التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١٢
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وَلَقَد أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنى إِسرَائِيلَ }: أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، ولا يخرجوا عن حكم التوراة.
{ وَبَعَثنَا مِنهُمُ }: هذا الكلم، انتقل الكلام اليه عن لفظ الغيبة فى { ولقد أخذ الله } منهم متعلق ببعثنا، والمحذوف حال من اثنى عشر بعده على الأول للإبتداء، وعلى الثانى للتبعيض.
{ أثنَى عَشَرَ نَقِيبًا }: مع موسى عليه السلام، النقيب من يبحث عن حال قوم، أو يقوم عليهم ولا يهملهم يقال: نقب عن الشىء بحث عنه، وعن ابن عباس النقيب: الضمين.
وقال قتادة: الشهيد على قومه، وقيل: الأمين الكفيل وهو قريب من قول ابن عباس، لأن من شأن الضمين أن يكون أميناً.
قال قتادة: هؤلاء النقباء كبار كل سبط تكفل كل واحد بسبطه أن يؤمنوا، ويلتزم التقوى من سبط روبيل، سائل بن بكر، ومن سبط شمعون: ساباط بن حراماً، ومن سبط يهوذا: كالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم، ومن سبط جاد، حايل بن يوسف، ومن سبط زيالون: حدى بن سور، ومن سبط أشر: سافوز بن ملكيك، ومن سبط تقيالى: حى بن وغشر، ومن سبط دارين: حملا يل بن حمل، ومن سبط: لاوى حولا بن مليكا، ومن سبط بن يامين: فلطم بن دقفون، ومن سبط يوسف من ولده ابراهيم: يوشع بن نون، ومن سبط ابنه الآخر المسمى منشا رجل أبوه موسى غير موسى بن عمران.
أخذ الله عز وجل الميثاق على بنى اسرائيل أن يطيعوا النقباء، وعد الله تعالى موسى وقومه أن يورثه وقومه الأرض المقدسة، وهى الشام، وكان يسكنها الكنعانيون الحبارون العمالقة، ولد عمليق بن لاوى بن سام ابن نوح عليه السلام، وقال: يا موسى انى كتبتها لكم داراً وقراراً، فأخرج اليهم وجاهدهم، وانى ناصركم اليهم، فخذ من قومك اثنى عشر نقيبا، فأخذ، وأمرهم أن لا يذكروا لقومهم ما يرون، وخرجوا فالتقوا بعوج بن عناق على رأسه حزمة حطب، فأخذ الاثنى عشر فجعلهم فى حزمته، وقيل: فى كمه قد انطلق بهم الى امرأته وقال: انظرى الى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا وطرحهم بين يديها، وقال: ألا أطحنهم برجلى؟ فقالت له امرأته: لا بل خل عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، وقيل جعلهم فى كمه ومضى بهم الى الملك، وقال له: دعهم يخبروا قومهم بما رأوا فتركهم، فجعلوا يتعرفون أحوالهم وكان لا يحمل عنقود عنبهم الا خمسة أنفس فى عمود، ويدخل فى قشر الرمانة خمسة أنفس أو أربعة.
روى عن ابن عمر: كان طول عوج بن عناق ثلاثة وعشرين ألف ذراع، وثلاثمائة وثلاثين ذراعاً وثلاث ذراع بالمالكى، وكان رأسه تحت السحاب، قلت: ولعل هذا فى السحاب العالى جداً، وقد روى أنه يكون السحاب له حيث يتحزم الانسان ويشرب من السحاب، ويتناول الحوت من قعر البحر ويشويه لعين الشمس ويأكله.
قلت: مثل هذا الارتفاع لا يظهر فيه من حرارة الشمس ما يشوى الحوت ألا ترى أنك لو كنت فى أخفض موضع، ثم كنت فى أرفعه لم يظهر لك زيادة الحرارة، ولو حصل مطلق الزيادة فى نفس الأمر زيادة لا يتفطن الا بتدقيق، ألا أن يقال: إن تلك الطبقة التى يصلها عوج تظهر فيها حرارة عظيمة منعها الله من وصولها الينا بما شاء من برد وريح.
