التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّيۤ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٧٤
-الأنعام

هميان الزاد إلى دار المعاد

{ وإذْ قالَ إبراهِيم لأبيه آزَرَ } أى واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم لأبيه آزر، اعلم أن آزر أبو إبراهيم لا عمه، قال محمد ابن إسحاق والكلبى والضحاك: آزر اسم أبى إبراهيم، وله اسم آخر وهو تارخ بالخاء المعجمة، وقيل بالمهملة، قال الزجاج: أجمع النسابون أن اسمه تارح بالمهملة، فآزر اسمه، وتارح لقبه وهو بالفارسية الشيخ الهرم، وهذا أنسب بمن يقول إنه من كوتى سواد الكوفة، لأن أصل الفارسية فى العراق، وقيل: بلغة أهل خوارزم، وليست من فارس، وقيل: معناه المعوج، وقيل: معناه المخطئ، لقبه إبراهيم باسم المخطئ لكفره، قد أباح الله له ذلك أو لم يعرف به أبوه أو لا يضيق به أبوه، وقيل: فى غير هذه السورة نسب إبراهيم عليه السلام.
وأجاز بعض أن يكون آزر لقباً واسمه تارخ وهو خلاف الأصل، لأن المذكور فى القرآن لفظ آزر، وكذا فى الحديث، ولا دليل على أنه لقب فليحمل على الأصل وهو أنه اسمه، فإن الاسم أقدم من اللقب، وأصل له غالباً قال صلى الله عليه وسلم:
"يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه أزر قترة وغبره" بل لا ثقة لنا أن تارخ اسم له ولا لقب، فإنه يتبادر أنه إنما أخذه بعض العلماء والنسابين كمن ذكرناهم عن أهل الكتاب، ولا وثوق بما يقول أهل الكتاب.
وقال سعيد بن المسيب ومجاهد: اسمه تارخ، وآزر اسم صنم يسمى به بعد أن كان يعبده لحبه إياه، وقيل: يقدر مضاف، أى يا عبد آزر، وعلى ذلك كله يكون آرز بدلا أو بياناً لأبيه، وقيل: مفعول لمحذوف أى أتعبد آزر، أى أتعبد ذلك الصنم المسمى آزر، ففى هذا الهمزة للاستفهام الإنكارى التوبيخى، والألف بعدها أصلها همزة مفتوحة أو مكسورة قلبت ألفا، ولا وثوق بما يخالف القرآن بلا سنة عن ثقات يؤول القرآن بها، ولا إجماع على أن اسمه تارخ، ولو سلم فإن هذا الإجماع ينتهى إلى يهودى أو نصرانى، أو إلى قول مسلم واحد ككعب ووهب، فلا عبرة بادعاء هؤلاء النسابين الإجماع، حتى طعن بعض المشركين فى القرآن بأنه تارخ لا آزر بإجماع النسابين، فإن ذلك باطل بما ذكرت لك، ولأنه لا مانع من كونه يسمى آزر ويلقب تارخ قيل أو بالعكس.
وزعمت الشيعة أن آزر عم إبراهيم وهو مشرك، وأبوه مؤمن أعنى أبا إبراهيم، والعرب تسمى العم أباً كقوله تعالى:
{ قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل } فيسموا الأبعد أبا ليعقوب وهو عمه، وفى الحديث: "العم أحد الأبوين" "وعنه صلى الله عليه وسلم فى عمه العباس رضى الله عنه: ردوا علىَّ أبى" واحتجوا بقوله تعالى: { { وتقلبك فى الساجدين } أى تقلبك من صلب مؤمن ساجد لله إلى صلب مؤمن ساجد لله تعالى.
الجواب: أن معناه أنه يتقلب مع الصحابة الساجدين يصلى بهم جماعة، والمؤمن يسمى ساجداً لأنه يسجد ويدين بالسجود لله تعالى، أو تنقله ليلة نسخ وجوب الليل على غيره صلى الله عليه وسلم من دار صحابى إلى دار آخر ينظر كيف حرضهم على الطاعة فيجدهم فى بيوتهم كالزنانير فى بيوتها لكثرة ما يسمع أصوات قراءة القرآن وتسبيحهم وتهليلهم، أو اشتغاله معهم بأمور الدين أو تقلب بصره فيمن يصلى خلفه إذا سلم، أو فى صلاته على ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:
"أتموا الركوع والسجود فإنى أراكم من وراء ظهرى" أو المراد بالتقلب ذلك كله.
