التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّٰهُمْ فِي ٱلأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا ٱلسَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا ٱلأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَٰهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ
٦
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ ألم تَروْا كَم أهْلَكْنا قَبْلهم مِنْ قَرنٍ } القرن أهل عصر فيه نبى أو فائق فى العلم كان العصر قليلا أو كثيراً، فالقرن أهل ذلك العصر لا نفس العصر، وهو مأخوذ من قرنت الشئ بالشئ، فأهل العصر اقترنوا بعض ببعض لاحتواء الزمان عليهم، أو اقترنوا زمانهم، أو بأمة قبلهم وبعدهم إذ تعاقبوا، وقيل: القرن عشرة أعوام، وقيل عشرون، فهكذا العقود كلها أقوال إلى مائة، وقيل: مائة وعشرون، وأطلت الكلام على ذلك فى شرح المخمس لأبى نصر رحمهُ الله، وعلل القول بأنهُ سبعون عاماً لأنها أغلب أعمار الناس، والقول بأنه مائة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبعض الصحابة: "تعيش قرناً" فعاش مائة سنة، وهو عبد الله بن بشر المازنى، وصحح هذا.
والقرن فى هذه الأقوال نفس الزمان، فيقدر مضاف، أى من أهل قرن، أو سماهم باسم زمانهم، سمى الزمان قرناً لاقترانه بزمان قبله، وزمان بعده، أو بأهله، والقرون المهلكة كقوم نوح، وقوم عاد، وثمود، وكم للتكثير خبرية مفعول مقدم لأهلكنا، ومن قرن بيان لكم نعت لها، وجملة أهلكنا مفعول ليروا، سوغ تسلطه على الجملة تعليقه عن نصب مفردين، أو مفرد وجملة بالاستفهام وذلك المفعول قائم مقام المفعولين، إذ الرؤية علمية، ويجوز أن يكون بصرية لأنها تعلق أيضا، ومعنى رؤيتهم أنهم أبصروا مساكين المهلكين، والعلمية أولى.
{ مَكَّنَّاهُم فى الأرضِ مَا لَم نُمكِّن لَكُم } ثبتناهم فى الأرض تثبيتاً لم نثبته لكم، أو ثبتناهم فى الأرض التثبيت الذى لم نثبته لكم، فالتمكين الأول بمعنى التثبيت المتعدى لمفعول غير المفعول المطلق، وللمفعول المطلق الذى هو ما الموصولة، أو الموصوفة الواقعة على التمكين بمعنى، والثانى متعد إلى مفعول هو ضمير المصدر محذوف على أنه مفعول به رابط الصلة، أو الصفة، بمنزلة قولك: مكناهم تمكيناً لم نوقعه لكم، أو التمكين الذى لم نوقعه لكم، ولا يصح رد جعلها موصولة بأنها لا تقع نعتاً للمعرفة، لأنا إذا جعلناها موصولة لم نجعلها نعتاً للمعرفة، بل نقول: هى واقعة على التمكين، وهذا كما تقول فى جاء الذى قام إن الذى واقع على الرجل، وإنما نجعل التمكين منعوتاً إذا عبرنا بالذى، وذلك من مكن شئ فهو مكين أى متين وقوى.
ويجوز أن يكون مكنَّاهم بمعنى أعطيناهم، فما مفعول به ثان واقعة على القوى، والجسمية والأموال والآلات والعدد والعدة أعطيناهم من ذلك ما لم نعطكم، وعدى نمكن لا ثانى لواحد محذوف، أى نمكنه وضمن معنى ندفع، فعدى الآخر باللام أى ما لم ندفعه لكم.
{ وأرْسَلنا السَّماء عَليْهِم مِدْراراً } السماء بمعنى المطر، سمى سماء لأنه يجئ من جهة السماء، أو لأنه كان الماء قبل إرساله غالباً مضلا، وكل عال مفضل من فوق يسمى سماء، أو السماء لمعنى السحاب على حذف مضاف، أى ماء السحاب، أو السماء لمعنى السماء الدنيا، أو لمعنى الفلك المحيط، فإن الماء ينزل من السماء، أو من الفلك إلى الأرض، فيقدر مضاف أيضا، أى ماء السماء أو ماء الفلك، ونزل نزول بكثرة بنزول السحاب نفسه، أو السماء نفسها، أو الفلك نفسه على طريق العرب فى المبالغة، ومدراراً متتابعاً بكثرة حال، والسماء صفة مبالغة من الدر بمعنى التتابع، وذلك من در اللبن دروراً هو دار، أى كثر ورده على الحالب، والخطاب فى لكم لمشركى قريش على طريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، والغيبة فى عليهم لهم أيضا على طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، هذا ما ظهر، وقيل: الخطاب للمؤمنين، وقيل: لهم وللناس المعاصرين لهم من أى جنس.
{ وجَعَلنا الأنْهار تَجْرى مِنْ تَحْتِهِم } أى من تحت أشجارهم على حذف مضاف، أو المراد يجريها من تحتهم الكناية عن كثر أو كثيرة ماؤها، فكان يسيح فى أكثر أرضهم، ويطئون ماءه، فعاشوا فى الخصب والريف والثمار، ولم يشكروا النعم، بل انهمكوا فى الذنوب.
{ فأهْلكْناهُم بذنُوبِهِمْ } ولم نغن عنهم قواهم ومالهم وجاههم وعددهم وعدتهم شيئاً، والمراد بالإهلاك بذنوبهم إماتتهم بالإغراق والريح والصيحة وغير ذلك بسبب ذنوبهم.
{ وأنشأْنا مِنْ بَعْدهم } بعد إهلاكهم { قرناً آخَرِينَ } عمرنا بهم البلاد، فاحذروا أن نهلككم ونبدّل بكم غيركم.