وقال عوج لنوح عليه السلام: احملنى اليك فى السفينة، فقال له: اذهب يا عدو الله فانى لم أومر بذلك، وعلا الماء على الجبال، وما جاوز ركبتى عوج، وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله فى زمان موسى عليه السلام، وكان لموسى عليه السلام فى فرسخ، فجاء عوج حتى نظر اليه، ثم جاء الى الجبل وقور منه صخرة على قدر العسكر، ثم حملها ليطبقها عليهم، فبعث الله الهدهد فنقبها فوقعت فى عنق عوج كالطوق، فصرعته فوثب موسى عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، وطول عصاه عشرة أذرع، فضربه بها، فما أصابت الا كعبه، وقيل: طوله سبع، وطول عصاه سبع، ووثب سبعاً، فأقبلت جماعة كثيرة فحزوا رأسه بالخناجر.
قيل كان طول سريره ثمانمائة ذراع، وليست قصة عوج تعجبنى اذ رأيتها، ومما خلطوا به أنه لما قتل وقع على نيل مصر فحبسه سنة، وأين نيل مصر من أرض الكنعانيين، قالوا: وكانت أمه عناق بن آدم عليه السلام من صلبه، وأن أول من بغى على وجه الأرض وهو ولد زنى، قيل: وأصغر أصابعها ثلاثة أذرع، وفى كل أصبع ظفران، وموضع مجلسها جريباً من الأرض بعث الله اليها أسوداً كالفيلة، وذباباً كالابل، ونموراً كالحمير، فقتلتها وأكلتها.
ولما رجع النقباء قال بعضهم لبعض: يا قوم انكم ان أخبرتم بنى اسرائيل خبر القوم فشلوا وارتدوا عن نبى الله، ولكن اكتموا شأنهم وأخبروا موسى وهارون فيروا فيهم رأيهم، فأخذ بعضهم من بعض الميثاق على ذلك، وجاءوا بحبة عنب الى موسى عليه السلام من عنبهم وقرر رجل، وأخبروه بما رأوا فأخبر كل واحد قومه عن قتالهم، وأخبرهم بحال ما رأوا الا يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، ولما سمعوا ذلك رفعوا أصواتهما بالبكاء وقالوا: يا ليتنا متنا بمصر، وياليتنا متنا فى هذه البرية، ولا يدخلنا الله أرضهم، فتكون أولادنا ونساؤنا وأثقالنا غنيمة لهم، وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسا وننصرف الى مصر، كما قال الله جل وعلا:
{ قالوا يا موسى ان فيها قوماً جبارين } الآيات.
وانما أمر الله موسى عليه السلام بقتال الكنعانيين بعد اغراق فرعون، وقيل: بعد ما أغرق رجع موسى وبنوا اسرائيل الى مصر، واستقروا فيها، فأمر بالخروج منه اليهم لعامرة الشام، وقيل: لم يرجعوا اليها بعد اغراقه، ولما اضطربوا قال لهم موسى: ان الله سيفتح لكم كما أغرق فرعون، وخرق لكم البحر، ولم يقبلوا عنه وهموا بالانصراف الى مصر.
وقال كالب بن يوقنا ويوشع: يا قوم قد اختبرناهم فوجدناهم أجساماً عظاماً بقلوب ضعاف، وهم بنو اسرائيل أن يرجموهما بالحجارة، وعصوهما.
