التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٩٥
-المائدة

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ }: أى محرمون بحج أو عمرة أو بهما، فان المحرم لا يصيد ولو فى الحل، والمفرد حرام يقال: فلان حرام بحج أو عمرة، أى محرم وقيل: وأنتم داخلون فى الحرم ولو لم تحرموا بحج أو عمرة، وذلك أن صيد الحرم حرام على المحرم، وقيل المعنى وأنتم داخلون فى الحرم أو محرمون بحج أو عمرة، وهذا القول فيه جمع كلمتين بمعنيين مختلفين بلفظ واحد، كقولك: عيون: فى عين الشمس وعين الماء، وعين الوجه، وهو لا يجوز على الصحيح، والمشهور التفسير الأول.
ووجه التفسير الثانى وهو تفسير الحرم بمن دخلوا الحرم، أن النهى عن تحريم الصيد على من أحرم بحج أو عمرة أو بهما مأخوذ من قوله:
{ وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } فيبقى هذا التحريم صيد الحرم، فلا تكرير، ويؤيد الأول ما روى أن الآية نزلت فى أبى اليسر، شد على حمار وحش فقتله وهو محرم فى عمرة الحديبية عمداً، وذكر القتل فى قوله: { لا تَقْتُلُوا } ولم يقل: لا تذبحوا مثلا ليعم أنواع ازهاق الروح، سواء بالذكاة الشرعية على أنواعها أو بغيرها، والصيد هنا ما يصاد من الوحش، وليس مصدراً والمراد ما يؤكل لحمه، ولكن يحمل عليه ما لا يؤكل، وستثنى ما ورد فى الحديث، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " خمس يقتلن فى الحل والحرم: الحدأة والغراب، والعقرب والفأرة والكلب العقور " ويروى: الحية بدل العقرب، وكذا الخنزير لقوله صلى الله عليه وسلم: " بعثت بقتل الخنزير " .
وكذلك كل ما يؤذى لقوله صلى الله عليه وسلم: " اقتلوا كل مؤذ فى الحل والحرام " فاذا كانت العلة الايذاء وأبيح قتلهن ولو فى الحرم لم يمنع المحرم من قتلها ولو فى المحرم، وفى رواية: خمس فواسق يقتلن لا جناح على من يقتلهن فى الحل والحرم، الحديث السابق، وقيل فيما لا يؤكل لحمه مما يؤذى غير ما صرح به فى الحديث اذا قتله المحرم ولو فى الحل أن عليه الجزاء، وعن الشافعى أنه لا جزاء عليه، واذا اعتدى المحرم وذبح صيداً فهو ميتة لا تؤثر فيه الذكاة عندنا، وبه قالت الحنفية، والشافعى فى القديم، وقالت الشافعية: هو حلال الأكل لغير ذلك المحرم ممن كان حلالا أو حراماً وهو جديد الشافعى، ووجهه أن النهى لمعنى غير المذبوح، وهو كون الذابح لا يحل له الصيد، فلم يكن ميتة وهو ظاهر، وقيل لمعنى الصيد المذبوح، فكان ميتة اذا صار فى حق المحرم من جنسه ما لا يؤكل، فالتحق به غير المحرم، وتقتل الحية فى الحال والحرم فى احلال واحرام، لأنها مؤذية.
وفى رواية: خمسة يقتلهن المحرم: الحية والعقرب، والفأرة والغراب الأبقع، والكلب العقور، ويدخل فى الكلب العقور كل سبع يضر الانسان، وقاس بعضهم الذئب قياساً على ما ذكر فى الحديث قال بعض: نبه صلى الله عليه وسلم يذكر هذه الخمس على جواز قتل كل مضر، فيجوز له أن يقتل الفهد والنمر، والذئب والصقر، والشاهين والباشق، والزنبور والبرغوث، والبق والبعوض، والوزغ والذباب، والنمل اذا أذاه قيل: وفى معنى هذه الخمس الحية والذئب والأسد والنمر، والنسر والعقاب، وهذه الأنواع يستحب قتلها للمحرم وغيره، وقيل: يجب قتلها.
