التفاسير

< >
عرض

مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ
١٠٣
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ مَا جَعَلَ اللهُ مِن بَحِيرَةٍ }: ما شرع الله بحيرة، ولكون جعل بمعنى شرع تعدى الواحد، وهو بحيرة هذا ما ظهر لى، والله الذى لا إله إلا هو ثم رأيته للقاضى وابن عطية، وجل ما للقاضى من الكشاف لأنه مختصره، وقيل ذلك رأيت أبا عمر وعثمان بن خلفة فسر، جعل بمعنى سمى وكذا فسره أبو البقاء، وأجاز أبو حيان أن تكون على أصلها من التصيير فيقدر لها مفعول ثان، أى فأصير بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامياً مشروعة.
والبحيرة بمعنى مبحورة الأذن أى مشقوقة الأذن، وكان أهل الجاهلية اذا انتجت الناقة خمسة أبطن أخرها ذكر بحروا أذنها، أى شقوا أذنها وخلوها، فلا تركب ولا تحلب، ولا يجز وبرها، ولا يحمل عليها، ولا تطرد عن مرعى ولا ماء، وسيبوها للصنم.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما: البحيرة الناقة اذا ولدت أربعة أولاد لم يركبوها، ولم يجزوا وبرها، ولم يمنعوها الماء والكلأ ثم نظروا الى خامس ولدها، فان كان ذكراً نحروه وأكله الرجال والنساء، وان كان أنثى شقوا أذنها وتركوها وحرموا على النساء منافعها، وكانت منافعها للرجال خاصة، واذا ماتت حلت للرجال والنساء.
وقيل: كانوا اذا ولدت عشرة أبطن شقوا أذنها نصفين طولا، وتركوها ترعى ولا ترد الماء ولا ينتفع بشىء منها، ويحرم لحمها على النساء اذا ماتت، ويحلل للرجال، وقيل الحيرة يقطعون أطراف آذانها، وقيل اذا ولدت خمسة أبطن فان كان الخامس ذكراً أكله الرجال، وان كان ميتة أكله الرجال والنساء، وان كان أنثى شقوا أذنها ولم يجزوا لها وبراً ولم يشربوا لها لبناً، ولم يركبوا لها ظهرا، ولم يذكر اسم الله عليها.
{ وَلا سَآئِبَةٍ }: كان يقول الرجل منهم: ان شفيت من مرضى، أو شفى ولدى أو فلان، أو قدم من سفره، أو كان كذا مما يحب، أو سلم من كذا مما يكره فناقتى سائبة، فتكون كالبحيرة فى تحريم الانتفاع بها وعدم ردها عن مراع أو ماء، وهو اسم فاعل ساب الماء يسيب اذا جرى على وجه الأرض وهى لآلهتهم.
والناقة اذا ولدت اثنى عشر ولداً كلها اناث ليس بينهن ذكر، كانت سائبة. وكانوا يعدون السائبة لوقوع ما يحبون، أو فقد ما يكرهون، قرباناً لله، ويعدون ذلك كالعتق، وربما لأصنامهم بلا سبب مما ذكر.
{ وَلا وَصِيلَةٍ }: هى الأنثى التى تلدها الشاة مع الذكر من بطن واحد، سميت بذلك لأنها وصلت أخاها، لأنه لا يذبح لآلهتهم، لأنه لو ولدته وحده لذبحوه لآلهتهم، ولو ولدت أنثى لا ذكر معها لكان لهم، ومعنى وصيلة: واصلة، وقيل: اذا ولدت الشاة ثلاثة أبطن أو خمسة، فان كان آخرها جدياً ذبحوه لآلهتهم، وان كان أنثى تركوه، وان ولدتهما تركوهما، هذا والأنثى التى مع الذكر هى الوصيلة، والوصيلة فى الغنم كما رأيت.
وعن ابن المسيب الوصيلة فى الابل، والجمهور على أنها فى الشاء، وقيل: اذا ولدت سبعة فالسابع يذبح للصنم، ان كان ذكراً ويأكله الرجال، وان كان ميتة أكله الرجال والنساء، وان كان أنثى تركب، وان ولدت ذكراً وأنثى معاً وصل الأنثى الذكر فهو يذبح ويتركان.
{ وَلا حَامٍ }: جمل حام لظهره أى مانع له أن يحملوا عليه شيئا، فحام كقاض من حمى يحمى وهو الفحل يلد من صلبه عشرة أولاد، فيحرمون ظهره، ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى، وقالوا: حمى ظهره، وقيل: هو الفحل يضرب فى ابل صاحبه عشر سنين، ولدت من ضرابه قليلا أو كثيراً، ولم يلد، وقيل: هو الفحل الذى ولد ولد ولده.
وقال الشيخ هورحمه الله والفخر: اذا ركب ولد ولده، والحامى أيضا للأصنام عندهم، وكل من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى لا ينتفعون منه، ولا يرد عن مرعى أو ماء قال أبو هريرة:
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندق أخا بنى كعب وهو يجر قصبه فى النار " والقصب بضم القاف واسكان الصاد الأمعاء.
وعن عائشة رضى الله عنها:
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً ورأيت عمرو بن لحى يجر قصبه وهو أول من سيب السوائب " والظاهر أنه أراد بالسوائب ما يشمل ما ذكر فى الآية من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى.
{ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا }: أشركوا ولم يفعل أحد بعد اسلامه أمر البحيرة وما بعده، قال مسعود: ان أهل الاسلام وأهل الجاهلية يسيبون.
{ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ }: اذ قالوا: ان الله أمرنا بالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامى، وشرعهن لنا وحرمهن علينا.
{ وَأَكثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ }: فمن المشركين من لا يدربهن وهو القليل الذى يعقل أن الله لم يأمر بذلك، وقيل: الكثير الاتباع لا يعقلون، انما شرع لهم متبعوهم من ذلك كذب، والقليل هو المتبوع المتعمد للكذب، أو أكثرهم لا يعقلون الحلال من الحرام، أو المبيح من المحرم، أو الأمر من النهى، ولكنهم يقلدون كبارهم، وفيه أن منهم من يعرف بمكان ذلك، ولكن منعهم حب الرياسة وتقليد الآباء أن يعترفوا به قاله القاضى.