التفاسير

< >
عرض

قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ذٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
١٥١
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ قُلْ تَعالوْا } أمر من التعالى وهو تفاعل للعلاج، وثلاثيه علا يعلو، وأصله أن يقوله من كان فى مكان عال لمن كان فى أسفل، أى عالج الصعود إليه، ثم استعمل لمطلق طلب الإتيان والحضور من أسفل إلى علوّ، أو من علو إلى أسفل، أو من أحد مستويين إلى الآخر، وأصل ذلك الأصل أن يقال: تعال عالج الصعود إلى مكان علىّ، سواء كان القائد فى المكان العالى المطلوب الصعود إليه أو فى غيره من عال، أو منخفض، ثم اعتبر لأن بقوله: من كان فى عال لمن أراده أن يصعد إليه، ثم فى طلب الإتيان مطلقا.
ولام الكلمة فى تعالوا محذوف واو الجمع المذكورة فيه، قال كعب الأحبار: والذى نفس كعب بيده إن مفتتح التوراة { بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم عليكم ربكم } إلى آخر الآيات التى فيها ذكر التحريم، قال ابن عباس: اجتمعت الشرائع على هؤلاء الآيات ولم تنسخ قط، وقد قيل: إنه العشر الكلمات التى نزلت على موسى، وقال: من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار. وعن ابن مسعود: من سره أن ينظر إلى الصحيفة التى عليها خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقرأ { قل تعالوا أتل } إلى قوله: { تتقون }.
{ أتْلُ ما حرَّم ربُّكم عليْكم } أتل مجزوم فى جواب الأمر بمعنى اقرأ وهو مضارع للمتكلم الذى هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما اسم موصول، أى النوع الذى حرمه ربكم، أو نكرة موصوفة أى أشياء حرمها ربكم عليكم، أو مصدرية، أى أتلوا تحريم ربكم، والتحريم لا يتلى لأنه معنى فيقدر مضاف، أى ألفاظ التحريم، لأن المتلو ألفاظ القرآن الدالة على التحريم لا المحرمات أنفسها، ولذا لم أُأَوّل التحريم بالمحرمات كما فعل بعض العلماء، ويجوز أن تكون ما استفهامية مفعولا مقدما لحرَّم، وجملة حرم ربكم مفعول لأتلو، سوغ نصبه الجملة الاستفهام، أى أتلو أى شئ حرم ربكم عليكم، وعليكم يتعلق بحرم ويقدر مثله لأتل، أو أو يعلق بأتل ويقدر مثله لحرم.
{ ألاَّ تشْركوا به شيئاً } إن حرف تفسير، ويجوز أن تكون مصدرية عند من يجيز دخول المصدرية على النهى والأمر، ولا حرف نهى فيفسر نفس التحريم بنفس النهى عن الإشراك، والأمر فى قوله: { وبالوالدين إحساناً } معطوف على هذا النهى، فيكون مفسراً للتحريم، لكن باعتبار ضده، وهو الإساءة إلى الوالدين، فإنها هى المحرمة من حيث إن الأمر نهى عن تركه مضمونه، فإن معنى أحسنوا بالوالدين لا تتركوا الإحسان إليها إلى الإساءة ولا إلى حال ليست بإحسان، ولا بإساءة، ولذا لم أقل الأمر هنا نهى عن ضده الذى هو الإساءة، لإنه لم ينه عن الإساءة فقط، بل عن البقاء بلا إحسان، ومن جعل أن ناصبه ولا نافية جعل عليكم اسم فعل ناصبا لقوله: { ألا تشركوا } أى الزموا عدم الإشراك، فيكون مبتدأ تفسير التحريم من قوله: { عليكم } فيكون عطف الأوامر والمناهى بعد على عليكم.
ويجوز أن تكون لا صلة للتأكيد، والمصدر بدل مما أو من عائدها المحذوف، أى حرمه أو على التحريم على أنها مصدرية، ويجوز بقاء لا على النفى، ويقدر لام الجر والتعليم، أى لئلا تشركوا وتعلق بأتل، ويجوز تعليقه لحرم، ويجوز إبقاؤها على النفى، ويكون ذلك خبر المحذوف، أى المتلو ألاَّ تشركوا، أيجوز أيضا على جعل لا ناهية عند مجيز الإخبار بالنهى، وإدخال أن المصدرية على النهى، ويجوز جعل لا صلة للتأكيد، ويقدر المبتدأ هكذا: المحرم أن تشركوا، وشيئا مفعول به، أى ألا تشركوا بالله صنما ولا شيطانا ولا غيرهما، أو مفعول مطلق أى لا تشركوا به إشراكاً، ويجوز تقدير وبالوالدين إحساناً إخباراً، أى وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً فيجعل ألا تشركوا غير نهى فيعطف عليه، ودخل فى الإشراك الرياء، فمن رائى أحداً فقد أشركه بالله تعالى.
{ وبالوَالديْن إحْساناً } وأحسنوا بالوالدين إحساناً أو وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً، فإحساناً مصدر نائب عن فعله فى الوجه الأول، ومصدر مؤكد على الثانى، فالوجه الثانى تخريج على القول بجواز حذف عامل المصدر المؤكد، أتبع حق الوالدين حق الله لأنهما سبب وجود الإنسان ومربياه بحفظ وشفقة.