وقيل: عن الشافعى وسفيان الثورى وابن حنبل وابن راهويه أنهم وقفوا مع ظاهر الحديث، يبيحوا الا قتل تلك للمحرم، وقاس مالك على الكلب العقور الأسد والنمر والفهد والذئب، وكل السباع العادية، فأما الهر والثعلب والضبع فلا يقتلها المحرم عنده، وان فعل فدى، وقال أصحاب الرأى: ان بدأ السبع المحرم فله أن يقتله، وان ابتدأه المحرم فعليه قيمته.
وقال مجاهد والنخعى: لا يقتل المحرم من السباع الا ما عدى عليه منهما، وعن ابن عمر اباحة قتل الزنبور، لأنه فى حكم العقرب، وقال مالك: يطعم قاتله شيئاً، وكذا قال فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوها، وقال أصحاب الرأى: لا شىء على قاتل هذه كلها، وأما سباع الطير فقال مالك: لا يقتلها المحرم، وان قتلها فدى، وقال ابن عطية: ذوات السموم كلهما فى حكم الحية، وان كسر المحرم بيض صيد أو قلاه حرم عليه، وفى تحريمه على غيره طريقان أشهرهما أنه على القولين، وأشهر القولين التحريم، ولو كسره مجوسى أو قلاه حل، وقيل: لا يحل ولو حلب محرم لبن صيد فهو ككسر بيضة، واذا عم الجراد الطريق ولم يجد بداً من وطئه فلا ضمان عليه.
{ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِدًا }: بأن قصد قتله ذاكراً لاحرامه، لا مخطئاً ولا ناسياً لاحرامه، ومن جهل التحريم فالفعل بالجهل عمد عندنا، وقال قومنا: انه غير عمد، وقال الحسن ومجاهد وابن زيد: العمد هنا أن يتعمد قتل الصيد مع نسيان الاحرام، فهذا هو الذى عليه الجزاء، وأما ان تعمد قتله ذاكراً لاحرامه فلا جزاء عليه، لأنه أعظم من أن تكون له كفارة، فقد حل من احرامه ولا رخصة له، والصحيح أن عليه الجزاء مع العمد، والذكر لاحرامه أيضاً وهو قول ابن عباس والجمهور، وألحق الجمهور بالعمد الخطأ بأن يضرب الى غيره مثلا فيخطأ اليه فيلزمه الجزاء بالسنة.
وقال سعيد بن جبير: لا أرى فى الخطأ شيئاً وهو شاذ، وهو رواية عن الحسن، والآية نزلت فى العمد كما مر آنفا فى قصة أبى اليسر، ولذلك ذكر العمد فبينت السنة أن الخطأ مثله، وأيضا ذكر العمد ليقل فيه بقوله: { وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ } فليس قيداً، وان صاح محرم على صيد فمات بصياحه، أو صاح حلال على صيد فى الحرم فمات، لزمه الجزاء كمن صاح على صبى فمات لزمته ديته، وقيل لا يلزمه الجزاء، وان أصحاب صيداً فوقع على صيد آخر أو على فراخه أو بيضه فهلك ضامن جميع ذلك.
ولو مات محرم فى يده صيد لم يملكه وارثه فى مذهبنا، لأنه لم يدخل ملكه الميت، وزعمت الشافعية أنه ملكه بقبضه وأن وارثه يتصرف فيه ويملكه الا بالقتل والاتلاف، وهو قول باطل، والعمرة التى ليس فيها قتل صيد أفضل من حجة فيها قتله فيما قيل، والأصح أن الحجة أفضل.
{ فَجَزَآءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ }: أى فعليه جزاء، أو فالواجب عليه جزاء أو كفارته جزاء قيل مثل زائد من زيادة المضاف اليه، بل هو مضاف الى ما بعده مضاف اليه ما قبله، فكأنه قيل فجزاء ما قتل باضافة النعم المصدر الى مفعوله، وليس ذلك زيادة بلا فائدة، بل للاشارة الى أنه كل ما أشبه ما قتله فعليه الجزاء، كقولك: مثلك لا يفعل كذا، تريد أنت لا تفعل كذا ما أردت الا هذا، ولكن جئت بعبارة تشير فيها الى علة عدم فعل من تخاطب، حتى أنها لو وجدت فى غيره لم يفعل، ويجوز أن لا يكون زائداً على أن الاضافة بمعنى من الابتدائية أو التبعيضية، على أن الجزاء فى هذا الأخير بمعنى المجزىء به، ويجوز أن تكون الاضافة بيانية على هذا المعنى، أى مجزىء به مع مثل.
وقرأ عاصم والكسائى وحمزة بتنوين جزاء، ورفع مثل على أنه نعت جزاء بمعنى مجزىء به، أى جزاء يماثل ما قتل، وقرأ محمد بن مقاتل بنصب جزاء، ومثل بنصب جزاء على أنه مفعول مطلق، ومثل نعته، والعامل محذوف، أى فليجز جزاء يماثل ما قتل، أو فعليه أن يجزى جزاء يماثل كذا قيل، وفيه أن الجزاء بالمعنى المصدرى لا يماثل حيواناً، فالأولى أنه مفعول به لمحذوف، أى فليعط الفقراء جزاء يماثل ما قتل، أى ما يجزى به.
وقرأ ابن مسعود فجزاءه مثل ما قتل برفعهما على الابتداء والاخبار، ورجع الهاء الى من قتله، ومن النعم نعت لقوله: جزاء، وقرأ الحسن باسكان عين النعم، والمماثلة فى الخلقة والهيئة عندنا وعند الشافعية، لا فى القيمة لأنها ليست هادياً بالغ الكعبة، والله يقول: { هَدْيَا بَالِغَ الكَعْبَةِ } ولأن مشاهير الصحابة حكموا بالمماثلة فى الصورة بالبعير فى النعامة، وبالبقرة فى حمار الوحش، وبالكبش فى الضبع، وفى الظبية الأنثى بالأنثى من المعز، وفى الظبى وبشاة وبالأنثى من المعز الصغيرة المنفصلة عرفها فى الأرنب، وقيل بالتى تقرب من تمام الحول من المعز، وكذا فى اليربوع، وبسخلة فى الضب وهى ولد المعز ذكراً كان أو أنثى، وبشاة فى الحمامة والقمرى، وكل ما هدر وذوات الطوق، فهذه الوحوش لا تساوى هذه الأنعام فى القيمة، ولا يخفى أن بينهن شبها.
وقال الشعبى وأبو حنيفة: المماثلة فى القيمة، لأن من الوحش مالا مثل له من النعم، فيرجع الى القيمة فيحمل عليه ماله مثل، والجواب أن المراد المماثلة فى الصورة ما أمكنت واذا لم تمكن رجع الى القيمة وهى مماثلة أيضا فيقوم الصيد بقيمة المحل الذى صيد فيه، فيشترى به ما يهدى من الغنم أشبهه أم لم يشبهه، أو كان له مما يهدى ما بسواه فيهدى ذلك، وان فضل شىء اشترى به طعاماً فيعطى كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره، أو صام كل مسكين يوماً، وان لم تبلغ قيمة ما يهدى اشترى بها طعاماً وأعطاه كذلك، أو صام كذلك.
وقيل: لكل مسكين مد، وان صام فلكل مد يوم وانما يتصدق على فقراء الحرم على الصحيح، وقيل: يجوز لغيرهم وأما الذبح ففى منى أو الحرم، فما اشترى به مثل ما قتل من النعم صح أنه هدى بالغ الكعبة، وما لم يبلغ أنفذ وخرج عن لفظ الهدى، أو يقال: المراد بالهدى ما يهدى من حيوان أو بقرة، والمماثلة بين المقتول وبين الهدى والطعام أكثر من المماثلة بينه وبين الصوم، وقد ذكر الله المماثلة فى قوله: { مِّثْلُ مَا قَتَلَ } وتفريع المسائل فى الفقه.
