التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ
١٠٦
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَآ أَيًّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةٌ بَيْنِكُم }: شهادة مبتدأ خبره محذوف تقديره فيما آمركم لا يلزم به شهادة بينكم، أو خبر لمحذوف، أى الواجب شهادة بينكم، ويدل له قراءة الحسن: شهادة بينكم بنصب شهادة، أى الزموا شهادة، وهى فى قراءته منون، وبينكم فى قراءته منصوب على الظرفية كما نصب على الظرفية فى قراءة الشعبى بتنوين شهادة ورفعه، وأما قراءة الجمهور فرفع شهادة كما رأيت، واضافته لبينكم اضافة اتساع، ويجوز على قراءة أبى برفع شهادة أن يكون شهادة مبتدأ خبره اثنان على حذف مضاف، أى شهادة اثنين، واذا لم تجعل اثنان خبراً فهو فاعل لشهادة.
ويجوز فى قراءة نصب شهادة أن يكون شهادة مفعولا بفعل محذوف رافع لاثنان على الفاعلية، أى ليتم اثنان شهادة بينكم، ففى هذا الوجه شهادة مصدر، وكذا اذا جعلنا اثنان فاعل شهادة، واذا جعلنا اثنان فاعلا ليشهد محذوفاً فشهادة اسم مصدر بمعنى الاشهاد.
{ إَذّا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ }: بأن ظهرت له أمارته، واذا متعلق بشهادة ان أجزنا خروجها عن الشرطية والصدر، أو بيقم المقدر، أو بما يتعلق به فيما آمركم، أو بلفظ الواجب، أو بالزموا بحسب ما قدرنا لقوله: شهادة، أو شرطية صدرية يقدر لها جواب يدل له ما قبلها، وان جعلنا اثنان خبراً دل على جوابها ما قبلها مع ما بعدها.
{ حِينَ الوَصِيَّةِ }: حين بدل من اذا أما على أنه خرجت عن الشرط فلا اشكال، والا فعلى القول بأنه لا يلزم ذكر ان الشرطية حين الابدال من اسم الشرط، أو متعلق بحضر، وفى ابداله من اذا على ما قيل تنبيه على أن الوصية مما لا ينبغى أن يتهاون بها، فان كون زمان الوصية زمان حضور الموت يدل على الحرص فيها خوف فوتها بالموت، ولو أوصى قبل حضور الموت لخيف أن يضيع كتاب الوصية، أو ينسى الشهود، أو يتبدل أمر عند الموت عما أوصى به قبله كذا ظهر لى فى توجيه ذلك.
وقال غيرى: انه جعل زمان حضور الموت زمان الوصية، دل على أنه ينبغى أن يوقع الوصية فى زمان حضور الموت، لدلالته على أن الوصية كالموت وعدم التخلف عن ذلك الزمان، فان ذلك الزمان كما أنه لا بد من أن يقع فيه الموت، لا بد من أن تقع فيه الوصية.
{ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ }: أى من أقاربكم أو من المسلمين، وهو حال من اثنان، لأن اثنان ولو كان نكرة لكنه قد نعت بذوا، أو نعت ثان لاثنان، والاثنان يشهدان أن فلاناً أوصى بكذا، وقيل: هما الوصيان يشهدان لأنفسهما أن فلاناً جعلهما خليفة على وصيته، والقولان أيضا فى قوله تعالى:
{ أَو آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ }: أى من المشركين، أى أو عدلان من المشركين كتابيان، أو غير كتابيين ذميان، أو غير ذميين لضرورة السفر، وفقد من يشهد، ثم نسخ بعد شهادة المشرك على المؤمن بقوله تعالى:
{ وأشهدوا ذوى عدل منكم } وقوله: { ممن ترضون من الشهداء } وقوله تبارك وتعالى: { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } لما كثر المؤمنون، وقيل: { ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } ذوا عدل من أقاربكم المؤمنين أو آخران من غيركم ذوا عدل من المؤمنين الذين ليسوا بأقارب لكم، وهو قول الحسن وعكرمة، والزهرى والشافعى، ومالك وأبى حنيفة، وقد فسر أبو موسى الأشعرى، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ويحيى بن معمر، وأبو مجلز، وابراهيم، وشريح، وعبيدة السلمانى، وابن سيرين، ومجاهد: { ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } بعدلين من المسلمين { وَآخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } بعدلين من المشركين.