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية، حين صد عن البيت:
" "انى ذاهب بالهدى فناحره عند البيت " فاستشار أصحابه فى ذلك، قال المقداد بن الأسود رضى الله عنه: أما والله لا نقول كما قال قوم موسى عليه السلام: اذهب أنت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدون، ولكنا نقول: انا معك مقاتلون، والله لنقاتلن معك عن يمينك وشمالك، وبين يديك ومن خلفك، ولو خضت بحراً لخضناه معك، ولو شمت بنا جبلا لعلوناه، ولو ذهبت بنا الى برك الغماد لتبعناك، فلما سمعهما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعوه على ذلك، وأشرق بذلك وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن مسعود: لأن أكون صاحب الهدى أحب الى من الدنيا وما فيها، وكذلك قال له المقداد: لما استشار تبعك حيث ذهبت، ولا نقول كما قال بنو اسرائيل، ولما عصت بنو اسرائيل أمر ربهم وهموا برجم يوشع وكالب، غضب موسى عليه السلام ودعا عليهم فقال:
{ فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } فأوحى الله اليهم الى متى يعصوننى ويكذبون بآياتى؟ فخاف أن يهلكهم الله فقال: انه ان قتلتهم قال الناس قتلهم موسى، لأنهم لن يستطيعوا أن يدخلوا الأرض المقدسة، وانه كثير حلمك كثير نعمتك، وانك تغفر الذنوب، وتحفظ الأذى على الآباء الأبناء، فلا تؤاخذهم فقال الله عز وجل لموسى: قد عفوت لكلمتك، فبما حلفت لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدى يوشع وكالب، ولأتيهنهم فى هذه البرية أربعين سنة، ومات النقباء الذين أفشوا الخبر، وكل من دخل التيه ممن جاوز عشرين سنة مات فى التيه غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحا أحد ممن قال: { { انا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها
}. { وَقَالَ اللهُ إنِّى مَعَكُم }: بالنصر والتوفيق، والخطاب قيل: للنقباء، وقيل: لبنى اسرائيل صحح بعضهم الأول وجعل الخطاب بعد لبنى اسرائيل والذى عندى أن الخطاب هنا وفى ما بعد لبنى أسرائيل.
{ لَئِن أَقَمتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيتُمُ الزَّكَاةَ }: ربع المال.
{ وَآمَنتُم بِرُسُلِى }: كلهم، ولم تفرقوا بين أحد منهم.
{ وَعَزَّرتُمُوهُم }: عظمتموهم وجريتم على مقتضى التعظيم من التوقية والنصر باللسان والسيف والاعانة، وقيل بمعنى نصرتموهم بالسيف، ونسب للسدمى، واختاره بعض، وقال مقاتل: أعنتموهم، ثم رأيت عن عطاء أن المعنى وقرتموهم كما فسرته لا بعظمتموهم والحمد لله، ولكن زدت بياناً ومن ذلك التعزير بمعنى التنكيل، لأنه منع من معاودة الفساد، يقال: منعتموهم من أيدى العدو، وقرأ عاصم الحجدرى بتخفيف الراء حيث وقع، وفى سورة الفتح:
{ { وتعزروه } بفتح التاء واسكان العين وضم الراء.
{ وَأَقرَضتُمُ اللهَ قَرضًا حَسَناً }: اسم مصدر مفعول مطلق نوعى بمعنى اقراضاً حسناً، أو هو اسم للمال العطى، فيكون مفعولا به، وعلى كل حال المراد الانفاق فى سبيل الخير تطوعا.
{ لأُكَفِّرَنَّ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم }: جواب القسم المقدر قبل قوله، لأن المغنى عن جواب الشرط الممهد له بلام لئن.
{ وَلأُدخِلَنَّكُم جَنَّاتٍ تَجرِى مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ }: هذا ذكر لايصال ثواب اقامة الصلاة، وما ذكر بعدها من الأعمال بعد ذكر ازالة العذاب بتكفير السيئات، والآية شبيهة بقوله تعالى:
{ أوفوا بعهدى أوف بعهدكم } لأن اقامة الصلاة وما بعدها ايفاء بعهد الله، وكونه معهم، والتكفير والادخال ايفاء الله بعهدهم.
{ فَمَن كَفَرَ }: فسق ونافق بمخالفة أمر الله، كترك السير الى الجبارين، وقيل: المعنى من ارتد الى الشرك.
{ بَعدَ ذَلِكَ مِنكُم }: أى بعد أخذ العهد والميثاق، أو وعدى بالتكفير للسيئات، وادخال الجنة على شرط اقامة الصلاة وما بعدها، وقيد بالبعدية مع أن الكفر فعل ذلك أيضاً ضلال مبين لعظم الكفر بعد حتى كأنه كان الكفر قبله لبسه ضلال بالنسبة اليه، اذ لا شبهة بعد، ولا توهم معذرة عن كفره بعد، وكل ما زادت النعمة ازداد الكفر قبحاً.
{ فَقَد ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلَ }: أى عن سواء السبيل، أى وسطه، أى السبيل المستقيم، والنصب على حذف الخافض كما رأيت، أو المفعولية لتضمن ضل معاً فقد، أو أخطأ.