{ يَحْكُمُ بِهِ ذّوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ }: يجتهد أن فى تحقيق المماثلة بالذات أو بالقيمة على ما مر فى تفسير المماثلة، وذلك أنه كما يحتاج التقويم الى اجتهاد تحتاج المماثلة فى الصورة لأنها قد تخفى، ولأن الصيد قد يشبه نوعين أو أنواعاً من النعم فيحققان الشبه الراجح ينظر العدلان الى أشبه الأشياء به، فحكم به فلم يصح لأبى حنيفة الاستدلال بهذا على أن المماثلة بالقيمة اذ كانت المماثلة فى الصورة تحتاج الى الاجتهاد، ومعنى منكم أن يكون العدلان مسلمين، وينبغى أن يكونا فقيهين.
قال الخازن، قال ميمون بن مهران: جاء أعرابى الى أبى بكر رضى الله عنه وقال: انى أصبت من الصيد كذا وكذا فما جزاءه، فسأل أبو بكر أبى بن كعب رضى الله عنه، فقال الأعرابى: أنا آتيك أسألك، وأنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر: وما أنكرت من ذلك وقد قال الله تعالى: { يَحْكُمُ بِهِ ذّوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } فشاورت صاحبى، فاذا اتفقنا على شىء أمرناك به.
ومثل هذا ما روى أن قبيصة أصاب ظبياً وهو محرم، فسأل عمر رضى الله عنه فشاور عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه، ثم أمره بذبح شاة، فقال قصيبة لصاحبه: والله ما علم أمير المؤمنين حتى سأل غيره، فأقبل عليه ضرباً بالدرة أتقتل الصيد وأنت محرم وتغمض الفتيا أى تحقرها، قال الله تعالى: { يَحْكُمُ بِهِ ذّوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } فأنا عمر وهذا عبد الرحمن، وجملة يحكم به ذوا عدل منكم نعت جزاء، لأن اضافته لمثل لا تقيده تعريفاً ان أضيف أو حال من جزاء فى قراءة نعته بمثله، أو حال من جزاء فى وجه الغاء مثله، فيكون جزاء بمنزلة ما أضيف لقوله: { مَا قَتَلَ } وأجيز أن يكون حالا من جزاء على الاضافة، على أن اضافة مثل تفيد التخصيص، واذا جعل مثل مبتدأ لم يجز أن تكون حالا منه، واذا جعل مبتدأ المحذوف جاز كونها حالا من ضمير جزاء فى خبره أى فعليه جزاء، ففى عليه ضمير مستتر أو فجزاء مثل ما قتل من النعم واجب، ففى واجب ضمير جزاء، وقرأ جعفر بن محمد يحكم به ذو عدل على ارادة الجنس الصادق باثنين، ولذلك أفرد، وقيل: المعنى فى قراءته المفرد لفظاً ومعنى وهو الامام العدل.
{ هَدْيَا بَالِغَ الكَعْبَةِ }: حال من الهاء فى به مقدرة، لأنه حين الحكم هدياً بل اذا عينه وساقه كان هدياً أو حال من جزاء ان وصف جزاء أو أضيف، أو بدل من جزاء ان نصب جزاء، أو من مثل ان نصب مثل أو خبر لأنه ولو جر محله النصب، لأنه مفعول الجزاء أضيف اليه جزاء، وبالغ نعت هدياً لأنه وصف للاستقبال فاضافته لمفعوله وهو الكعبة لفظية اذ أصله أن ينون وينصب الكعبة، فخفف بالاضافة المزيلة للتنوين.
وسمى البيت كعبة لتكعبه أى ارتفاعه، أو لتربيعه، ومعنى بلوغ الكعبة بلوغ الحرم، فانه يذبح فى الحرم لا فى الكعبة أو المسجد، وتسمية الحرم كعبة مجاز مرسل لعلاقة الكلية والجزئية أو احداهما فهو يذبح فى الحرم فى منى، أو فى دار من دور مكة، أو فى غير ذلك من الحرم، وبتصدق به فى الحرم.
