التفاسير

< >
عرض

فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً
٩٩
وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
١٠٠
-النساء

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوا عَنْهُمْ }: يتجاوز لهم بفضله، وعسى من الله واجبة، والحكمة فى ذكر عسى المبالغة فى أمر وجوب الهجرة، حتى أن المعذور بحسب ظاهره ينبغى له أن يتشوف اليها متى تمكن له ويخاف أن لا يكون معذورا لأمر خادعه به الشيطان، ويتعاطى الخروج اذا توهمه ممكنا، كما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بقوله تعالى: { { ان الذين توفاهم الملائكة } الى قوله { سبيلا } والى قوله:
{ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً0 وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِى الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً }: الى المسلمين بمكة، فقال جندع بن ضمرة، أو ضمرة بن جندع، وعليه الأكثر، وهو من خزاعة، وقيل رجل من كنانة لبنيه: احملونى فانى لست من المستضعفين، وانى لأهتدى الطريق، والله لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجها الى المدينة، وكان شيخا كبيرا، فمات بالتنعيم.
ومن طريق ابن عباس رضى الله عنهما:
"نزلت الآية فسمعها رجل من بنى ليث شيخ كبير مريض، لا يستطيع ركوب الراحلة يقال له: جندع بن ضمرة، فقال: والله ما أنا ممن استثنى الله تعالى، فانى لأجد حيلة، ولى من المال ما يبلغنى الى المدينة، وأبعد منها، وانى لذو مال وعبيد، والله لا أبيت الليلة بمكة، أخرجونى فخرجوا به يحملونه على سرير، حتى أتوا به التنعيم فأدركه الموت، فصفق يمينه على شماله فقال: اللهم هذه لك، وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايعك رسولك، ثم مات، فبلغ خبره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو وافى المدينة لكان أتم وأوفى أجرا، وضحك المشركون وقالوا: ما أدرك ما طلب، فنزل فيه قوله تعالى:
{ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً }"
: له ما مر من عدم الهجرة.
{ رَحِيماً }: له بالجزاء لما بعد، ومرّ عن ابن عباس أنه قال: كنت أنا وأمى من المستضعفين، أنا من الولدان، وأمى من النساء، وكان صلى الله عليه وسلم يدعوا لهؤلاء المستضعفين فى الصلاة.
قال أبو هريرة:
"لما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركعة الثانية قال: اللهم انج الوليد بن الوليد. وسلمة بن هشام، وعياش بن ربيعة، والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف" .
ويروى "أن رجلا من بنى كنانة لما سمع أن بنى كنانة ضربت وجوههم وأدبارهم الملائكة يوم بدر، وقد دنف وأشرف على الموت فقال لأهله: احملونى، فحمل الى النبى صلى الله عليه وسلم فمات فى الطريق فنزل: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً }" الآية.
والمراغم: اسم لمكان الرغام بفتح الراء، وهو التراب الذى يراغم فيه بكسر الغين، أى يعالج التراب بالمشى فيه، أى يجد ترابا يتحول فيه من موضع الى موضع حتى يبلغ مأمنه على دينه، هذا ما ظهر لى بمعنى الصرفى، ثم رأيت للجوهرى ما يوافقه، وهو أنه قال: المراغم المذهب والمهرب، ومثله عن الفراء، وأما ابن عباس فقال: المراغم المتحول، يتحول اليه فهو عنده اسم للموضع الذى يهاجر اليه كالمدينة الحبشة وقباء، وكل ما يلى المدينة من صحراء، وبلد أهله مؤمنون، وبلد أهله مشركون، يظهر دينه فيهم، فذلك كثير.
وعن ابن زيد مثله، وعن الحسن مراغما كثيرة، وجوها كثيرة، من الطلب، وعن مجاهد من أخرج عما يكره، وعن السدى المراغم المبتغى للمعيشة، وقيل مراغما طريق يراغم قومه بسلوكه، أى يلصق أنوف المشركين بالتراب، أى يغضبهم ويهينهم ويغيظهم اذا فارقهم، وقد كرهوا أن يفارقهم، وسمعوا أنه فى خير ونعمة فى الموضع الذى هو فيه، وكنى عن ذلك بالصاق الأنف اذ كان من أغر الأعضاء بالتراب، اذ كان من أهون الأشياء.
والسعة: وسع الأرض التى يهاجر اليها تسعه لدينه، وعن مجاهد: وسع فى البعد عما يكره من الضلال والأذى، وعن الحسن وسع فى الطلب ونسب الأول لمالك وبسعة الأرض التى يهاجر اليها يتسع الرزق وينفسح الصدر، وعن ابن عباس السعة فى الرزق.
وقرىء ثم يدركه الموت بالرفع على أنه خبر لمحذوف، أى ثم هو يدركه الموت، فعطفت الجملة الاسمية على الجملة الشرطية الفعلية، ولو كانت الاسمية لا تصلح شرطا وذلك من الاجازة فى الثوانى لما لا يجوز فى الأوائل، وقرىء بالنصب بأن عطفا على المعنى كأنه قيل: ومن صح له خروج من بيته مهاجرا الى الله ورسوله، ثم ادراك الموت أياه بعطف ادراك على خروج.
ومعنى { وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ } ثبت ورسخ، لا يخاف عليه من الزوال كما يقال: وجب وكذا كل من دخل عملا ولم يقدر على اتمامه له أجره كله على الصحيح، وقيل: أجر ما عمل، دل على الأجر فى الآية حتى قيل له سهم فى غنيمة تلك الغزوة من هذه الآية الكريمة.