقاع وفى غزوة بنى المصطلق، واختلف أهل المغارى فى أى هاتين الغزوتين كانت أولا، وقال الداودى: كانت قصة التيمم فى غزوة الفتح ثم تردد. وروى ابن أبى شيبة من حديث أبى هريرة، لما نزلت آية التيمم لم أرد كيف أصنع، فهذا يدل على تأخرها عن غزوة بنى المصطلق، لأن أبا هريرة أسلم فى السنة السابعة وهى بعدها بلا خلاف، والبخارى كأنه يرى أن غزوة ذات الرقاع كانت بعد قدوم أبى موسى، وقدومه كان وقت إسلام أبى هريرة ومما يدل على تأخر القصة أيضاً عن قصة الإفك، ما رواه الطبرانى من طريق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت: لما كان من أمر عقدى ما كان، وقال أهل الإفك ما قالوا، خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى غزوة أخرى فسقط أيضاً عقدى حتى حبس الناس على التماسه، فقال أبو بكر: يا بنية فى كل سفرة تكونين عناءً وبلاءً على الناس. فأنزل الله الرخصة فى التيمم، فقال أبو بكر: إنك لمباركة، ذكر ذلك فى المواهب.