وقال أبو حنيفة: يذبح فى الحرم، ويتصدق به حيث شاء، وظاهر قوله: { هَدْيَا بَالِغَ الكَعْبَةِ } أنه لا بد أن يؤتى بالهدى من الحل حتى يصل الحرم.
{ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ }: باضافة كفارة لطعام عند نافع وابن عامر اضافة بيان الى، أو كفارة هى طعام مساكين، وقرأ الباقون بتنوين كفارة، ورفع طعام على أنه خبر لمحذوف، أى هى طعام مساكين، أو عطف بيان لكفارة، أو بدل منه وكفارة معطوف على جزاء فى قراءة رفعه، وان نصب جزاء فكفارة خبر لمحذوف، أى أو جزاءه كفارة، أو الواجب كفارة أو مبتدأ محذوف الخبر، أى فعليه كفارة أو معطوف على أن يجزى اذا قدرت فعليه أن يجزى جزاء الأقل ما قتل، وقرأ الأعرج أو كفارة طعام مسكين، وانما لارادة الجنس.
ومعنى أو كفارة طعام مساكين أن يشترى بقيمة ما لزمه من الهدى طعاماً فيعطى كل مسكين مداً، وقيل: مدان على ما مر، وذلك غالب قوت الموضع الذى صاد فيه، ويقوم باعتبار الموضع أيضاً عند الجمهور، وقال الشعبى: يقوم باعتبار مكة، لأنه يعطى فيها أو فى غيرها من الحرم، وقيل: يجوز فى غير فى ذلك من الحل.
{ أَوْ عَدْلُ ذّلِكَ صِيَامًا }: بأن يصوم لكل مد يوماً، وقيل: لكل مدين يوماً، وصياماً تمييز، وعدل ذلك بمعنى ما عادله، والاشارة الى الطعام المذكور، وذلك أن تعتبر قيمة الهدى أو قيمة الصيد، فينظر ما تسوى من الطعام فيصام مكان كل مد منه أو مدين يوم، وأصل عدل مصدر ثم أطلق على ما يعادل به الشىء من غير جنسه، وقرىء بكسر العين وهو ما عادل الشىء فى المقدار والصيام حيث شاء، لأنه لا نفع فيه للفقراء، وأو للتخيير فى الموضعين، فالحكمان مخيران يحكمان بما شاء من هدى أو اطعام أو صيام، لأن الله تعالى قال: { يَحْكُمُ بِهِ ذّوَا عَدْلٍ } هذا ما ظهر لى، ثم رأيته والحمد لله، مذكوراً عن محمد بن الحسن من أصحاب أبى حنيفة.
وقال الجمهور: يذكر الحكمان ان صاد هذه الأنواع ويبين له فيختار هو، وقال أحمد بن حنبل، وزفر من أصحاب أبى حنيفة: أنه لا يجزيه الاطعام الا ان لم يجد الهدى حيواناً، ولا يجوز الصوم الا أن يجد الاطعام، فذلك عنهما على ترتيب لفظ الآية، وهو رواية عن ابن عباس، والصحيح عنه التخيير وهو المشهور، والأولى أن يقال: يخير فى الهدى والطعام، ولا يصوم الا ان لم يجدهما، وقيل: يخر الحكمان من صاد فى أن يهدى أو يطعم أو يصوم، فما اختار حكما عليه بما لزمه منه، وان اختار الهدى فما لم يتم به الهدى وأدناه شاة أو فضل ما لا تتم به، فما لم يتم يخير انه فيه بين الاطعام والصوم.
وقيل: يقوم الصيد طعاماً لا دراهم، وان قوم دراهم فاشترى بها طعام رجوت أن يكون واسعاً، وقيل: يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد، ثم يقال: كم من الطعام يشبع هذا العدد، فان شاء أخرج ذلك الطعام، وان شاء صام عدد أمداده وهو أحوط، لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة، وبهذا النظر يكثر الطعام.
{ لِيَذٌوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ }: متعلق بيحكم أو بجزاء أو بخبره المحذوف أو مبتدئه المحذوف، أو ناصبه المحذوف، أو بمحذوف أى ألزمناه ذلك ليذوق، والوبال الضر أى ليذوق سوء العاقبة الذى أوجبه أمره، وأمره هو قتله الصيد وهو محرم متعمد، وذلك الوبال هو ما لزمه من الجزاء، فهو فى الدنيا، ولكن ان لم يتب عوقب فى الأخرى، وسماه وبالا لثقله، يقال: طعام وبيل أى ثقيل على المعدة.
{ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ }: من قتل الصيد عمداً حال الاحرام فى الجاهلية، قاله عطاء وغيره، وقيل: عما سلف، وقيل: التحريم وان قيل: عفا الله عما سلف من ذلك قبل التحريم شمل ما سلف منه فى الجاهلية منه، وما سلف فى الاسلام قبل أن ينزل التحريم، أو عفا الله عما سلف منه فى هذه المرة، وقيل عما سلف من الصيد عمداً حال الاحرام قبل أن تسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ }: ومن عاد الى الصيد حال الاحرام عمداً بعد ذلك التحذير، فهو ينتقم الله منه، ومعنى من عاد من وقع فى الصيد، سواء قد صاد قبل أو لم يصد فعاد مجاز مرسل للاطلاق والتقييد، أو أحدهما وانما قدرت المبتدأ فيكون ينتقم خبره، وجملة المبتدأ والخبر لأن ينتقم لو كان وحده هو الجزاء لجزم ولم يقرن بالفاء، لأنه يصلح شرطاً، والتحقيق عندى أنه لا يرفع المضارع الجوابى ولو كان الشرط ماضياً لا كما شهره ابن مالك.
ومعنى انتقام الله منه أنه يشتد عليه التحريم من الله، ويعظم عقابه فى الآخرة مع لزوم الجزاء، فذنب العالم أعظم من ذنب غيره، والذنب مع تكرير الانذار أعظم هذا ما ظهر لى، ثم رأيته للجمهور وبه قال مالك وغيره من أصحابه، وعطاء، وابراهيم النخعى، وسعيد بن جبير، والحسن، وشريح، وعن ابن عباس، وداود الظاهرى: أنه ان عاد لم يحكم عليه بالجزاء، وانما يقول له الحكمان: اذهب ينتقم الله منك وهو رواية عن ابراهيم النخعى وشريح أخذه بالظاهر اذا لم يذكر فيه الكفارة، والصحيح الأول.
وروى أن رجلا عاد فنزلت عليه نار فأحرقته وأكلته، روى عن ابن عباس: عفا الله عن المتعمد أول مرة، وعليه الجزاء، وان اجترأ وعاد ثانياً فلا يحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك، وروى عنه لا جزاء عليه لأنه وعده بالانتقام منه، وعنه اذا قتل صيداً سئل هل قتل قبله آخر، فان قال: نعم لم يحكم عليه، ويقال له اذهب فينتقم الله منك، وان قال لم أقتله قبله شيئاً حكم عليه، فان عاد بعد ذلك لم يحكم عليه، ولكن يملأ صدره وظهره ضرباً، وهذه الآثار عنه تصرح أن اعتبار المرة الأولى بالعفو والجزاء، والثانية بالانتقام، وعدم الحكم بالجزاء مستمر الى يوم القيامة.
وقيل: الذى عندى أن الناس بعد نزول هذه الآية داخلون فى حكم الانتقام، وأن عليهم الجزاء، وأن الجهل بالتحريم وقد مر لك تفسيرى عاد بمعنى وقع فى الصيد، ولو لم يتقدم له اصطياد، وأما آثار ابن عباس فيخرج أن العود هو على حقيقته من الصيد مرة ثانية بعد المرة الأولى، وزعم أن الانتقام لزوم الكفارة.
{ وَاللهُ عَزِيزٌ }: لا يغلبه أحد عما أراد.
{ ذُو انتِقَامٍ }: ممن عصاه بالصيد عمداً حال الاحرام ومن سائر من عصى الا من تاب.