التفاسير

< >
عرض

فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ
٣١
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبحَثُ فِى الأَرضِ }: يحفر.
{ لِيُريَهُ }: أى ليريه الله أو ليريه الغراب.
{ كَيفَ يُوَارِى سَوءَةَ أَخِيهِ }: أى جسد أخيه، لأنه ميت، فكان مما يستقبح أن يرى ولأنه قد فسد من طول بقائه غير مدفون وأنتن، أو أراد عورته وما لا يجوز النظر اليه منه، ويدفن غير ذلك تبعاً أيضاً، ولئلا يؤكل أو يفسد فيه كما دفن الغراب الغراب كله، وسنة الميت الدفن لا التسقيف عليه، لأن الله بعث غراباً ليريه كيف يفعل، والغراب لم يسقف بل دفن، ولو أن السنة أجازت اللحد لوجب الدفن بلا حائل سقف.
والكلام على أن شرع من قبلنا شرع لنا هو الصحيح، ولو شهر خلافه وعليه جرى فى الايضاح كما صحح فى السؤالات، وعليه يحمل كلام الايضاح فى باب الاجارات، ولا يرد عليه ردا، وكيف حال من ضمير يوارى وهى استفهامية علقت الاراءة عن التسلط على مفعول به ثان منصوب غير جملة، فالجملة جملة يوارى مفعول الثانى وتعدى الى اثنين، لأن فيه همزة.
قيل: بعث الله الغراب ولم يبعث غيره من الطير ولا من الوحش، لأن القتل كان مستغرباً جدا اذ لم يكن معهودا قبل ذلك، فناسب بعث الغراب.
وذكروا أنه لما رجع آدم من مكة قال لقابيل: أين هابيل؟ فقال: لا أدرى، فقال آدم عليه السلام: اللهم لعن أرضا شربت دمه، فمن ذلك الوقت لم تشرب الأرض دما، ثم ان آدم بقى مائة عام لا يتبسم حتى جاءه ملك الموت فقال له: حياك الله يا آدم وبياك، قال: وما بياك؟ قال أضحكك.
وعن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم:
" امتن الله تعالى على ابن آدم بالريح بعد الروح ولولا ذلك ما دفن حبيب حبيبا " وقابيل قيل: انه أكبر ولد آدم، وهو أول من يساق الى النار من ولد آدم، قال الله تعالى: { ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والانس } وهما قابيل وابليس فما قال مجاهد.
وعن أنس
" سئل النبى صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال: يوم الدم فيه حاضت حواء، وفيه قتل ابن آدم أخاه فلا تحتجموا فيه " قال مقاتل: وكان قبل ذلك السباع والطير تستأنس بآدم، فلما قتل هابيل هربت منه الطير والوحش، وشاكت الأشجار، وكانت قبل ذلك بلا شوك، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبرت الأرض.
وعن الأوزاعى: حدثنا المطلب بن عبد الله المخزومى: لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما فيها سبعة أيام، ثم شربت الأرض دمه كما تشرب الماء، فناداه الله تعالى أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدرى ما كنت عليه رقيبا فقال الله تعالى: ان صوت أخيك لينادينى من الأرض فلم قتلت أخاك؟ قال: فأين دمه ان قتلته فحرم الله تعالى من يومئذ على الأرض أن تشرب دما بعده أبدا.
ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة، وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت حواء شيث، وتفسيره هبة الله، يعنى أنه خلف من هابيل وعلمه الله ساعات الليل والنهار، وعلمه عبادة الخلق فى كل ساعة منها، وأنزل عليه الصحائف الخمسين، وكان وصى آدم وولى عهده، وأما قابيل فقيل له اذهب شريداً طريداً فزعاً مرعوباً لا يأمن من يراه، فأخذ بيد أخته اقليما وهرب بها الى عدن، فأتاه ابليس فقال: انما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك، فبنى بيتا للنار فهو أول من بنى بيتاً للنار وعبدها من المجوس، وقتله ولد له أعمى.
وعن مجاهد: علقت احدى رجلى قابيل الى فخذه، وساقه الى يوم القيامة ووجهه الى الشمس حيث ما دارت فى الصيف حظيرة من النار، وفى الشتاء حظيرة ثلج، فعذبه ذلك حياً، وقيل: ميتاً، واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو وشرب الخمر، وعباد النار والأوثان، والزنى والفواحش، حتى غرقهم الطوفان أيام نوح عليه السلام، وبقى نسل شيث عليه السلام الى يوم القيامة.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما من قال آدم قال شعرا:

تغيرت البلاد ومن عليها ووجه الأرض مغبر قبيح

الأبيات قد كذب على الله ورسوله، ورمى آدم بالماء، ثم ان محمداً صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم فى النهى عن الشعر سواء، كذا قيل. قلت: بل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لا يطيقه، ولعلهم أيضاً كذلك، فمعنى النهى أنهم نهاهم الله أن يتعاطوه، قال الله تعالى: { وما علمناه الشعر وما ينبغى له } بل فى هذه الأبيات ركة، وآدم يكون أفصح من ذلك، لأنه حجة الله، كذا قال الزمخشرى والفخر، ومن أين يلزم لغير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يكون أفصح فى العربية، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سريانى، وانما يتكلم بالشعر من يتكلم بالعربية.
ولما قال آدم مرثية فى ابنه هابيل وهو أول شهيد على الأرض قال آدم لشيث: يا بنى انك وصيى فاحفظ هذا الكلام ليتوارث، فبرق الناس عليه فتناقلوا حتى وصل يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية والسريانية، قيل: وهو أول من خط بالعربية، وكان يقول الشعر فنظر الى المرثية فاذا هى سجع فقال: ان هذا ليقوم شعراً فقدم وأخر فيه ولم يزد ولم ينقص فقال:

تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذى لون وطعم وزال بشاشة الوجه المليح

ويرى كل من القلة بمعنى النفى:

وقابيل أذاق الموت هابيل فواحزنى لقد فقد المليح
ومالى لا أجود بفيض دمعى وهابيل تضمنه الضريح
وجاءت شعلة ولها رنين لهابلها وقابلها يصيح
لقتل ابن النبى بغير جرم فقلبى عند قتلته جريح
أرى طول الحياة على غما فهل أنا من حياتى مستريح
وجاوزنا عدو ليس يفنى لعين ما يموت فنستريح

وقالت حواء أيضاً كلام عرب وجعل شعراً:

دع الشكوى فقد هلكوا جميعا بهلك ليس بالثمن الربيح
وما يعنى البكاء عن البواكى اذا ما المرء غيب فى الضريح
فابك لنفس منك ودع هواها فلست مخلداً بعد الذبيح

أى القتل فأجابها ابليس لعنه الله تعالى:

أزحت عن البلاد وساكنيها فتى فى الخلد ضاق به الفسيح
وكنت به وزوجك فى رخاء وقلبكما من الدنيا نريح
فما زالت مكايدتى ومكرى الى أن فاتك الخلد الربيح
فلولا رحمة الجبار أضحى بكفك من جنان الخلد ريح

{ قَالَ يَا وَيلَتِى }: يا ويلى يا هلاكى قلبت الياء ألفاً، وذلك تحسر على حمله أخاه مدة، وصاح بأن حمله هلاك عظيم دنيوى، وقع فيه فناداه ليحضر مجازاً لتعجب منه الناس.
{ أَعَجَزتُ أَن أَكُونَ مِثلَ هَذَا الغُرَابِ }: استفهام توبيخ لنفسه، والمعنى أعجزت عن كونى مثل هذا الغراب القاتل للغراب الآخر الدافن له فأدفن أخى الذى قتلت كما فعل كما قال:
{ فَأُوَارِىَ سَوءَةَ أَخِى }: أسترها بالدفن فى التراب، والنصب عطف على أكون لا فى جواب الاستفهام، لأن المواراة لا تسبق العجز عنها بل عن القدرة عليها، وقرىء فأوارى بسكون الياء للتخفيف على لغة من يخفف المنصوب المعتل، أو على أنه مرفوع أى فأنا أوارى.
{ فَأَصبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ }: من جملة أهل الندم على ما فعلوا، وقد فات لا ندم توبة بل ندم تحسر على حمله مدة طويلة كما مر، وصيرورته تلميذاً للغراب وسواد لونه وعدم تزوجه لأخته اقليما مع القتل وقع بسببها، ولو قيل انه ذهب بها الى عدن، ومعاداة أبيه أو أمه له، والتجبر فى أمره والتغرب عن الوطن، وعدم انتفاعه بقتله، ولم يسلم من تفضيل الناس أخاه عليه، وقولهم انه تقبل قربانه، ولم يقتل قربان قابيل، وابتلاه الله بأنه لا يمر به أحد الا رماه، أعنى رمى قابيل، وقيل: المراد الندم على حمله على ظهره لدلالة ما سبق عليه، ومناسبته له، والأول أعم، ومن جملة النادمين ابن لقابيل أعمى، قاده ابن له فقال له ابنه: هذا أبوك قابيل، فرماه الأعمى لما علمت أن قابيل يرميه كل من مر به سلط عليه ذلك، وطبع الناس عليه، فلما رمى الأعمى أباه قابيل قتله، قال له ابنه: قتلت أباك قابيل، فرفع يده فلطم ابنه القائل له، فقال: ويلى قتلت أبى برميى، وابنى بلطفى.
وقال الكلبى: لم يحمل أخاه هابيل على ظهره، وانما ندم على عدم دفنه، وقال: انه قتل أخاه هابيل عشية وغدا اليه غدوة الغد لينظر ما فعل، فاذا هو بغراب يبحث فى الأرض لغراب ميت، وحثا عليه التراب فقال: { يَا وَيلَتِى أَعَجَزتُ أَن أَكُونَ مِثلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِىَ سَوءَةَ أَخِى } فحفر لها بيده، وواراه، واختلفوا فى قابيل هل هو مشرك؟ والصحيح أنه فاسق منافق.