قال بعض: لأن الآية نزلت ولا مؤمن الا بالمدينة، وكانوا يسافرون بالتجارة مع أنواع المشركين، فقال أبو موسى، وشريح، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وابن جبير، وابن سيرين، وهو قول ابن حنبل: ان شهادة الكافرين على المسلمين جائزة على الوصية فى السفر للضرورة غير منسوخة، وقال جماعة: منسوخة، ومعنى العدالة فى المشرك وأهل البدع والأهواء اجتناب الكذب، وما حرم عليه فى دينه، واحتج من قال غير منسوخة بأن المائدة آخر ما نزل، وأما شهادة المشركين على المشركين من جنسهم، أو ممن دونهم فجائزة لا على من فوقهم، وبسطت فى الفقه ذلك وبهذا قلنا نحن وأبو حنيفة ومنعها مالك والشافعى.
{ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبتُم فِى الأَرْضِ }: سافرتم فى الأرض، ولا يخفى ان أنتم فاعل لمحذوف الأصل ان سافرتم، فحذف الفعل وانفصل الضمير المتصل، وأجاز غير البصريين كون أنتم مبتدأ، ونسب للأخفش أيضاً بناء منهم على أنه يجوز كون الشرط جملة اسمية.
{ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ المَوْت }: أى قرب أن تموتوا.
{ تَحبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاةِ }: توقفونهما من بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس، واجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار فى الأرض، ولأنه أوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاهدين فى واقعة الآية بعد صلاة العصر، ولأن أهل الأديان كلهم يعظمون ما بعد العصر، ويجتنبون فيه الحلف على الكذب.
وعن الحسن: بعد الظهر أو العصر، لأن أهل الحجاز يقعدون للحكومة بعدهما، فكذا من يقعد لها بعد صلاة الفجر يوقفهما بعد صلاة الفجر، وأما الليل فلا حكم فيه الا لمسافر أو فى أمر السجن، فحينئذ يكون لضوء نار، وان كانا مشركين أوقفا بعد الصلاة التى يصليها أهل دينهما، وجملة تحبسونهما نعت لآخران، أو حال منة بنعته بقوله: { مِنْ غَيْرِكُمْ } ويقدر مثله لاثنان، وجواب ان محذوف، أى فليشهد اثنان ذوا عدل منكم وآخران من غيركم، وجملة الشر وجوابه المحذوف معترضة بين النعت والمنعوت، أو الحال وصاحبها، وقيل يقدر الجواب فليشهد اثنان من غيركم ليفيد الاعتراض أنه ينبغى أن يشهد اثنان منكم، فان تعذرا للسفر فمن غيركم، ويجوز أن يكون تحبسونهما من بعد الصلاة مستأنفا جواباً لقول القائل: كيف نفعل ان ارتبنا فى شهادة الشاهدين.
{ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُم }: ارتاب الوارث منكم فى شهادتهما، ودل على جواب هذا الشرط ما قبله مع ما بعده.
{ لا نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً }: الجملة جواب القسم الذى هو يقسمان، وهاء به عائدة الى الله أو الى القسم المدلول عليه بيقسم، والثمن متاع الدنيا، ونكر لأنه قليل مستحقر أياً ما كان، ولا سيما اذا استبدل بالله عز وجل، أو بالقسم، والمعنى لا نحلف كاذبين لغرض مال نأخذه، وفصل بين القسم وجوابه بقوله: { إِنِ ارْتَبْتُم } لتقيد اختصاص القسم بحال الارتياب مع ايضاح وتأكيد باتصاله بالقسم على طريقة العرب، وتقديم بعض الأشياء على بعض للاهتمام، ولو آخر ان ارتبتم عن قوله: { لا نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً } الى آخره لم يظهر كل الظهور انه قيد ليقسمان.