{ ولا تقْتلُوا أوْلادكُم من إمْلاقٍ } من فقر، وقيل: جوع، ومن للتعليل متعلق بتقتلوا، ويقدر مضاف أى من خشية إملاق، كما قال فى الآية الأخرى: { خشية إملاق } وظاهر الآية عموم الأولاد، والمنقول أنهم يقتلون الإناث، وذكر فى الآية الأخرى أنهم إما أن يمسكوا الإناث على هون أو يدسوهن فى التراب، فلعل القتل للإملاق يقع فى أولادهم الذكور والإناث، وزادت أولادهم الإناث بأنهم يقتلونهن لدمامتهن، أو خوف عيب يلحقهم بهن أو غير ذلك مما مر، وقال الله فى قتل الإناث من الأولاد:
{ { وإذا الموءودة سئلت بأى ذنب قتلت } }. { نحْنُ نرزقُكُم وإيَّاهُم } رد الله عليهم السبب الذى يقتلون أولادهم به وهو خوف الفقر، نحن نرزقكم بأن الله جل وعلا يرزقهم ويرزق أولادهم، تكفل برزق الجميع، وجعل لكم منهم رزقا على حدة، وليس الرزق لهم فقط فشاركهم أولادهم فيه، وما على الوالد من رزق ولده شئ، بل تربيته والمحافظة عليه والتسبب، قال القشيرى: خوف الفقر قرينة الكفر، وحسن الثقة بالرب سبحانه وتعالى نتيجة الإيمان.
{ ولا تقْربُوا الفَواحِشَ } كبار الذنوب أو الزنى، والأول أولى لعمومه، يدخل فيه الزنى الذى قيل: هو سبب النزول، ولا يمنع خصوص لسبب النزول تعميم اللفظ، إذ كانوا يكرهون الزنى علانية، ولا يرون به بأسا إذا كان سراً فحرمه الله كله، أو كل الكبائر ما كان علانية وما كان سراً فقال:
{ ما ظَهَر منها وما بَطَن } وترك المعصية ظاهرا فقط عابدة للمخلوق لا للخالق، كفعل العبادة ظاهراً فقط، وقال الضحاك: ما ظهر الخمر وما بطن الزنى، ولعله تمثيل لما يظهر وما يبطن، لا تخصيص، والأولى التعميم كما علمت، ونسب القول بأن ما بطن الزنى سراً بالمخادنة، وما بطن الزنى ظاهراً إلى ابن عباس الكلبى، والنهى عن القرب من فعل أبلغ من النهى عن فعله، وما بدل من الفواحش به لا مطابق باعتبار ما عطف عليه، وذلك على أن المراد بما ظهر وما بطن نفس الفواحش، وإن أريد جزاء كل فاحشة ظهرت، وجزاء كل فاحشة بطنت، وإذا نهى على الجزاء نهى عن الكل بالأولى، فيكون نهى عن للكل مرتين: مرة بالتصريح ومرة بالإفهام، وإن أريد بما ظهر منها وما بطن أحوالها وسائلها فبدل اشتمال.
{ ولا تقْتلُوا النَّفس التى حَرَّم الله إلا بالحقِّ } إلا مقترنين بالحق فى قتلها، أو إلا قتلا مقترنا بالحق فى قتلها، كقتلها قصاصا، وقتل المرتد، ورجم المحصن، وقتل الباغى، وقتل النفس داخل فى الفواحش، وخص بالذكر إعظاماً له، وليصح الاستثناء منه لما كان بالحق، إذ لا حق فى الفواحش يستثنى، وخص ذكر الأولاد قبل هذا العموم، لأن قتل الإنسان ولده أفظع قتل، لأنه أيضا قطع رحم أشد قربا، ولأنه لا ذنب إذ هو غير مكلف، ولأنه ضعيف لا ناصر له لضعفه، ولكون قاتله هو أشد الناس اتصالا به، وأشدهم موالاة لأمره، ومخاطبة به، كذا ظهر لى، وإن قلت: كيف يستثنى ما كان قتله حقا مما كان قتله قد حرمه الله؟
قلت: وجهه أن الله حرم قتل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمن كان هكذا حرم قتله، إلا أن يأتى بما يحق به قتله كما قال ابن مسعود رضى الله عنه عن رسول صلى الله عليه وسلم:
"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، وقتل النفس التى حرم الله، والارتداد"
{ ذَلكُم } أى ما ذكر من النهى عن الإشراك وقتل الأولاد وغيرهم، وقرب الفواحش، والأمر بالإحسان للوالدين { وصَّاكُم به } أمركم به أمراً عظيما، التوصية أعظم من الأمر، لأنها أمر تضمن أمر محافظة، فإما أن يكون ما مر من الأمر والنهى وصية، ولا نعلم من مجرد اللفظ أنه وصية، فأخبرنا الله بهذا أنه أمرنا به توصية، وإما أن يكون غير وصية، ولكن إنشاء الإيصاء بقوله: { وصاكم به } وإنما أن يكون سمى ما أكل به الكلام كله أيضا، لأنه أكله بذكر: قل وتعالوا وأتل وحرم وربكم وعليكم، وأكد لا تشركوا به شيئا نكرة فى سياق النفى إذ لم تذكر معرفة وأحسنوا بـ "إحساناً" وناب عنه، أو تحسنوا بإحسانا، وأكد { لا تقتلوا أولادكم من إملاق } بنحن نرزقكم وإياهم، والزجر عن الفواحش بلا تقربوا، وبما ظهر منها وما بطن، والزجر عن قتل النفس بقوله: { حرم الله } إذ لو قيل يعدلون ولا تشركوا به، وأحسنوا بالوالدين، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، ولا تفحشوا ولا تقتلوا النفس إلا بالحق لكفى، ومعنى التوصية بما أمر به ونهى عنه التوصية بالمحافظة عليهما بفعل المأمور به، واجتناب المنهى عنه.
{ لعلَّكم تعْقِلُون } لتفهموا ما فى ما وصاكم به من المصالح ودفع المضار، أو ليكمل عقلكم الغرزى بالاكتساب، أو لترشدوا وتخرجوا عن حد السفه أو لتتدبروا.