والتقلب اسم جنس يصلح للكثير والقليل فليس وضعاً للمشترك فى معانيه، ولا يدخل فى هذه الكلية ما زعمه الشيعة عن كون التقلب فى الساجدين التقلب فى أصلاب المؤمنين، واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات" فليس فى آبائه صلى الله عليه وسلم مشرك لقوله تعالى: { { إنما المشركون نجس
}. والجواب: أن المراد الطهر عن الزنى كقولهم: طاهر الإزار، ونجس المشرك ذنوبه، أو عدم تحرزه عن النجس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب نسبى سفاح الجاهلية" فهذا معنى قوله: "لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين" إلخ، وفى الحديث: "يتشبث إبراهيم بأبيه آزر يوم القيامة ويقول: يا رب دعوتك أن لا تخزينى يوم تبعث الناس، فيقول الله له: يا إبراهيم انظر إلى قدمك فينظر فيخسف بأبيه فى النار"
. وروى أنه بينما هو يتشبث به، إذا مسخ ضبعاً فيقال له: أهذا أبوك؟ فيقول: لا، فيجر بمنخره إلى النار، وإنما يحتاج لتكلف المتكلفين لو ثبت أن أباه ليس اسمه آزر، ولا دليل على ذلك، ولو كان ذلك لاستظهر به أهل الكتاب لحبهم تكذيب القرآن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، قرأ يعقوب آزر بضم الراء على النداء بمحذوف، وهو يدل أن آزر علم، لكن قيل أيضاً بجوار حذف حرف النداء ومنع آزر من الصرف للعلمية والعجمة، سواء قلنا إنه علم أو لقب، لأن اللقب علم، ولا يلزم من كونه بمعنى الضال أو المخطئ أو المعوج أو الشيخ الهرم أن يكون وصفاً، لأن اللقب أيضا مع كونه غير وصف يدل على مدح أو ذم، ولا مانع من الذم طبعاً بالهرم.
ولما اعتبر بعضهم هذه المعانى قال: إن تارخ علم، وآزر وصف فى لغة العجم بتلك المعانى، فيكون اسم جنس عجمى كلجام لكنه وصف، والعجمة وحدها لا تمنع الصرف، ولا مع الوصف فلعله منع الصرف لوزن الفعل، والحمل على وزن أفعل فى العربية، لأن آزر كأعور وأقبح، وقيل: هو لفظ عربى، فوزن أفعل وصف ممنوع من الصرف للوصفية ووزن الفعل مشتق من الوزر، أو من الأزر، والصحيح أنه علم أعجمى، ويناسب القول بأنه وصف عجمى قراءة بعضهم أإزر بهمزة الاستفهام، فهمزة مكسورة أو مفتوحة بزاى ساكنة وراء منونة بعدها ألف هو الألف الذى يكتب المنصوب المنون، وهذا القارئ يقرأ بعده تتخذ بلا همزة، بل يجعل ألف المصحف هو ألف التنوين، فلو كان عالما للصنم أو لأبى إبراهيم لم ينون للعلمية والعجمة، والحق منع الصرف، وأنه علم لأبى إبراهيم، وكان أبوه آزر نجاراً محسناً مهندساً، وكان نمرود يتعلق بالهندسة والنجوم، فحضر عنده آزر فى ذلك، وكان أميراً على عمل الأصنام يعمل بأمره وتدبيره، ويطبع هو فى الصنم بخاتم معلوم عنده، وحينئذ يعبد ذلك الصنم.
وزعم قومنا أنه كان يعطى إبراهيم الأصنام يبيعها وهو طفل، ويقول: من يشترى ما يضره ولا ينفعه، ويستخف بها ويجعلها فى الماء منكوسة إذا بارت عليه، ويقول لها اشربى وحاشاه أن يبيعها، وهذا خطأ فاحش من قومنا، كيف يبيع نبى الله الأصنام ويبيعها دعاء إلى عبادتها، وهذا لا يجوز على الأنبياء ولو فى الطفولية لا يجوز هذا، ولو كان يقصد أن ينبه عليها بالبطلان إذ كانت لا تضر ولا تنفع، لأن ذلك صيغة دعاء للأصنام فيكف وقد زعموا أنها تباع تارة وتبور أخرى.
{ أتتَّخذُ أصناماً آلهةً } استفهام توبيخ كيف تتخذها آلهة وهى لا تضر ولا تنفع، الصنم والوثن ما يؤخذ من ذهب أو فضة أو حديد أو حجارة أو خشب أو غير ذلك على صورة الإنسان، قال بعضهم أو غيره، فالصنم والوثن مترادفان، وقيل الوثن ما كان صورة له جثة منحوتة معمولة من حجارة أو جص أو خشب أو غيرها، من جواهر الأرض، والصنم الصورة من غير جثة، وقيل: الصنم هو المنحوت على خلقة البشر، والوثن ما كان منحوتاً على غير خلقة البشر، وقيل الصنم ما كان من حجر أو نحوه، ولا يقال وثن إلا لما كان من ذهب أو فضة أو نحاس وقيل عكسه.
{ إنَّى أراك وقَوْمك } أعلمك وقومك بما تراه عيناى { فى ضَلالٍ مُبينٍ } عن الحق لعبادتكم الأصنام التى لا تضر ولا تنفع، ولا تخلق شيئاً ولا ترزقه، والخالق الرازق النافع الضار هو الله تعالى، اعلم أنه ينبغى أن لا يجادل المقر من أهل البدع إلا بالقرآن والسنة، فيكون كمن يدعو إلى الهدى بقوله: { ائتنا } ومن ينازل بالجدل، ويلحق عليهم كان كمن بعد عن الطريق الواضح أكثر ليرد ذلك الزاد، فهو يخاف عليه أن يضل، ومن يجادل المنكر فليجادله بالمعجزات والدلائل العقلية.