وظاهر الآية أنهما يقولان فى يمينهما: والله لا نشترى به ثمناً الى قوله: { لَّمِنَ الآثِمِينَ }، ولعل المراد أن يقولا ما تضمنه هذا اللفظ أن يقول كل واحد منهما فى يمينه أنا صادق فى شهادتى لم أزد فيها شيئا ولم أنقص على القول أن الاثنين شاهدان على الوصية، وأنى أمين فى أمر الوصية ما كتمت وما ضيعت شيئا مما سلم الى من المال، لا على القول بأن الاثنين وصيان، ويعظهما القاضى بأن يقول لهما: اتقيا الله ولا تحلفا كاذبين لمتاع من الدنيا قليل، فان اليمين الكاذبة تذر الديار بلاقع، فيقولان: معاذ الله أن نتبدل بالحلف أو باسم الله ثمناً قليلا فنحرف الحق من أجله.
{ وَلَوْ كَانَ }: المشهود له.
{ ذَا قُرْبَى }: قريباً فى الرحم، وجواب لو مدلول عليه بقوله: { لا نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً } وهذا يقوى أن الاثنين الشاهدان الوصيان، فلا يشهدان له زوراً بما يضر المشهود عليه، ومن قال: الاثنان الوصيان، قال: ضمير كان عائد الى الميت، والمراد ولو كان الميت ذا قرابة من الوصيين، فلا يقولان اننا ممن يكون حقيقاً بماله لقريتا فنكتم منه، والله أعلم.
{ وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ }: أى الشهادة التى أمرنا الله باقامتها وتعظيمها، ونهانا عن كتمها وتحريفها.
{ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ }: المذنبين، ومعنى قوله: { إِذاً } حين الكتم أو اذا كتمنا، ويحلفان حيث كان الحكم من القاضى وان كثر المال الذى اختلف فيه، فحيث يعظم مثل ما بين الركن والمقام لمن بمكة، وعند المنبر فى المدينة لمن كان بها، وعند الصخرة لمن فى بيت المقدس، وفى سائر البلاد فى أشرف المساجد وأعظمها.
قال الشافعى: ان اليمين تغلظ فى الدماء والطلاق والمال اذا بلغ مائتى درهم بالزمان والمكان، فالزمان بعد العصر، والمكان هذه المواضع المذكورة، ثم أن يمين الشاهدين منسوخ ان أريد فى الآية الشاهدان، وان أريد الوصيان فلا نسخ فيحلفان الى الآن ان اتهمهما فى الوصية أو فيما بين أيديهما.
وقليل عن على: انه لم ير نسخ يمين الشاهدين والراوى، وكان يحلفهم اذا اتهمهم وقرأ الشعبى وعلى بن أبى طالب ولا نكتم شهادة بالتنوين والنصب، واذا أراد الوقف وقف عليه، وأما لفظ الجلالة فقرأه بالجر على القسم، ويبتدىء به ويمد همزته بقلبها ألفاً لادخاله همزة الاستفهام عليها تعويضاً عن حرف القسم، وروى عن الشعبى الجر بلا مد، كما ذكر سيبويه أن من العرب من يحذف حرف القسم ولا يعوض عنه الهمزة فيقول الله لقد كان بالجر، وقرىء لمن الآثمين باسقاط همزة أثم بعد نقل حركتها الى لام أل الداخلة عليها، وادغام نون من فى لام أل كما أدغم نافع فى بعض طرقه، وبه يقرأ التنوين فى لام أل من قوله:
{ عادا الأولى } }.